ثورة حوامدة: فلسطين هي الجنة ولم تسقط تفاحتها بعد

2018-12-15 13:00:00

ثورة حوامدة: فلسطين هي الجنة ولم تسقط تفاحتها بعد

الكتابة في مراحلها الأولى، أي حين يكتشف الكاتب أنه مصاب بمرض النزف على الورق، قد يكتب من لاوعيه، يكتب ما لم يعشه، يكتب الأنا والآخر فيه، ويحاور الأغاني ويكتب عن العصافير التي ذبل صوتها. المقصود أنّ الكتابة في أول تجربة أراهن على أنها لن تكون مقصودة بما هي عليه تماماً، يمكن اعتبارها بوح الذات عن الذوات والسكن في النصّ بجسد آخر.

ثورة حوامدة كاتبة فلسطينية شابة (1990)، استطاعت رغم قصر مشوارها الأدبي أن تحصد  هذا العام إحدى جوائز "كتارا للرواية العربية" في فئة الرواية المنشورة، في دورتها الرابعة، لتكون أول أديبة فلسطينية تفوز بهذه الجائزة. "رمان" أجرت معها هذا الحوار حول روايتها الفائزة «جنّة.. لم تسقط تفاحتها» (دار الأهلية، عمّان 2017)، ولمعرفة تفاصيل رحلتها الإبداعية وهي في خطواتها الأولى في عالم الكتابة..

 

بداية حبذا لو تقدمي نفسك للقراء، وكيف كانت بدايتك الأدبية؟ ولماذا اتجهت مباشرة إلى الرواية؟

أنا من مواليد قرية السّموع الواقعة جنوب محافظة الخليل، أنهيت دراستي الثانوية في المدرسة التي تحمل اسم القرية، وانتقلت للمحافظة فيما بعد لإتمام الدراسة الجامعية تخصص "العلوم السياسية"، والآن أكمل الدراسات العليا تخصص "التراث الثقافي التقليدي" في جامعة تونس، بالجمهورية التونسية. أكتب منذ أن كان عمري 13 عاماً، والبداية شعرية بحتة، وأذكر جيداً مطلع أول قصيدة كتبتها: "أعطني حريتي/ كي أعيش/  أعطني حريتي .. تلك التي إن متُ عاشت". ولا سبب أكبر من احتلال العراق في عام 2003 ليكون محركاً كبيراً للكتابة في مراحلها الأولى ومسبباً لألم جديد، يرافقه انعدام الأفق وقتها على الساحة الفلسطينية سياسياً ووطنياً.

الاتّجاه للرواية لم يكن مخططاً له، كلّ ما أعرفه أنني واصلت كتابة الشعر مع تكثيف القراءات فترة الجامعة، وبعد ذلك وجدت أني أكتب عملاً سردياً وكانت المحصلة روايتي الأولى. الشعر كان عالمي الأول لكنني وجدت الرواية مثل بحر، تستطيع أن تسبح في أيّ اتّجاه تريده دون ضوابط شعرية أو عروضية.

لعناوين الأعمال الإبداعية، منطق خاص. لماذا اخترت «جنّة.. لم تسقط تفاحتها» اسماً لروايتك الثانية، وماهي دلالاته؟

العنوان «جنّة.. لم تسقط تفاحتها» مفتوح على التأويل بالنسبة للقارئ، وله دلالات عديدة. بالنسبة لي وجدت أنّ كلّ شخصية من شخصيات الرواية لها جنتها التي تعيش فيها وتطمح للخلود فيها، وهذه الجنة هي فلسطين. بالنسبة لرمزية "التفاحة" هنا، مرده إلى سقوط "تفاحة نيوتن"، أول سقوط حرك أذهاننا نحو الجاذبية. لو قاربنا بين كلّ ما قلته لاتضحت الصورة بأنّ فلسطين هي الجنة، ولم تسقط تفاحتها بعد، ذلك السقوط هو العقاب الحقيقي للمحتل، الذي سيخرج منها ويعاني ويلات شتاتنا على مر العصور.

عندما كتبت روايتك هذه هل كانت "الحكاية" بكامل شخصياتها وتفاصيلها حاضرة في ذهنك؟

لم تكن حاضرة تماماً، مثلاً الأسماء بقيت ولم تتغير، مضامين الشخصيات كذلك، لكن جغرافيا كلّ شخصية كانت تخلق لي عالماً جديداً، لم أكن أعرفه عن قرب كلما سرت معها في جنتها. أما مسار الرواية فقد استندت إلى هيكلية معينة خططت لها منذ البداية، لكن الشخصيات لها منطقها الخاص، وتم خلال مرحلة الكتابة إضافة الكثير من المفارقات والحيثيات، الشخصيات تفرض عالمها ولذلك تركت لها الباب مفتوحاً على أيّ إضافة.

اخترت أن تخفي صوتك في الرواية ليقوم بالمهمة رواة. ما الذي فرض هذه التقنية، وكيف تنظرين إلى موضوع التجريب في الكتابة الإبداعية؟

هذا صحيح، الرواة تحدثوا عن آمالهم وما يجول في خاطرهم وتطلعاتهم للغد، كان هذا أبلغ لما في دواخلهم، لا الراوي العليم ولا أنا يحق لنا التطفل على شخصيات تجاهر بذاكرتها الحية وتبوح بالمخفي. التجريب في الكتابة الإبداعية من منظوري الشخصي، له احتياجه وأهميته في الرواية العربية المعاصرة، وهو تيار مهم باعتباره يفتح الأفق للروائي ويطلق له العنان في تشكيل الحاضر بواقعية وحرية، ويسقط الحدود المرسومة، ويلهم في الدهشة. في الوقت الحالي يعيش كلّ فرد منّا حياته التي لها في الحقيقة تقاطعات مع حيوات أخرى، لكن لكلّ حياة وقعها وواقعها وإيقاعها، والتجريب وجد لنجد الربط بينها دون الإخلال بقواعد السرد أو الحكي.

ينتسب أبطال الرواية إلى وجدانٍ واحد، وأرضٍ موحّدة، لا تعترف بجغرافيا النكبة والنكسة. وهو ما يدعوني لسؤالك: كيف يحضر المكان في صياغة الأفكار والنصّ؟

المكان يحضر استناداً إلى المحكي عنه، قد يكون شخصاً وقد تكون ذكرى أو رحلة إلى الذات مثلاً. دون أن ننسى أنّ تشكيل الشخصيات يقع في رهانات البيئة والزمكان، أحياناً نجد فكرة مهمة لم تكن في موضعها/ مكانها الحقيقي. في روايتي الزمن امتد من النكبة إلى الوقت الحالي، والأرض ليست واحدة من منظور الأبطال، لكنهم يتشاركون الجسد الجغرافي، الذي قد تكون له حكايته. أحياناً أجد أننا نسهب كثيراً في الحديث عن البلاد لكن هل من مرّة فكرنا في أن نعرف ما هي رواية البلاد عنا؟
 


يرى نقاد أنك قدّمتِ في «جنّة.. لم تسقط تفاحتها» نصًّا مختلفًا في المضمون والرؤية الفنية والموضوعية، عن نصّك الأول «لا قمر بعيد»، الذي تناولت فيه قصة العلاقة مع الوطن والأرض ورفض الهجرة، بنفَس رومانسي ينطوي على شيء من الصوفية. هل كان هذا الفعل بقصديّة ولأسباب معينة؟

في الرواية الأولى كتبت كأي أنثى، عن الحب الذي نجد أنّ الأرض لها علاقة غير مباشرة في تشكيل نهاياته. «لا قمر بعيد» تعالج واقع الحب القروي، وهل يكون الزواج ممكناً دون الالتفات للعادات والتقاليد؟ وقد كان هذا سبباً ليكون النصّ رومانسياً جداً، لكون القصة تعالج حالة حب روحانية. في الرواية الثانية «جنّة.. لم تسقط تفاحتها»، قررت بقصد أن أكتب عملاً مختلفاً في الطرح، لأسباب تتعلق بقيمة العمل وما يضيفه للقارئ. مع تأكيدي أنّ العمل لا يعتمد على قصة فقط، بل على أسلوب ولغة ومعالجة للأحداث بدقة وخيال خصب، كان يجب أن تخرج بنفس جديد، ورؤية غير نمطية، وهذا ما لاحظه النقاد والقراء أيضاً.

أتوقف معك عند «لا قمر بعيد» (دار إبداع، القاهرة 2014)، والتي رأى الناقد والشاعر عمر شبانة، أنها "مطبوعة بروح رومانسية، ومسكونة بآلام الحب وآماله، من خلال تأمّلات رقيقة لعاشقين فرّقتهما ظروف الحياة، ثم عادت وجمعتهما في لقاء ينطوي على الكثير من المفارقات والمفاجآت..". ما الذي أملى عليك هذه الحكاية؟

الكتابة في مراحلها الأولى، أي حين يكتشف الكاتب أنه مصاب بمرض النزف على الورق، قد يكتب من لاوعيه، يكتب ما لم يعشه، يكتب الأنا والآخر فيه، ويحاور الأغاني ويكتب عن العصافير التي ذبل صوتها. المقصود أنّ الكتابة في أول تجربة أراهن على أنها لن تكون مقصودة بما هي عليه تماماً، يمكن اعتبارها بوح الذات عن الذوات والسكن في النصّ بجسد آخر.

جاء في تقديم «لا قمر بعيد»: "في الحب نعلن بداية الوجود والتواجد والتجديد. في الحب نسعى لنشقى فرحًا. في الحب نكرّس كلّ لحظة فينا لنعيشها كما هي. في الحب إن لم تكن التيارات القادمة قوية فلن نتمسك باختياراتنا. وحده الحب يجعلك تشعر بأنك ولدتَ من جديد أو متّ للأبد".. سؤالي: كيف توظفين نِعمة الحب لخدمة نصك الروائي؟

الحب نعمة فعلاً. نحن بحاجة إلى أن يكون حبنا حقيقياً للمكان الذي جئنا منه، والطريق الذي نسير فيه كلّ يوم ونحن مشغولون بالغد، وكذلك للمحيطين بنا وجب أن يكون الحب كما الزيتون معمراً وأخضر. النصّ يتشكّل بعاطفة، ويكتب بعاطفة، وينتهي بعاطفة، لا أعرف كيف يمكن أن يكتب شاعراً قصيدة دون أن يتماهى حباً وعشقاً مع الكلمة، وكذلك الروائي أو المبدع في أيّ مجال إبداعي. وأيّ عمل يكتب بحب وعاطفة صادقة يصل بحب وعاطفة مكتملة، الكلمة لها نبضها كذلك. وأحرص على أن أكتب بحب لكي لا أسقط في فخ الامتهان، لأنّ الكتابة دون عاطفة هي امتهان للكلمة، وأنا بحاجة دائمة إلى وقع كلماتي فيّ أولاً وفيمن سيقرأها يوماً.

بعد صدور روايتين لك، هل كان هناك "خطوط حمر" توقفت أمامها عند الشروع أثناء الكتابة سواء في السياسة أم الدين أم الجنس؟

في البداية كنت أظن أنّ هنالك "خطوط حمر" يجب عليّ أن لا أتجاوزها، لكنني اكتشفت لاحقاً أنني في روايتي الأولى، التي كتبتها في مطالع العشرين من عمري، كتبت عن الحب الذي يصعب البوح به هو في واقعنا القروي في فلسطين. ومرّ بي الوقت إلى الرواية الثانية، وكتبت عن شخصيات فلسطينية وأخرى يهودية وكيف لكلّ واحدة أن تحدثك عن واقعها، وهو أمر معقد جداً، ومن الصعوبة أن تحاور عدوك بالإنسانية التي يفتقدها. "الخطوط الحمر" هي مخاوفنا ويجب الوقوف بكامل قوتنا أمامها.

هل أعطى النقد تجربتك الأدبيّة حقها؟

النقد في العالم العربي اليوم بات في تراجع، وهذا لا علاقة له بعدد النقاد بل محتوى النقد ومضامينه، نحن نشتكي قلة النقاد أمام الغزارة في الكتابة والنشر، وهذا أمر غير صحي، إذ كيف يمكن معالجة المرض دون تشخيص؟ لن أقول لك إنّ النقد أعطى التجربة حقها لأنني ما زلت في بداياتي، رغم بعض القراءات النقدية والصحفية والأدبية للعملين. وهذا ليس تبريراً، لكنني أتمنى أن يكون هنالك نقداً أدبياً بناءً واهتماماً نقدياً للرقي بالنصوص الروائية والإبداعية العربية، لا أعمالي فقط.

نالت روايتك «جنّة.. لم تسقط تفاحتها» هذا العام، واحدةً من جوائز "كتارا" الخمس للرواية العربية المنشورة. كيف ترين الجوائز الأدبيّة بصورة عامة، "البوكر" "كتارا" وغيرهما؟ هل تعطى على أسس ومقاييس حيادية سليمة؟ ومن ثمّ ما الذي أضافته الجائزة لك؟

الجوائز العربية مهمة في وقتنا الحالي، خاصّة أنّ الصحافة والإعلام بات يشتغل على من هم تحت الأضواء، وهذا أمر طبيعي. بالنسبة للجوائز في قيمتها الأدبية فهي تقدّم الكاتب إلى معشر الكتّاب أولاً، وفيما بعد إلى القراء. هل تصدق إن قلت لك أنّ الروائيين هم من يهتمون بمعرفة الروائي الذي فاز قبل أن يهتم به القارئ. بالنسبة للجوائز العربية، المعروف عنها أنها تقيّم الأعمال من خلال لجنة نقدية، وهذا سبب من الأسباب الذي دفعتني للتقديم.

قد يشكك البعض في مصداقية اللجان التي تختار الأعمال ولكنني تفاجأت بفوزي كما تفاجأ به الكثيرون، ليس لأنّ عملي لا يستحق فأنا أثمّن ما أكتب، بل لأنني اعتدت سماع أنّ الأسماء الكبيرة واللامعة هي التي تفوز، وحينما فزت كان هذا شهادة لي بأنّ الجائزة لا تقيّم أسماء بل أعمالاً. ما عرفته بعد فوزي أنّ هنالك خمس لجان فرز للأعمال في جائزة "كتارا"، كلّ لجنة لها مرحلتها، تقرأ وتمرر الأعمال التي اتفقت اللجنة عليها إلى اللجنة التالية، وينتهي دور اللجنة بانتهاء المرحلة نفسها لترسل الأعمال إلى لجنة أخرى. سعدت كثيراً بهذا الفوز لأنني ما زلت في بداياتي والرواية الفائزة هي عملي الثاني، وكلّ ما يهمني هنا أنّ الجائزة قدّمت العمل إلى القارئ دون أن أفكر في كيفية الوصول إليه.

هل هناك مشروع روائي قادم؟

بكلّ تأكيد؛ لا يمكن لمدمن الحرف أن يشفى منه، الحرف له نبضه، هناك عمل روائي جديد أعمل عليه منذ عام، سيكون أكثر خصوصية من «جنّة.. لم تسقط تفاحتها»، في الجغرافيا والموضوع. لكن ما زال الوقت باكراً على نشره أو الحديث عن الانتهاء منه.

كلمة أخيرة...

ممتنة لهذا الحوار ومحبتي لكم ولموقع مجلة "رمّان الثقافية"، على هذا المدى الرحب، ومستمتعة جداً بأنني أشارككم بوحاً قد يكون عابراً لكنه صادق.