«في صحبة العربية» لأحمد بيضون... مقاربات لغوية مضيئة

2019-08-29 01:00:00

«في صحبة العربية» لأحمد بيضون... مقاربات لغوية مضيئة

يحين الحديث في الفصل الخامس عمّا أسماه بيضون بـ"السلطة اللغوية"، ويضرب مثلاً عجيبًا، عندما طلب مجمع اللغة العربية بالقاهرة (تأسس عام ١٩٣٢) من السلطات التشريعية في مصر، أن تسن قانونًا يجرّم استخدام العامية في الصحافة ووسائط الإعلام والإعلان وحتى ترجمة المسلسلات التلفزيونية!

لم يحسب اللبناني أحمد بيضون (1943) نفسه يومًا ضمن زمرة اللغويين، ومال طوال الوقت للوقوف على التخوم بين مباحث عدّة، فهو دارس الفلسفة، ومدرس علم الاجتماع، والشاعر، والمشتغل بالنقد التاريخي، والسياسي الاشتراكي المتقاعد قبل كل هذا وذاك. بتواضع تجاهل بيضون نتاجه في اللغة واللسانيات عبر مشوار طويل بين تلك المعارف والآداب، إذ أن كتابه "في صحبة العربية.. منافذ إلى لغة وأساليب"، هو مجموع ما خطه في هذا الميدان، وهو جهد ليس بالقليل، وقد جمعه الكاتب بمناسبة تكريمه في 2017 من قبل "جمعية السبيل" المتخصصة في إنشاء المكتبات العامة وإدارتها، بالتزامن مع اليوم العالمي للغة العربية الموافق ١٨ كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٩. وصدرت طبعته الأولى عن "دار الجديد" في بيروت.

عندما حاول بيضون أن يجد لنفسه (تصنيفة) اختار "الأدب" بمعناه التراثي القديم، أي الكاتب المنتج الشامل، قبل أن تفصل التخصصات المعاصرة العميقة بين الناقد والمفكر والأديب القابع داخل كل كاتب. لذلك جاء "في صحبة العربية" بصيغة تجافي صلابة وجفاف الأكاديمي، هي "هموم لغوية" أو مشاغل لغوية إن صحت التسمية، إلا أنها ليست بحتة، فهناك دوماً بعد أكبر من اللغة، بعد يتلمس زوايا تفاعل تلك اللغة تحت وطأة السياسي والإقليمي والعالمي عبر سنوات وأزمنة لتنتج معادلات لغوية اجتماعية، آخذة في التغير.

افتتح بيضون فصول كتابه باللسانيات العامة، واضعًا نصب عينيه دحض مبدأ اللغوي السويسري فرديناند دي سوسير (١٨٥٧-١٩١٣) حول "استبعاد دور المدلول في تعيين الدال"، مستشهدًا بالمثل المعروف عن عدم وجود أي تشابه بين لفظة "بقرة" والصورة الذهنية التي تستدعيها المفردة لهذا المخلوق. الفصل الأول من "في صحبة العربية" هو أكثر الفصول التي تناقش مسألة لغوية مجرّدة، ذهنية.

"العربية والحضارة العصرية" عنوان المحور الثاني للكتاب، وفيها تفكيك لسجال دوغمائي معروف بين كل الناطقين بالعربية حول قدرة اللغة على استيعاب معطيات العصر، وتوفرها على مرونة كافية لمواكبته، مقابل جمودها وتحجّرها – بفعل النصوص المقدسة وغيرها من السياقات – وتكلّسها غير قابلة لضخ الجديد. ويفتح ذلك أبوابًا كثيرة للحديث في فكرة أن جوهر العربية مبنيٌ على الاشتقاق، وهذا يقودنا إلى النحت، والتعريب. غير أن بيضون يستخف بالجدلية الدوغمائية عندما يقول: "في يقيني أن العالم أو العصر هو المشكل الذي تتعين علينا مجابهته، وأما اللغة فيسهل عليها أن تجارينا في هذه المجابهة، فلاحًا أو إخفاقًا، وذاك أننا بتنا نعيش في عالم مصنوع وأننا قلما صنعنا منه شيئًا (...) الذين يصنعون هذا العالم وما يتقصّى أشياءه وبناه من معارف يتولون بلا مزاحمة تذكر تسمية تلك الأشياء". منحازاً لفرضية أن مأزق العربية حضاري متعلق بأهلها أكثر من تعلقه بالإمكانات المدمجة أساسًا في بنية وجوهر اللغة ومدى إمكانية تفعيل تلك الإمكانات.

في الفصل الثالث، يحفر أحمد بيضون في السجال والمبارزة العتيقة بين الفصحى والعامية، راصدًا المناطق التي راحت الفصحى تتنازل عنها تدريجيًا لحساب العامية، بداية من المسرح، ثم أهل الغناء، ومنهما إلى أهل الأدب، حتى وصلت مناطق الجلاء إلى قنوات رسمية احتكرتها الفصحى تاريخيًا، مثل الوعظ الديني، والخطابة، والتعليم، ويشير بيضون بوضوح إلى الدور المتعاظم لـ "شبكات التواصل الاجتماعي ومن قبلها البريد الإلكتروني" في إخلاء مساحات كبيرة للهجات العربية العامية والدارجة لتستوطن في مساحات لطالما كانت من نصيب الفصحى. وبواقعية ودون انفصال في أبراج عاجية يدعو المؤلف إلى دراسة وبحث العاميات بوصفها مستويات متعددة متفرعة عن أصل واحد هو الفصحى كما نعرفها وكما تعلمناها. مع الأخذ في الاعتبار الطرح القائل بترقية كل لهجة لتصبح "فصحى أهلها".

وعودٌ على بدء، إلى علوم اللغة البحتة، يتناول بيضون في المحور الرابع الضرر الذي لحق باللغة العربية جراء غياب علامات التشكيل "الحركات" أو الصوائت القصيرة، محللًا العوامل التي أدت إلى اندثار الحركات، وعلى رأسها حساب العنصر المادي التجاري لدى دور النشر، ويضرب بيضون مثلاً يتطلب مقارنة العربية بالفرنسية، حيث تتحول قراءة نص فرنسي جُرّد من الصوائت واقتصر على الصوامت إلى نكتة أو تمرين هزلي كما كتب المؤلف. وفي حالة العربية، صحيح أن السياق يكون منجاة في العادة، إلا أن بيضون يرى أن الخطأ وارد بالخلط بين قِدْر وقَدْر وقَدَر في لغة انبنت أساسًا باعتماد مبدأ الاشتقاق.

يحين الحديث في الفصل الخامس عمّا أسماه بيضون بـ"السلطة اللغوية"، ويضرب مثلاً عجيبًا، عندما طلب مجمع اللغة العربية بالقاهرة (تأسس عام ١٩٣٢) من السلطات التشريعية في مصر، أن تسن قانونًا يجرّم استخدام العامية في الصحافة ووسائط الإعلام والإعلان وحتى ترجمة المسلسلات التلفزيونية! وصف بيضون المسألة بـ"الهزل الذي تقع فيه مؤسسة معروفة بالتجهم عادةً". وأعلن انحيازه للتصحيح بالاقتراح لا الفرض.

كان سؤال "الأسلوب" أحد انشغالات بيضون عبر مسيرته الطويلة، و"في صحبة العربية"، وأفرد فصلًا شيّقًا عن الأسلوب، ولا عجب أن يرد الفصل في صدارة الكتاب عبر عنوانه الفرعي "منافذ إلى لغة وأساليب"، وفي هذا الفصل يتناول المؤلف بالتحليل والتشريح والتفكيك أسلوبي غسان تويني (١٩٢٦ – ٢٠١٢)، وأغاني زياد الرحباني (١٩٥٦ - ). ومنها كتب عن أسلوب الرحباني وبصماته الشعرية: "تكرار أفعال القول من قبيل: "قال" و "حكى" و "خبّر" وهذه أفعال لا تقل نقصًا عن سابقتها. هي متعدية تحتاج إلى مفعول. ولكن قد يكون المفعول الذي تحتاج إليه مفعولًا لا كالمفاعيل. فأنت إذا قلت: "أَكَل حَسَن" كَفَاك أن تُضيف التفاحة إلى الجملة ليتم المعنى وإن لم يشبع حسن. وأمّا إذا قلت: "قال حسن" فستجد نفسك، على الفور، تحت رحمة حسن الذي يُمكن أن يحتاج إلى يومين ليقول ما عنده. لذا صح أن نَعتبر أفعال القول، بِحَد ذاتها، بين أفقر أفعال اللغة مدلولًا. فيتنوع مدلولها ويتشعب، بحسب المفاعيل، إلى ما لا نهاية. وقد يكون مفعول فعل القول، عند زياد، ظاهرًا ومحصورًا: "اشتقتلك" أو "اشتقتلي" مثلًا. فيتكرر في جُمل من قبيل: "اشتقتلك، اشتقتلي... بعرف مش رح بتقلي"، و"طيب مش قصة ما تقلي" و"طيب أنا عم قلك". وقد يبقى المفعول مُقَدّرًا وعامًا، من قبيل "بتحكي وبتصير ما بتسمع". وفي الحالتين (وفي حالة الأفعال الناقصة أيضاً)، نجدنا أمام نزاع أو خيبة أو غضب أو يأس ضَمَرت مَلكة التعبير عنها إلى أدنى حدودها واقتصر زادها على المُدقع من الألفاظ. ويتكرر فعل "فَهِمَ" أيضاً مع أفعال القول ولكن ليُعلن أن القول لا يُصادف فَهمًا وأن هذا الأمر إنما هو صورة النِزاع والخيبة وما إليهما، أو هو أول ملامح الصورة على الأقل. تبقى الجُمل مفتوحة، طبعًا، أمام مُخيلة السامع، فَيَسعه أن يُودِع في "مش كاين هيك تكون" أو في "ما بعرف شو صايرلك" حكايات وروايات، ويسعه أن يُودِع مثل ذلك في "بعرف مش رَح بتقلي"، وحتى في "قال عم بيقولو صار عندك ولاد". وذاك أن القراءة في الغيوم ممكنة لمن شاء. وأما فضل الغيوم في إمكانها فيبقى محل نقاش.