قد يكون من بين الأقوى على طول هذه الدورة من مهرجان برلين السينمائي، في مسابقته الرسمية، يساعد في ذلك أيضاً أن لا أفلام قوية حتى الآن، بمعنى أن أحدها متكامل بوصفه فيلماً بجوانب فنية مختلفة يمكن أن ينافس، من خلال تكامله، على أهم جوائز المهرجان.
“يموت” (Dying) للألماني ماتياس غلاسنر الذي لم يحقق حتى فيلمه هذا، ما أمكن أن يرفع من التوقعات للفيلم أو يستبقها، لكنه، الفيلم، قد يكون بداية لنقلة في مسيرة مخرج هذا العمل وكاتبه.
من خلال فصول يحكي كل منها عن شخصية، قبل أن تربط الفصول النهائية بين ما سبقها من خلال “الحب” و”الحياة”، في تقابل مع العنوان الكبير للفيلم، “يموت”، وهو اسم لمقطوعة موسيقية هي الخيط الرفيع الذي تجتمع الأحداث حوله.
توم، قائد أوركسترا، والده يعاني من أمراض في شيخوخته فتعتني به والدته، هو بالكاد يزورهما. شريكته تنجب ولداً من حبيبها السابق. يشتغل على أداء مقطوعة من تأليف صديقه. حياته مجتزأة كمكوّناتها هذه. أمه تخبره أنها أوقعته أو أسقطته طفلاً، لا تذكر، لكنها كرهته طويلاً. شقيقته تفسد له الحفلة الأولى التي حضّر لها كثيراً. صديقه الوحيد يطلب مساعدته في الانتحار. زوجته تقول له، أمام صديقها السابق، أنه ليس أقرب إلى طفلها من الأب البيولوجي. يخون شريكته مع زميلته في العمل.
حياته عبارة عن تداعيات، أو أشياء تموت بالتتابع، ضربات متتالية تنزل على رأسه قبل أن يصل إلى فصلَي “الحب” و”الحياة”. الفيلم ممتلئ بالموت المادي والمعنوي وبالتصادفات الخائبة والبائسة، وهو بالكاد يستدركها.
الفيلم أقرب إلى قطعة موسيقية في أجزائه، تمهيد فنغمات متتالية تتصاعد، تهدأ أحياناً، إلى أن تخفت نهايةً، للفيلم بذلك اسمه القطعة التي يعمل عليها. هو كذلك قريب إلى الأدب في تقديمه للقصة وشخصياتها، لكل فصل عنوان باسم شخصية، أولها أمه ثم هو ثم أخته. كل فصل يعيد الأحداث من جانب شخصيته، من ناحية الأم أولاً، ثم تالياً من ناحيته، كأننا في المقطوعة نستمع إلى اللازمة الموسيقية من أداة أولاً فلتكن التشيلّو، ثم ذاتها بصوت ليكن للكمنجة.
الفيلم عمل سينمائي لا يخلو من جماليات موسيقية وأدبية. الموسيقى بانت في القصة وإيقاعها، والأدب في الشخصيات وتقديمها ثم تقاطعاتها. ثلاث ساعات مرت استطاع الفيلم خلالها، لتمكنّه من السرد، الإمساك بكل دقيقة فيه. ليكون أخيراً عملاً محكماً، ابتعد واقترب في أحداثه من دون إرخاء يفلت فيه الفيلم من مُشاهده.