منذ أن فقد بيته ومرسمه في مدينة غزة في تشرين الأول/أكتوبر بدأ ميسرة بارود بتدوين يومياته في الحرب باستخدام ما وصلت له يديه من أوراق وأقلام حبر. لم يتوقف يوماً عن الرسم، منذ أن فقد “عالمه الصغير الخاص” والدمار الذي طال بيته ومرسمه وفقدانه جميع لوحاته وأدواته وكتبه بما حملت من “حياة وروح ذكريات”. وثق حياة النزوح واللجوء وتنقله المستمر من مكان إلى آخر تحت القصف الوحشي والخوف من الفقدان والقلق من عدم القدرة على حماية الأحبة تحت سطوح الأسمنت الهشة. يقول بارود: “أرسم لأخبر الأصدقاء أنني لا زلت حياً”.
نشر بارود مدوناته بالأبيض والأسود أولاً بأول على صفحاته على وسائل التواصل الاجتماعي، لتصبح بمجموعها منذ بداية الحرب بمثابة معرضاً توثيقياً احتجاجياً مستمراً بسقف زمني مفتوح. ونظراً لاستحالة نقل أعماله للعرض في الشق الثاني من الوطن المحتل، عمل غاليري زاوية جنباً إلى جنب الفنان محمد سباعنة وفنانين آخرين للتغلب على هذه المعضلة وكسر الحواجز والحدود. فتعاونوا على نقل أعمال بارود وذلك برسمها مباشرة على الجدران، وكأنهم أداة لتحقيق معرض مستحيل، لفنان غزي يعيش الحرب منذ ستة أشهر بتفاصيلها المرعبة.
تستحوذ على بارود ثنائية الأسود والأبيض ويحاول تشكيل معاناة الإنسان الغزي المستهدف بحرب إبادية في أعمال تمثل صرخة إنسانية، يشوبها الحزن والأسى والقلق والضعف والأمل والسعي نحو الحرية. يقول بارود: “حرصت منذ بداية الحرب على غزة … [أن أوثق] بعيني وريشتي الحرب بكل تفاصيلها، وكانت رسوماتي رسالة مني للأصدقاء أخبرهم فيها انني لا زلت حياً.” ويضيف “دوّنت من خلال يومياتي قصص الدمار والفقد والموت والضعف والنزوح والجوع والألم والصبر والصمود والانكسار… لقد دمر الاحتلال كل ما هو جميل في مدينتي الصغيرة لتصبح الأشياء عالقة في ذاكرة مشوهة تحت الركام. وأصبحت كغيري نازحاً من مدينة غزة إلى أقصى جنوبها للمرة العاشرة متنقلاً بين فضاءات المدينة الضيقة في محاولة للنجاة من المقتلة باحثاً عن الأمان المفقود وهرباً من الإبادة”.
عمل الفنانان بارود وسباعنة على اختيار الأعمال وتقنيات نقلها إلى الغاليري. سباعنة الذي سبق وأن عمل مع بارود في مشاريع فنية أخرى، انخرط في هذا المشروع في محاولة لكسر الحصار والمساهمة في تنفيذ معرض فنان غزي في رام الله في هذا الوقت الحرج من حرب إبادة يتعرض لها الفلسطينيون. وقد انضم اليه الفنان فؤاد اليماني وآخرون منهم رهف نتشة وسلسبيلا عنبتاوي ودانيا العمري في تظاهرة نواتها التعاون على إعلاء صوت غزة. يقول سباعنة “قد تكون لتجربتي السابقة بالرسم داخل السجن علاقة بما يقوم به ميسرة. فقد كانت اللوحة بالنسبة لي مساحة للخروج خارج اسوار السجن، والمرور في رحلة انتاج الأعمال والتفكير بكيفية تهريبها مع اسير آخر خارج السجن، وهي تفاصيل أَهزم بممارستها السجان.” ويضيف “ليكون إعلان ميسرة انه ما زال حيا إعلاناً، أننا جميعاً مازلنا أحياء. حتى لا نكون على الحياد في هذه الملحمة الأسطورية، وفي محاولات استهداف الفلسطيني وإبادته جسداً وروحاً. رسمت ورسمنا لوحات ميسرة في رام الله متخذين دور سجين يهرِّب لوحات سجين آخر. وفي رغبة منا جميعاً ان نكون أحياء لا أمواتاً على الحياد”.
يُفتتح المعرض في ١٨ نيسان/ابريل و يستمر إلى ٢٣ حزيران/يونيو قبل أن تمحى الأعمال كاملة عن الجدران تأكيدا على مؤقتية الأعمال ومؤقتية محنة الحرب وأن كابوس الاحتلال سينتهي فـ”دوام الحال من المُحال”.
المعرض وفاء لـ بارود وللفلسطينيين في قطاع غزة، وإجلالاً لما مروا ويمرون به في هذه الحرب الإبادية الدموية.