«من النهر إلى البحر» لسامر أبو هواش: شعر ضد الإبادة

HOSNI RADWAN, SACRED HOMES NO.1 (2024), Acrylic on canvas, 92 X 100 cm

عماد الدين موسى

كاتب من سوريا

من الناحية الأسلوبيّة، نجد لدى الشاعر سامر أبو هواش شغفاً جليّاً بالعناوين، كونها "مصابيح تقود القارئ إلى كنوز النص"، وكذلك "ممرات يدلف منها النص إلى العالم"، حيثُ يمنحها أولوية اهتماماته، يتجلّى ذلك منذ إصداره الأوّل

للكاتب/ة

إعادة أحياء قصيدة الشاعر الراحل محمود درويش في المقطع السابق ليس من قبيل الصدفة، إنما تأكيد لذلك التفاؤل الثوري الذي طالما دعا إليه درويش وغيره من شعراء فلسطين بُعيد كل نكسة أو حرب.

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

12/12/2024

تصوير: اسماء الغول

عماد الدين موسى

كاتب من سوريا

عماد الدين موسى

قد يبدو "الشِعر" هشّاً أمام آلة الحرب القاتلة، لكنّه يبقى "الفنّ" الأكثر قدرةً على التعبير في مواجهة الخراب الهائل، سواء الروحي منه أو الماديّ أيضاً، طالما أنّه يُعدّ أحد أبرز الأسلحة الناعمة في الحياة/ حياتنا، للمقاومة والدفاع عن الوجود الإنسانيّ على هذه الأرض.

في كتابهِ الشِعريّ الأحدث "من النهر إلى البحر"، الصادر مؤخراً عن منشورات المتوسط في ميلانو 2024، يعمل الشاعر الفلسطيني سامر أبو هواش على تدوين الإبادة بحذافيرها، تحديداً في فلسطين، بدءاً من الإبادة الوحشيّة للبشر، مروراً بإبادة الماء والهواء، وصولاً إلى إبادة الشجر والحجر؛ ثمّة دمٌ كثير يسيلُ بين جنبات الكتاب وعلى طول الصفحات، حيثُ يقول: "أيُّها الآتي مِن بعيد/ يا مَنْ تقفُ على أعتابِ تلك النِّهايات/ يا مَنْ تملأُ أنفَهُ روائحُ مُرعبة/ مَجهولة/ في الهواء/ يا مَنْ تطأُ قَدَمَاه/ هذه الأرضَ الخراب/ تَمَهَّلْ قليلاً/ ثمَّةَ طفلة/ يدُها ممدودةٌ/ مِن بينِ الشُّقُوق/ وقلبُها يرتعشُ/ تحتَ التُّراب". 

الجانب التصويّري في المقطع السابق، جعل من "النص" لوحةً جدارية غايةً في الإدهاش، وهو ما ينسحب على معظم قصائد الكتاب، الواقع في 96 صفحة من القطع المتوسط.

حب من طرف واحد

يكتب سامر أبو هواش بمنتهى الشفافية والوضوح، يكتب عن "الأنقاض" و"نظراتُ أطفالِنا بينَ الخرائبِ" و"عن قاتلٍ لا أريدُ ذِكْرَ اسمِهِ"، يكتب دونما توقف، وما يكتبه لا يمكن تصنيفه ضمن ما يسمّى بأدب الحرب، بل هو أدب الحياة، فكتابته تنبضّ بقوّةٍ وعزيمةٍ لا مثيل لهما وحبلى بالأمل والتفاؤل، عدا عن شحنها بتلك السخرية والتهكم من معطيات الواقع المرير والذي عهدناه في معظم إصداراته السابقة، يقول: "لم يعد مهماً أن يحبّنا أحدٌ/ في هذا العالم/ "يبدو، على أي حال، أنه كان حباً من طرف واحد"/ يقول شيوخنا المتعبون من فكرة الأرض/ ويقف شاعرنا في الأفق البعيد/ ويهتف: "أنقذونا من هذا الحب القاسي"/ ثم يهمس معتذراً عن تفاؤل صبياني عابر:/ ليس على هذه الأرض/ ما يستحق الحياة".

إعادة أحياء قصيدة الشاعر الراحل محمود درويش في المقطع السابق ليس من قبيل الصدفة، إنما تأكيد لذلك التفاؤل الثوري الذي طالما دعا إليه درويش وغيره من شعراء فلسطين بُعيد كل نكسة أو حرب.

معجم الحرب

لسامر أبو هواش مجموعة من المؤلفات في كل من الرواية والشعر والترجمة. نذكر منها: "سوف أقتلك أيها الموت"، "سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر"، "السعادة أو سلسلة انفجارات هزت العاصمة"، "ليس هكذا تصنع البيتزا". تذخر قصيدته في كتابه الأخير بمفردات تخصّ الحرب وحدها؛ ثمّة معجم مُغاير يؤسس له وتتأسس عليه حساسية شِعريّة جديدة، تضيفُ إلى المنجر الشِعريّ دون أن تكون تكراراً مملاً؛ "القاتل"، "المَجزَرةُ"، "جثث صغيرة"، "الموت"، "الكوابيس"، "الإبادة"، "سنَدفِنُ كلَّ شيءٍ"، "هذهِ الأشلاءِ"، "أَوْحالُ المذابحِ"، "الجريمة الكاملة"، "الدماء المسفوكة"، "سماء ممزقة"، "رصاصة"، "دبّابة"، "هذا العالم مسلخ آخر"، "حتَّى تنتهيَ الحربُ"، "الغرق في جثّة".. وغيرها الكثير من العبارات التي تنتمي إلى هذا الاتجاه وخصوصيّة توظيفها في سياقها الجمالي المرجو. في قصيدة (جُثثٌ صغيرةٌ) يقول الشاعر: "حياةٌ حقيقيَّةٌ تحدثُ؛ في المُدُنِ، في الأسواقِ، على أرصفةٍ مُشذَّبةٍ، في جادَّاتٍ أُعِدَّتْ للسَّائحينَ. جُثثٌ صغيرةٌ تخترقُ حُشُوداً غيرَ مرئيَّة. جُثثٌ صغيرةٌ تتشبَّثُ بأيدي بعضِها لئلَّا تضيعَ. جُثثٌ صغيرةٌ لا تنامُ. تُواصِلُ الزَّحفَ في المُدُنِ، بين القارَّاتِ، عبرَ الغاباتِ، وكلَّما وُلِدَتْ جُثَّةٌ جديدةٌ، تجدُ يداً صغيرةً ممدودةً تقودُها بعينَيْن مغمضتَيْن".

ما نجده من لغةٍ سرديةٍ هادئة وسلسة في المقطع السابق، يزيدنا إصراراً وعزيمة على التمسّك بالحياة وحقنا في هذه الحياة، على الرغم من كل ذلك الألم المُحدّق بنا ومن كل الاتجاهات.

مشاهد الإبادة

الثأر من البلاغة، على حدّ تعبير الشاعر نوري الجراح، هو ما تصبو إليها قصيدة سامر أبو هواش، وهو ما نجده في قصيدة (جالساً أمام التلفزيون أشاهد الإبادة) على سبيل المثال لا الحصر، حيثُ التداخل اللغوي وكذلك التكثيف العشوائي للصور الشِعريّة عدا عن تلك الجُمل المبتورة حيناً والطويلة أكثر مما ينبغي حيناً آخر، ما يجعل القصيدة مؤلمة وصادمة في الآنِ معاً، حيثُ يقول: "أردتُ أن أقولَ الغرق في جثّة في فكرة جثّة والقيامة الآن على مسافة نظرة متّصلة ذاهلة جامدة والرّسل أطفال الكذبة المطلقة وها قد تيبّس كلّ شيء والنبتة لا تجد نظرة حانية وفي الفكّ شفرات معدنية تطحن الأمل تعجن الابتسامات وأردت أن أقول".

ما نجده في المقطع السابق من تجريدٍ بلاغيّ يكاد أن يكونَ عنيفاً نوعاً ما، وهو أشبه بالرد المباشر أو غير المباشر على حالة الحرب ومشاهدها القاتلة التي تسيطر على الشاشات عبر معظم القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي.

قصيدة المحتوى

من الناحية الأسلوبيّة، نجد لدى الشاعر سامر أبو هواش شغفاً جليّاً بالعناوين، كونها "مصابيح تقود القارئ إلى كنوز النص"، وكذلك "ممرات يدلف منها النص إلى العالم"، حيثُ يمنحها أولوية اهتماماته، يتجلّى ذلك منذ إصداره الأوّل "الحياة تطبع في نيويورك" (1996)، مروراً بـ"راديو جاز برلين" (2004) و"سوف أقتلك أيها الموت" (2011) و"سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر" (2015) و"ليس هكذا تصنع البيتزا" (2017) و"أطلال" (2020)، وصولاً إلى إصداره الأخير "من النهر إلى البحر"، والذي جاء في ذات السياق الجماليّ، بالإضافة إلى القصائد نفسها، والتي تأخذ عناويناً لافتةً وغير مطروقة من قبل، حيثُ نقرأ منها- على سبيل المثال لا الحصر- : "الموتُ في كوابيسِهِ الأخيرةِ"، "شجرةُ الأقفالِ"، "الأنقاضُ"، "خُروج صامت"، "فَردة حذاء ضائعة"، "امرأة تحت مُلَاءَة"، و"حتّى تنتهي الحرب".

الملاحظ هنا أنّ كل عنوان هي قصيدة بحد ذاتها، ولعل "الفهرس" أجمل قصائد الكتاب.

تقنيّات النثر

من جهةٍ أخرى، يوظّف سامر أبو هواش تقنيّات عديدة تخصّ قصيدة النثر داخل نصّه، إذ نجد تقنيّة التكرار، وتحديداً في القصائد التالية (الضباع) و(الصَّيدُ العظيمُ) و(جالساً أمام التلفزيون أشاهد الإبادة)، حيثُ تعتمد هذه التقنية على تكرار كلمة ما في بداية كل جملة، أو تكرار جزء من جملة أو جملة كاملة في بداية كل مقطع، بالإضافة إلى تقنيّات أخرى من مثل تقنيّة البتر وإن بشكل أقلّ، وهو ما يضيف المزيد من السلاسة والغنائيّة إلى أجواء الكتاب.

هوامش

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع