ربعي المدهون: طالبت بعدم إسقاط المواقف السياسية على النص الأدبي

مروة نور

كاتبة من العراق

ما قلته ببساطة: يُقرأ العمل الروائي بأدوات فنيّة، ويحاكم بمعايير نقدية. بمعنى آخر، طالبتُ بعدم إسقاط المواقف السياسية على النص الأدبي، أو تحميله ما لا يحتمل. بل اعتماد القيم الفنيّة والجمالية أساسًا للحكم عليه، ومن ثمّ الاتفاق أو الاختلاف مع جوانبه السياسية.

للكاتب/ة

أتمنى أن أتبع خطى بطلتي إيفانا أردكيان، التي عادت حفنة من رماد إلى مسقط رأسها في عكا القديمة. أعود بدوري إلى مسقط رأسي في المجدل عسقلان. فثمة أرض باقية، وبحر وفضاء يستوعب النهاية التي أحلم بها، حيث يصبح المتخيّل حقيقة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

09/01/2025

تصوير: اسماء الغول

مروة نور

كاتبة من العراق

مروة نور

ينتمي رَبعي المدهون -الذي أتعبه نطق اسمه وحيّر من خاطبوه ومن نادوه بـ: رُبعي، أو رابع، أو ربحي، أو ربيع وغيرها- في حياته الشخصية إلى كل ما هو إنساني، وإلى كل الأجيال وتعدّد ميولها وثقافاتها. وفي حياته الإبداعية، قد يكون مرّ بخليط من ثقافات وإبداعات خرج منها بنمطه الخاص وأسلوبه السردي المختلف. 

وُلد الكاتب الفلسطيني ربعي المدهون في مدينة المجدل عسقلان سنة 1945، وهُجر مع عائلته خلال نكبة 1948، ليعيش طفولته وصباه وبعض شبابه في مخيم خان يونس للّاجئين، في قطاع غزّة. وهناك يشهد بعيني ابن الحادية عشرة أول مجزرة دامية في حياته، وما زالت تتوالد مجازر حتى اليوم. 

عاش المدهون متنقلًا بين المنافي والمهاجر والشعوب، وأنماط الحياة المختلفة والمتعدّدة. أحب الموسيقى، عشق آلة المندولين الصغيرة، ولم يحترف العزف عليها، قبل أن يغريه الجيتار ويستوعبه هاويًا أيضًا. أحب الوطن وهُجّر منه، لتتلقفه العديد من البلاد التي روّض فيها غربته، وجعلها وطنًا مؤقّتًا في غياب الوطن الحقيقي. عمل صحافيًا وباحثًا وكاتبًا ما يزيد على أربعين عامًا، في وسائل إعلام مختلفة. كتب القصّة القصيرة وهجرها، والسيرة والرواية، وأخذته روايته "السيدة من تل أبيب" إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية)، قبل أن يفوز بالجائزة نفسها بروايته "مصائر كونشرتو الهولوكوست والنكبة" (2016)، ويعود ويعلن تخليه عن الرواية في سنوات لاحقة.

 

عرفت اليتم وغياب الأب في الصغر، جربت الطرد والإبعاد من أجمل المدن التي عشقت، والاحتجاز والتحقيق، كما قلت غير مرّة. لكننا لم نعرف عن ربعي في داخله؛ فمن أنت في بيتك ومع عائلتك مثلًا، أو في المقهى، والأهم، من أنت في داخلك؟

في داخلي، رَبَعي صغير، طفل تربّى وكبر في مخيّم خان يونس، اعتاد صبية الحارة على مناداته "رِبْعي". واختار معلّموه في مدارس "الأونروا" أسماء له كبرت معه، وأضيف لها أخرى. صرتُ على ألسنة الآخرين: رُبَعي، ورِبحي، وربيع، ورُبيّع، ورابع، ورابعي، ورَبهي، كما في جواز سفري البريطاني. تقبّلت أسماء أطلقت عليّ، كما تقبّلت تجزئة حياتي وتوزيعها على المنافي، بطريقة غير عادلة (المجدل عسقلان، خان يونس في قطاع غزة، القاهرة والإسكندرية المصريّتان، عمّان الأردنيّة، ودمشق السوريّة، بغداد العراقية، وبيروت اللبنانية، موسكو الروسية السوفياتية، ونيقوسيا القبرصية، ولندن البريطانية، وكساريس الإسبانية). روّضتُ كل المدن لكي أعيش حياة "طبيعية" تليق بالزوجة، والأبناء، والأصدقاء، وزملاء العمل (قبل التقاعد وبعده)، والجيران، والشارع، وأستطيع تحمّل تقلّباتها. رجل محبٌّ لزوجته ولأصدقائه الذين يخضعون لمعايير صارمة، تقرّبهم أو تخرجهم من دائرته، الضيّقة أصلًا. في مزاجي العام وما عشقت وأحببت انتميت إلى جيلي، جيل الستينيات: البيتلز، وعبد الحليم حافظ، والثورات الطلابية، واليسار اللينيني، وعبد الناصر الذي انقلب عليّ سياسيًا وانقلبت عليه. طردته من حياتي الفكرية والأيديولوجية، فطردني "الزعيم الخالد" من بلاده سنة 1970. في الأدب والفن، انتميت إلى كل الأجيال، وكل إبداع إنساني. أحببت كثيرًا الموسيقى الكلاسيكية والباليه والأوبرا. تعلّمت العزف على آلة المندولين الوتريّة الصغيرة، وهجرتها إلى الجيتار، ولم أحترف العزف عليه. علّمتني المنافي التي شكّلتني كيف أصنع منها أوطانًا مؤقتة، لها كل ملامح الإنسانيّة وسماتها، وقلب فلسطيني يحفظ لروحها البقاء. تريحني صورتي هذه. وإن شعرت بي، أحيانًا، نبتة في أوطان الآخرين، لا أكفّ عن البحث عنّي في البدايات.

لا مقاهي في حياتي، فأنا عابر في المدن، والمقاهي مستقرّة. أنا رجل "بيتوتي"، لا أغادر البيت كثيرًا، ففيه عائلتي، وحديقتي، وركني الذي يشبه المقهى، وفيه مكتبة يُعاد تشكيلها باستمرار، وكومة من النوَت الموسيقية. أشارك في الأعمال المنزلية والتسوق، والطبخ أحيانًا. لي قائمة طعام لا تدخل فيها اللحوم الحمراء، وتسبح في بحرها الأسماك، وتنمو على حوافها الأعشاب والخضروات والفواكه. يزيّنها زيت الزيتون الفلسطيني، ويزورها الزعتر الذي أُحضره عادة من فلسطين. أعيش منذ عام 2018 سنوات تقاعدي في مجمع سكني، يضم عددًا من الجيران: الألمان، والبلجيك، وإيطالي واحد، وأميركي، وبريطاني، وجنوب أفريقي، نعيش بمحبة واحترام، في منطقة هادئة، لا عواصف من أي نوع فيها.

عُدتَ إلى فلسطين لتفاجأ بأنها ما عادت تشبه ما في الذاكرة. كيف أثر هذا في كتاباتك عنها؟ وهل تتأثر الكتابة عن البلاد من خارجها، عنها من داخلها؟

لحظة المواجهة الأولى مع الوطن هي الأصعب؛ إذ يصطدم "وطن الذاكرة" المتشكّل عبر أكثر من ستين عامًا من حكايات الوالدين، وتفاصيل النكبة، وأحلام الطفولة، وآمال الشباب وطموحاته، بالمشاهد التي تستقبلك: "مطار بن غوريون يرحّب بكم"! تحاول تجاهل ذلك بحثًا عن الحقيقة المدفونة تحت هذا الكم الكبير من التغييرات. تعيد ترتيب مشاعرك ومفردات اللغة وأفكارك، وتبني سرديّة جديدة تقوم على إعادة تموضع التفاصيل، وبناء وطن الذاكرة بمعطيات راهنة. يضعك هذا، كمؤلّف، أمام عشرات الأسئلة التي تتزاحم في الذاكرة، ليُعاد طرحها على الذات والآخر، وتشرك القارئ، في ما بعد، في البحث عن أجوبة. أنتج هذا اللقاء التاريخي بين الذاكرة والوطن عملين روائيين، يتجلى فيهما القسم الأكبر من الإجابة على ما تطرحين من أسئلة. فكلاهما قام على ثيمات جديدة مختلفة، وطرح أسئلة كثيرة صادمة، وأحدث تحولًا في النص، الحكاية، والشكل الفني، وبنية السرد وتقنياته. وكلها نتاج هذا التفاعل بين وطن يمكن الكتابة عنه من الخارج، كما تلقيناه وتعلمناه، ومن الداخل، حيث يتداخل الماضي والحاضر، ويتفاعل الواقعي والمتخيّل، وتتداخل التفاصيل كلها لتنتج بنيتها الخاصة، وتختار شكلها الفني المناسب.

في "السيدة من تل أبيب" فقرة واحدة ترسم صورة بانورامية لغزة قبل الانسحاب الإسرائيلي منها، لكنها ترسم أيضًا، صورة موازية للقطاع كما انتهى إليه في ظل حكم حماس، وما يعيشه اليوم. بينما عاد الجدل الذي طرحته رواية "مصائر"، قبل سبع سنوات، حول الهولوكوست والنكبة، إلى الواجهة بعد حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل الاستعمارية العنصرية على الشعب في الفلسطيني في غزة، منذ ما بعد 7 أكتوبر 2023. ومتاجرة إسرائيل بالمحرقة النازية، ومحاولتها استعارة صورة الضحية في مواجهة انكشاف صورتها الحقيقية، كدولة محتلّة وقاعدة عسكرية متقدمة للإمبريالية العالمية. في وقتها، 2015، أي قبل ما يقارب الثماني سنوات، قالت الرواية ما يقال الآن: مذبحة اليهود ألمانية، أوروبية، غربية، مسيحية، لا شأن للفلسطيني بها، وليس عليه أن يدفع ثمن جرائم ارتكبتها النازية الألمانية.

في وصية إيفانا تقول: "يومًا ما، لا أظنه بعيدًا، سأموت. أريد أن أدفن هنا وأن أدفن هناك. ولدتْ إيفانا في مكان وماتت في آخر. لكنها بقيت تحن لمسقط رأسها. المرء ابن مَن: الوطن أم المواطنة؟

في بلادنا العربية أوطان كثيرة لمواطنين بلا مواطنة أو حقوق. وفي الغرب ثمة مواطنة، لكن "ماكو وطن". أنا عملت على ترويض المنفى بما فيه من مواطنة، وخلق الوطن الذي أريد. إيفانا فعلت بعض هذا. كان الوطن الأصلي، فلسطين، هو ماضيها الذي شكّل طفولتها وشبابها الأول. بينما لم تحوّل كلما حصلت عليه في حياتها إلى إطار حقيقي لهويّتها التي ظلّت مدفونة. إلى أن أيقظها اقتراب النهاية، فاستيقظت. فلسطين وطن لا يكتمل بأوطان الآخرين، وإن كانت أوطان الغربة تكتمل بها، وتعين على استمرار الحياة إلى أن تصبح العودة ممكنة.

بدأت مشوارك بالكتابة الصحافية، ثم كتبت القصة القصيرة، وتوقفت بعدها قرابة ربع قرن، لتعود بكتابة رواية. أين كنت في تلك الفترة؟

كنت في عالم الصحافة الذي رافقني منذ البداية، واستمر أكثر من أربعين عامًا. وكذلك في أروقة البحث الأكاديمي، والعمل التلفزيوني، فغرقت فيها كلها وأغرقتني. لكنّها أيقظتني على تجارب سردية عدة، ومكّنتني من تقنيات سرديّة أزعم أنها تخصّني وحدي. وظهر هذا وتأثيراته في ملامح ما كتبت. وقد شجّعني هذا كله، خصوصًا بعد تجربة "طعم الفراق" (2011)، سيرتي الروائية، على تغيير الاتجاه. وكان قرارًا صائبًا على ما اعتقد.

رُشِّحت للبوكر مرتين، وحصلت عليها مرّة. برأيك، هل نجاح رواية على حساب أخرى تجعل الكاتب في مأزق؟

لديّ، بالمعنى العام، ثلاث روايات، إحداهن سيرة. وبالمعنى الحصري روايتان، تنحصر فيهما الإجابة عن السؤال. وصول "السيدة من تل أبيب" إلى المرحلة النهائية للبوكر خلق بالفعل تحديًا كبيرًا، في أساسه محاولة تجاوز الذات؛ أي تحدى أسلوبي في الكتابة نفسه، وتجاوز تقنياتي والبحث عن جديد لم أكتبه، وعن شكل مختلف يدفع بالعمل التالي مسافة أبعد. وقد تحقّق لي ذلك، وتحقّق معه الفوز. لكنّه خلق، بدوره، تحديًا من نوع آخر: البحث عن مزيد من الأسئلة ومواصلة التحدي، أو التوقف والاكتفاء.

السياسة تخرّب الأدب، لكن الأدب يتحدث سياسة، وليس مهمة الأدب تغيير السياسة، فما هي مهمة الأدب، بشكل خاص، وما هي مهمته بشكل عام؟

بعيدًا عن التنظير ومنه، المهمة الأهم التي تحمل على ظهرها كل المهمات الأخرى وتوظّفها في صالح العمل هي متعة القراءة، وهي ما يجب أن يتركز عليه جهد الروائي واهتمامه. فأكثر الموضوعات أهمية في حياة الإنسان تموت حين ينقلها سرد ضعيف لا طعم له ولا نكهة. وأبسط الثيمات وأكثرها عادية، يمكن أن يحملها سرد مشوّق آسر إلى ذُرى فنيّة عالية، وتحقق قراءة مدهشة. لا فرق هنا بين اختيار السياسة، أو التاريخ، أو الحب، أو المنفى، أو الهوية، أو الجريمة، أو الكراهية، موضوعًا للعمل؛ فهذه كلها رافعات للنص، وموجهة للسياق العام، أو شحنات في حمولة السرد. إن لم يتحقّق لها توليف هارموني شديد التناسق، يفقد العمل الروائي قيمته الإبداعية، ويتحول إلى تقرير أو منشور أو بيان. فالسياسة كموضوع هي منتَج في سياق النص، وليست منتِجة له.

قلت ذات مرّة ما معناه أن فوزك بالبوكر كان يعني لك أنك كتبت رواية يقال عنها إنها كُتبت، ثم لم تعد الجائزة تعنيك. فكيف ستعرف مدى نجاح روايتك؟

الطبعتان الأولى والثانية نفذتا قبل وصول روايتي "السيدة من تل أبيب" إلى القائمة الطويلة (المرحلة الأولى) للبوكر. والأمر نفسه تكرّر مع "مصائر". كلاهما أثار الكثير من الجدل بعد صدوره. جدل نبع من موضوع الرواية، وشكلها، وتقنياتها، وأسلوبها السردي المختلف، إضافة إلى تميّزها بالجرأة. وقد حقق هذا مستوى جيدًا من الانتشار والقراءة. في هذا السياق، جاءت البوكر تتويجًا لمسار، ولم تكن سببًا لانتشار الروايتين، وإنْ ضاعفت في ما بعد من حجم هذا الانتشار. ويعود هذا إلى مكانة هذه الجائزة الأرفع. وبالتالي، لديّ منذ البداية معايير للنجاح ترتبط بما أُنتجه من سرد يعتمد على التجريب والتجديد، وتحدّي الذات قبل الآخرين. أما عدم اهتمامي، لاحقًا، بالبوكر، وانسحابي منها متخليًا عن اللقب، فلا علاقة له بالجائزة نفسها، ولم يكن احتجاجًا عليها، أو اعتراضًا على أي من شروطها. بل هو إعلان صريح برفض التعاطي مع جائزة يقف خلفها من وضع يديه في أيدي المحتلّين الإسرائيليين، ويصمت اليوم على حرب الإبادة التي تُشنّ ضد أهلي وشعبي في غزة منذ قرابة عام، وفي الضفة الغربيّة المهدّدة اليوم بالاقتلاع والتهجير أيضًا.

في رواياتك معظم الشخصيّات حقيقية. هل هذا تكريم لهم وهم أحياء ليظلوا مخلدين، أم لتأكيد واقعية القصة؟

لا شخصيّات حقيقية في عمل روائي يقع بالضرورة في المتخيّل؛ إذ تخلع الشخصيّات عنها ثوب الحقيقة، أو تبدأ في التخلّص منها مع ظهور ملامحها الأولى في النص. لكنّها تحتفظ بسمات واقعية تجعلها حقيقية، وبمعنى أدق، تجعل كل ما يتعلق بها أو يصدر عنها قابل للتصديق. إنها إعادة خلق لشخصيات قد نكون قد عايشناها أو تعرّفنا عليها، ومنحها فرصة للحياة مرّة أخرى بطريقة لا تجعلنا كقراء قادرين على تكذيبها أو نفي حقيقتها. أعتقد أن تكريم الشخصيّات والاحتفاء بها روائيًا أهم من تكريم أصحابها الحقيقيين، الذين يذهبون، فيما يبقى النص شاهدًا على حياتهم المستمرّة في المتخيّل الأدبي الذي ينصفها، ويحفظ لها مكانًا في التاريخ لعشرات السنين المقبلة، وبمصداقيتها التي تجعلها حيّة نابضة.

بعد رواية "مصائر"، اتُهمت في مبادئك وفي فلسطينيتك. وهنا طالبت مرارًا بقراءة أعمالك فنيًا. برأيك، هل سطحية القراءة هذه متعمدة لتأجيج الرأي العام ضد الكاتب؟ أو إن القارئ العربي عاطفي، ولا يستطيع قراءة النصوص الإبداعية بعيدًا عن تأثير هذه العاطفة؟

"مصائر"، ومن قبلها "السيدة من تل أبيب"، تصدّت بجرأة عالية لمواضيع شائكة بأساليب سردية خارج المألوف في الرواية، ومعالجة درامية خارج سياق "التفكير العام". وطرحت على قارئها العربي، والفلسطيني بالذات، أكثر الأسئلة صعوبة، مما لا تتناوله الرواية عادة، فاضحة كل ما هو مسكوت عنه أو متجاهل في السياسة والحقوق والأخلاق، بما في ذلك، ظواهر وقضايا تخلّص منها العالم منذ زمن طويل، مثل قتل النساء والفتيات وارتكاب جرائم بدعوى "الشرف" و"غسل العار" على سبيل المثال. وقد دخلت "مصائر"، كرواية، مواجهة قاسية مع السائد من الأفكار والتصوّرات والسياسات، وبعضها لا يمسّ القناعات وحسب، بل ويلامس الموروث وتأثيراته القوية على الأفكار والمشاعر أيضًا. بالإضافة إلى فوز الرواية بأرفع جائزة أدبية عربية، وما أضافه من مواقف وخلافات وجدل إشكالي ينطوي على تناقضات كثيرة.

ما قلته ببساطة: يُقرأ العمل الروائي بأدوات فنيّة، ويحاكم بمعايير نقدية. بمعنى آخر، طالبتُ بعدم إسقاط المواقف السياسية على النص الأدبي، أو تحميله ما لا يحتمل. بل اعتماد القيم الفنيّة والجمالية أساسًا للحكم عليه، ومن ثمّ الاتفاق أو الاختلاف مع جوانبه السياسية. المشكلة في ساحاتنا الثقافية هي أنها تشبه واقعنا العربي نفسه، وتعكس ظواهره السلبية كلها، من انقسامات وخلافات، وما تفرزه من مشاكل وصراعات. وللأسف، عادة ما تثير الاتهامات الكثير من الضجيج، حيث الصوت غير العاقل هو الأكثر صخبًا في هذه الساحة تحديدًا، وبين المثقفين تحديداً.

قضيت 25 عامًا في لندن ولم تعتد أجواءها. يقول السيّاب: الشمس أجمل في بلادي من سواها. كيف للشمس أن تكون أجمل في بلاد عن سواها؟

كان السيّاب محقًا، فقد رأى في شمس العراق تفاصيل البلاد. شمس كانت توقظ البصرة كل صباح، تتمدّد على الشط، وتغسل وجه المدينة من نعاسها، وماء النهر من بقايا كسل الليل. ترسم على تربتها ظلال النخيل، و"على مودها" يستبشر الناس بكل خير. نحن أيضًا نرى شمس بلادنا أجمل حين تضيء تفاصيل المكان، حتى في مخيمات اللاجئين، لأنها تظلّ شمسًا فلسطينية، نرى فيها كل معاني الحياة. في العاصمة البريطانية لندن ثمّة حياة عظيمة؛ حضارة وعمران وتراث أدبي وفن يغني، ومتاحف، ومكتبات، وغيرها. لكنّ لندن لا تمنحك سوى بصيصًا على هذا الكم الهائل من التنوّع. فأنت تصحو وتذهب إلى عملك في صباحات تظل مغمضة معظم النهار. وتعود من العمل متعبًا في مساء يسرق من الليل عَتمته باكرًا. حين كانت الشمس تشرق أحيانًا، كنت أقول إنها مستوردة من الهند لقضاء يوم، أو حتى بضع ساعات.

في "طعم الفراق" كتبتَ تقريبًا كل شاردة وواردة في الذاكرة. هل فاتك شيء ولم تدوّنه؟ شيء تسرب من الذاكرة أو دُفن، كسلاحك في حرب "أيلول الأسود" عام 1970، الذي ظل، رغم ذلك، يلوّح بين الفينة والأخرى؟

أعتقد أنني قلت في "طعم الفراق" ما كان ينبغي عليّ أن أقول. وكنت في ذلك أمينًا إلى حد بعيد. قاومت انتقائية الذاكرة، ورفضت إغراءات السرد الذاتي، فكتبت سيرة ثلاثة أجيال فلسطينية محميّة من المبالغات وادّعاء البطولة، وبلغة سرديّة تخلو من الخطابية المقيتة، رويت الحقائق كما عشتها وعاشها الآخرون بمصداقية عالية. يكفي أن "طعم الفراق" هي السيرة الروائية الوحيدة التي قدّمت التفاصيل الحقيقية الكاملة لمذبحة خان يونس سنة 1956، إبّان العدوان الثلاثي على مصر واحتلال قطاع غزة (خمسون صفحة)، التي استشهد فيها أكثر من 250 فلسطينيًا. بالإضافة إلى أن العمل يؤرّخ للمسارين السياسي والاجتماعي للاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948 وحتى الربع الأخير من عام 1977.

أفنيتَ عمرًا لا بأس به بين المسافات من بلدٍ إلى بلد، ومن منفى إلى منفى. لو كان هذا العمر ابنًا وله مسقط رأس، أين تريد أن تقضيه، وابن أي البلاد يكون؟

في قلب كل البلاد التي عشت فيها، ظلّت هويتي الفلسطينية هي الأصل ومعيار الانتماء. أقول دائمًا إن الجنسية البريطانية التي أحملها هي مواطنة وحقوق. قد تتأثر هويّة المرء وتدخل عليها تغيرات ما، لكنه لا يفقد الانتماء إلى الوطن الأصلي بمعانيه المتجذرة. مسقط الرأس، "المجدل عسقلان"، وبعض مشاهد التهجير، كانت الصور الأخيرة التي حملتها ذاكرتي إلى الشتات ومخيّمات اللجوء. وصارت المؤشّر الأول على ولادة الهويّة، والطريق إلى استعادتها. وما المسافات التي تلاعبت بالهوية على امتداد أكثر من خمسين عامًا سوى رحلة لاستكشاف الذات، وإعادة اكتشافها في كل مرّة، واستعادة ملامحها الأصلية! الحالة الفلسطينية فريدة في خصوصيّتها، وقد لا تسمح حتى بالمقارنة، ولا باستدعاء نماذج الآخرين. فمنذ حرب الإبادة الصهيونية الجارية لشعبنا في غزة، بعد 7 أكتوبر، تعمّق الشعور لديّ بـ"غزّاوي"تي، على الرغم من مرور 76 عامًا على النكبة، و57 عامًا على مغادرتي قطاع غزة. لو سُئل صبي لاجئ وُلد في مخيم جباليا، أو أي مخيّم في غزّة، بعد سبعين عامًا من النكبة: "إنتَ من وين يا صبي؟"، لأجاب بأنه حمامي (نسبة إلى قرية حمامة التي وُلد فيها جده)، أو اسدودي، أو يافاوي. فكيف بمن وُلدوا في البلاد مثلي وأعمارهم أكبر من عمر إسرائيل؟!

بعد الترحيل والتهجير وسفر بحقيبة تحمل من الأوراق أكثر من الضروريات، ستضع في النهاية رأسك لتأخذ نومة طويلة بلا عودة -ربما يكون هناك انبعاث-، أين تودّ أن تضع رأسك، وماذا عن أمنية الرحيل الأخيرة؟

أتمنى أن أتبع خطى بطلتي إيفانا أردكيان، التي عادت حفنة من رماد إلى مسقط رأسها في عكا القديمة. أعود بدوري إلى مسقط رأسي في المجدل عسقلان. فثمة أرض باقية، وبحر وفضاء يستوعب النهاية التي أحلم بها، حيث يصبح المتخيّل حقيقة.

الكاتب: مروة نور

هوامش

للكاتب/ة

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع