صدر حديثاً عن دار نوفل / هاشيت أنطوان طبعة جديدة من كتاب "الطريق إلى الوطن: ربع قرن برفقة كمال جنبلاط" للكاتبَين محسن دلّول ويوسف مرتضى، مع تقديم لوليد جنبلاط وجان عبيد. في الكتاب ما يتجاوز "المذكرات الشخصية، وما ينحسر عن توثيق كامل وشامل لتاريخ مرحلة مفعمة بالأحداث والتحولات التي خاضت غمارها قامة زاخرة، فتأثّرت بنهج الرفيق كمال وأثّرت به".
المقدمة لمحسن دلّول
أحمل لكمال جنبلاط التقدير وكل الاحترام ... وأكنُّ له كلَّ المحبة. فكان معلمي ورئيسي الذي أنست به ونشأت على تعاليمه ... وتأثرت بمعارفه العميقة.
إن معايشة كمال جنبلاط تزرع في صاحبها الآمال الكبيرة التي تزهر وروداً وتحقق وعوداً.
وإذا كنت أكتب عنه فهو الواجب الذي ترددت كثيراً القيام به، لكن نقزة الضمير كانت تدفعني إلى أن أقدم لعلي أعطيه بعض حقه.
فمنذ حوالي نصف قرن شكل كمال جنبلاط جزءاً من طموحاتي، كما شكل جزءاً من همومي اليومية... حيث كنت أتابع شريط الذكريات فأزداد ألقاً به وتمسكاً بمبادئه.
ولا أزال أذكر ما قاله لي مرة، بأن الحياة البشرية بمجموعها تسير ضمن سلسلة مترابطة من العلاقات الاجتماعية. وأن الإنسان بطبيعته لا يمكن أن يعيش إلا في إطار مجتمعي، وأنه من دون هذه العلاقة تصبح الحياة - حسب وصف كمال جنبلاط - مملـَّة ومزعجة.
وإذا ما عدت بالذاكرة إلى تلك الجلسات الرائعة التي كنت فيها برفقته مع الأب ميشال حايك، حيث كان كمال جنبلاط يتجلى بسمو تفكيره، وبعمق واتساع ثقافته التي لا يدانيه فيها أحد، أتوقف عند التي لا يزال صداها يتردد في أذني حتى هذه اللحظة، وكان ذلك في منزل الأب حايك في بجة وبحضور عدد لا يستهان به من المثقفين، حين قال: أنه لا يمكن للعدالة، وكذلك للحقيقة وللمساواة أن توجدَ بدون احترام حقوق الفرد.
وكم كانت غبطتي كبيرة عندما أشار الأب حايك تعليقاً على ذلك بالقول: إن قانون حقوق الإنسان لا يجوز أبداً أن يكون رهن إشارة حاكم أو فضلة نزوات المسؤولين.
وكما أذكر جوابه، عندما سأله أحدهم في تلك الجلسة عينها عن القومية اللبنانية، فأجابه جنبلاط: إنها مشروع أكثر مما هي حقيقة.
كان كمال جنبلاط يعتبر أن الإنسان، إما أن يحمل ميلاً إلى المعرفة وهذا يدفعه إلى التفتيش عن الحقيقة ... وإما أن يحمل ميلاً عن قصد أو غير قصد منه إلى الجهل، وهذا ما يسبب له الخضوع والاستسلام لرغباته.
تتعاظم إنسانية كمال جنبلاط في حمله لواء التصدي للطائفية.... وهو الذي خصص معظم أوقاته لمجابهتها.
أليس يجمعنا إله واحد خلقنا؟... فبأيِّ حقٍّ يجوز أن نكره الآخرين ، إننا نسيء بذلك إلى إرادة الخالق، هذا ما كان يقوله كمال جنبلاط.
لم يكن يريد المواطن أن يكون ابن طائفته وحسب بل أراده مواطناً صالحاً.
وفي تقديري المتقادم عهداً، أن اللغة قد لا تستوعب تحديد ماهية كمال جنبلاط... ولكن اللغة في حد ذاتها هي التماس فني، وما يعطي كمال جنبلاط قيمته ليس شكل التعبير بل مضمونه.
كنت أرى فيه المتعالي عن الحياة لأنه كان أرفع منها، والمتسامي في كل الأشياء لأنه كان أنبل منها.
لقد استطاع كمال جنبلاط أن يتخطى كل الحدود ، وأن يحطم كل السدود.
حرص على معالجة أمراض المجتمع... كما حرص بأن يترفـَّع بنفسه عن مغريات الدنيا، فجعل عقله يقوم بترويض مشاعره.
كان كل همه أن لا تصاب الشعوب والمجتمعات كما الأفراد بداء الإدمان ... الإدمان بكل مكوناته...
كان يحترم الآخرين صغاراً و كباراً ويحذر من أية تطورات مفاجئة، لعلمه بأنه قد تكون أخطر من الحقائق.
وعندما يتحدث عن سلام الغرب للأخوة الفلسطينيين، كان يصفه بسلام المقابر.
وكان يطالب ويلـحُّ على تجانس يدفع المجتمع بكل أطيافه إلى المواجهة الفعـّالة ...
كان يتمنى أن تكون لكل شعب قيادة إنسانية تمكـّنه من استخدام كل قدراته، وتقوده إلى التطور والتقدم.
كان يقظاً وهو يتحدث عن الديمقراطية ويعتبرها ملازمة لكل تطور أو تقدم، كما كان يعتبرها مرآة حية للحرية بكل تشعباتها.
وكان في حدسه اللامتناهي يتطلع إلى العدالة الاجتماعية كحالة مترابطة ومتلاصقة بكل نضال من أجل الديمقراطية، لا بل كان يقدمها لأنها حسب رأيه تقوي مقومات الديمقراطية...
كانت إنسانيته تجعله يعتبر أن الإنسان حيث يضع نفسه يلقاها..
ولا أزال أذكر أنه عندما كانت الحملات المغرضة تشتدُّ عليه... كان لا يبالي ، لأنه كان يؤمن أن مثل هذه الحملات لا بدَّ لها من أن ترتد على أصحابها، وكثيراً ما كان يشير أمامنا إلى أن مطلقيها أصبحوا من ضحاياها.
كان همه الأكبر كتابة التاريخ الصحيح، لأنه كان يخشى إذا لم يكتب الشعب تاريخه، فإن أعداءه سيكتبونه حسب مصالحهم.
كان يتصدّى بكلّ قواه للقوى المتغطرسة التي تسعى إلى مصادرة حريات الشعوب وتسقط حركات تحررها.
إنه رجل يؤمن بالأفعال وليس بالأقوال.
... وأنا بتواضع كلي أشعر بالسعادة عندما أكتب عن المعلم كمال جنبلاط، وبغبطة تملأ أعماقي ... إذ كنت أتردد خوفاً من أنني لن استطيع إيفاءه حقه... ولكن في هذه المحاولة أستميح الناس كلَّ الناس عذراً وبالذات القراء منهم، لأن الكتابة شيء صعب، وبالذات عندما تتناول الأشخاص الكبار...
إنها حكايات أوردتها بنصـّها كما أسعفتني الذاكرة... وإنها وقائع كما عشتها... تدور كلها حول كمال جنبلاط الذي ما كان يعتبر أن هناك من هو أكبر من الشعب... ولا مَنْ هم أطهر من المجتمع.
إنها حكاية المعلم الذي اعتبر السياسة وسيلة تمنع الإساءة أو الضرر بالوطن وبالمجتمع... وإن مهمة السياسة هي في ربط العلاقة الصحيحة بين حركة الإنسان وحركة التاريخ.
هكذا سعى كمال جنبلاط لأن يكون مع كل الناس... ولكل الناس وفي سبيل الناس.
رفض حالة الترف وانصرف إلى سلوك طريق التقشف.
آمن بالتطور ونادى به مباشرة وعبر حزبه التقدمي الإشتراكي، كما آمن بأنه لا أحد يجب أن يبقى مجمـّداً في مكانه وإلا خسر نفسه وضاع وفقد دوره.
كان عندما يتحدث عن شرعة أقلية وأكثرية في الممارسة السياسية ...يطالب الأكثرية بضمانات للأقلية ... وإلا ضاعت معالم السياسة الصحيحة.
وإني وأنا أكتب عن المعلم، أشعر بأن هوة سحيقة في ذاكرتي تبتلع بقوة أشياء كثيرة. كم أتمنى أن تعاودني، حتى أعطي ما يجب علي أن أعطيه.
وإني في الواقع اضطررت إلى أن أتعامل مع أشياء قد أكون غير مؤهل للتعامل معها بحسب نشأتي ... وإني لن أتمكن من ملء كل الثغرات التي هي بدورها أساسية في ممارسة كمال جنبلاط السياسية والعقائدية والفكرية.
لقد علـّمنا المعلم أن نعرف كيف نتخذ القرارات الجريئة، وكيف نتحلى بالصلابة والإرادة حتى نتمكن- كما كان يردد على مسامعنا من فرض المواقف الملائمة...
وكان جلُّ همـّه كيف يكسب قلوب النـُّخـَب الفكرية والثقافية، وجيل الشباب، ويسعى إلى استمالتها وكسب عقولها ومشاعرها.
كما كان همه أن نعيش وفقاً للطبيعة، تاركاً الأمور تجري كما هي، وكان يردد أن هذا ما منحه القوة والسعادة.
وحرص أن يقدم نفسه للناس لكل الناس كما هو في طبيعته، وفي حقيقته، وفي تصرفاته، كل التصرفات!..
إني أستميح القراء عذراً مرة أخرى إن أخطأت، فالرجل الذي كتبت عنه هو إنسان في أعلى القمم وسواه عند السفوح. إنه الإنسان بكل تطلعاته وثقافته، وبكل نزعاته الإنسانية والنضالية من أجل مجتمع راق ٍ ووطن حر وشعب سعيد.
لقد قصدت أن أرسم أحداثاً مع كمال جنبلاط، كما وقفت مترفعاً عن تحكـّم العاطفة كما يحلو لمغرض أن يريدها.
وأقولها بصراحة كاملة: لقد سعى جنبلاط أن يؤسس للبنان كما يحب أن يكون، وطناً ليبقى!...