وفي الوقت الذي قاد فيه العدوان إلى إعادة تنظيم السكان المكاني -نتيجة حركة النزوح الهائلة التي شهدتها غزة، وفي ظل وجود عشرات ملايين الأطنان من الأنقاض والبقايا البشرية واستمرار الحصار والاعتداءات الإسرائيلية التي تعيق وتُعقد إعادة إعمار غزة، يشار إلى أن عبد الله الدردري الأمين العام المساعد للأمم المتحدة ومدير المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، صرح أن إعادة الإعمار "قضية مكلفة للغاية ستستغرق وقتا طويلا"، معتبراً أن تلك "مهمة لم يسبق للمجتمع الدولي أن تعامل معها منذ الحرب العالمية الثانية"، وأن الاعتماد على "الأطر التقليدية" لإعادة البناء يعني أن "الأمر قد يستغرق عقوداً من الزمن." وفي حين كشفت دراسة لمؤسسة راند البحثية الأميركية أن إعادة إعمار قطاع غزة سيكلف أكثر من 80 مليار دولار، وأن إزالة الأنقاض وحدها ستكلف ما يزيد على 700 مليون دولار، تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن التعافي من الدمار الهائل وغير المسبوق الذي لحق بالقطاع بسبب العدوان الإسرائيلي الممتد قد يستغرق 80 عاما. وقد يكون هذا الرقم منطقيا في حال استمرت إسرائيل بعدوانها وبفرض القيود على مواد ومعدات البناء، بل وحتى على خيام النازحين ومرافق الإيواء، التي تدعي أن لها استخدامات مزدوجة، لذلك أجد أنه بات ممكنا القول إنه لا يمكن إعادة إعمار غزة إلا في ضوء حل شامل ينهي الاحتلال ويتيح العمل وفق نماذج مغايرة لما جرى في الاعتداءات السابقة.
ورغم قيام العديد من وكالات الأمم المتحدة والمؤسسات الحكومية الفلسطينية بوضع استراتيجيات للمستقبل، إلا أن حجم الدمار والموت الذي ستتحمله غزة قبل أن يحل السلام في القطاع المضطرب ليس واضحا بعد، وكذلك طبيعة المجتمع الذي سيخرج من رحم الصراع. وفي ظل حالة عدم اليقين المحيطة بواقع غزة ومستقبلها -وعدم الإعلان حتى تاريخه عن رؤية وطنية أو دولية شاملة وواضحة لإعادة الإعمار سواء فيما يتعلق بإزالة آثار العدوان وركامه أو لجهة إعادة إعمار المدينة وبناء مكوناتها المتضمنة في تفاصيل مجمل حيوات السكان وحراكهم -يفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلات عديدة متمحورة حول مستقبل غزة المديني، وإذا ما كانت عملية إعادة إعمارها ستتم وفق أطر الحداثة الفاخرة المستندة إلى نموذج المدينة المحكومة بالاستثمارات العابرة للحدود، أم أنها ستسعى إلى إعادة إنتاج الحيز المديني كما كان، مشبعًا بالتجارب اليومية للسكان ومقاوتهم إضافة إلى المفاهيم الإنسانية والهويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تشكلت عبر عقود خلت في غزة؟ ويمكن القول إن عملية إعادة إعمار غزة تعكس تحديًا تاريخيًا ومعرفيًا يتجاوز مجرد إزالة الأنقاض وبناء الوحدات السكنية، بل إنها قد تحيل إلى صدام بنيوي بين الإطار الأكاديمي والنظري من ناحية، وبين التفاعل الميداني مع احتياجات المدينة وسكانها من ناحية أخرى. ومما لا شك فيه أن هذا الصراع يمثل جزءًا من السرديات المتنافسة التي تدور حول مستقبل المدينة وعودة النازحين إلى مساكنهم، حيث تتداخل محاولات إعادة تشكيل المجال العام خارج السياقات المعرفية والحياتية التي اختبرها أهل غزة مع مساعٍ لاستعادة حياتهم اليومية ضمن أنقاض المدينة المتخيلة وإعادة موضعتها في حراكها وفي سلسلة اللحظات المتعاقبة بين السلم والحرب.
وفي إطار مقاربة عملية إعادة الإعمار، والتخطيط لإنعاش قطاع غزة بعد الحرب، وما يترتب على ذلك من إعادة تشكيل الحيز المديني وتكوين المدينة كمساحة حيوية مليئة بالسرديات والعلاقات، يطفو إلى السطح ما يحيل إلى أن هناك صراعات واضحة بين السرديات الكبرى لعملية إعادة الإعمار وبين الأطر المعرفية الحرة التي تصطدم بمسارات العملية المختلفة والمدعومة عموما بالتمويلات والاشتراطات الدولية، والتي تسعى إلى إعادة تشكيل المجال العام وفقاً لمعايير اقتصادية وسياسية خارجية. وفي سياق البحث المتصل بمساعي إعادة إنتاج الفضاء الحضري بقصصه ورواياتها وعلاقاته الاجتماعية الاقتصادية، حيث تلتقي إرادة التحديث والانفتاح الاقتصادي مع المحاولات لإعادة خلق المدينة على أسس حرة تتماشى مع الحيز المعرفي والواقع الحياتي الذي شهدته غزة قبل وأثناء وبعد الحرب، والنقاش حول وضع المدينة "الجديدة" المتخيلة، يمكننا استحضار السياق التاريخي لنموذج تدمير وإعادة إعمار بيروت بصراعاته وتوجهاته وحراكاته الداخلية المختلفة التي أثرت في تشكيل المدينة وتطورها السياسي والاجتماعي الذي تخلله صراعات وحضور المستثمرين والفاعلين السياسيين إلى جانب دور الشركات المختلفة، والتدخلات والسلوكيات والأدوار المعقدة للمستويات المحلية والإقليمية والعالمية المتعددة.
وفي السياق اللبناني، فقد قام نصر وفرداي (2012) بمقاربة التحولات المرافقة لتشكيل وإعادة تشكيل مدينة بيروت ومجتمعها المديني في سياقها التاريخي وصولاً إلى تطويرها وإعادة إعمارها وبنائها بعد الحرب الأهلية، وكشف دور محاولات الدولة اللبنانية لاستعادة دورها وقوتها كفاعل مركزي وتدخلات وصراعات الفاعلين السياسيين والمستثمرين والشركات المختلفة -على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية- في هذا التشكيل. ومن خلال تناول مشاريع شركة "سوليدير" و"أليسار" و"لينورد" الحداثية، فإنهما يخلصان إلى أن إعادة إعمار بيروت عملية معقدة تداخلت فيها سلوكيات وأدوار متنوعة جرت ضمن إطار سياسي واجتماعي-اقتصادي اتخذ طابع الانتقائية في التخطيط والتجزؤ في الانجاز. كما استحضر الحبري (2015) صورة بيروت قبل وبعد الحرب الأهلية، مبيناً أنه تم "مسرحة" الحنين للأماكن التي أصابها الدمار والتحسر عليها والترويج للتطوير العقاري في سياق خطة وضعت لتكون مقتصرة على خدمة مصالح أنظمة سياسية محددة حصراً، واستحداث أطر سياسية وقانونية وبنى تحتية مادية مفيدة لرأس المال العالمي. وترى حرب (Harb, 2013) أن السلطات قامت بالترويج لبيئة ملائمة للاستثمارات الرأسماليّة وعملت على تقليص المجال العام في بيروت بشكل منتظم ودون مقاومة وذلك باسم إعادة الإعمار والحداثة والنمو الاقتصادي والأمن وما رافق ذلك من تعديلات في النظام العقاري تصب في صالح النخبة، وتحول دون وصول الطبقات الأدنى إلى وسط المدينة لأنّهم ليسوا بالمستوى الاجتماعي المطلوب، ما ساهم في تعزيز وترسيخ الفصل الاجتماعي المكاني.
ونظراً لانتشار ذلك النوع من أفكار تخطيط المدن في العالم الاستعماري، والتي التقت مع رغبة جزء من النخب المحلية، وعدم وجود خطة محددة ولا رؤية واضحة للتعامل بشكل شامل مع الأمور المتعلقة بازدهار غزة وإعادة إعمارها ما بعد الحرب، تسود حالة من القلق والخوف من إحداث مواءمة خطط إعادة الإعمار وتكييفها بحيث يتم الدعوة إلى عمارة حديثة، ذات وظائف تجارية وسياحية، وعلى حساب حفظ التراث وملاك الأراضي القدامى والمستأجرين. الأمر الذي إذا ما تم في صورة عمليات جزئية وانتقائية أو عشوائية فإنه سيقود إلى انتشار مناطق وتجمعات منفصلة عن النطاق الحضري الغزي والفلسطيني الأعرض والأوسع، ومختلفة مكانياً وزمنياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً عما ألف الغزيَون، كما سيعيد إنتاج واستحداث مواقع جديدة للنشاط الاقتصادي والاستهلاك العالمي وأماكن لإنتاج وعرض ذات النخبة العالمية في غزة وفلسطين عموماً. وحيث أن غزة لم تبنَ في يوم واحد، ولا يمكن إعادة بنائها على صورة طباعة ثلاثية الأبعاد مجردة من حيوات الناس، فمن الضروري تجنب رؤى وأفكار بعض المخططين التي تزدري النسيج المديني القديم وساكنيه، وتقول بضرورة تحديثها وتكييفها ومواءمتها مع متطلبات العولمة الاقتصادية. لذلك يجب أن يكون الهدف هو عودة غزة إلى الحالة الطبيعية في فترة ما قبل الحرب وإعادة إحياء صورة مدينة البحر المتوسط بكل مكوناتها؛ المقهى على الناصية وسوق السمك بكل تفاصيله ورواده الصباحيين، وطبق الألمنيوم و"زبدية الجمبري" والسلطة الغزاوية الحارة ورغيف الخبز المحمص في مطعم أبو حصيرة على الشاطئ. وبمعنى آخر ضرورة تجنب نموذج بيروت الذي اقترن بوجود الاعمار الإقصائي أو العشوائي "غير المخطط له" كميزة لما بعد الحرب.
إحالات
- الحبري، حاتم (2015). صورة القبل والبعد في بيروت ما بعد الحرب. مشاهد القاهرة، العدد الرابع(منطق المكان في الشرق الأوسط اليوم)، 8-11.
- نصر، جو وفرداي، إريك (2012). إعمار بيروت. مجلة المستقبل العربي، 401، 69-92.
- Harb, Mona (2013, October 25). Public Spaces and Spatial Practices: Claims from Beirut. Jadaliyya. Retrived from http://www.jadaliyya.com/Details/29684/Public-Spaces-and-Spatial-Practices-Claims-from-Beirut