جذور سياسة التجويع الصهيونية: ملامح من فترة الحكم العسكري الأولى

Where to?، 1953، Ismail Shallot

محمد قعدان

كاتب من فلسطين

اقتضت الحرب الإبادّة إجماعًا وطنيًا صهيونيًا على سياسة تجويع، وقد شهدنا مظاهرات إسرائيلية منعت شاحنات المعونة والمساعدات المتوجهة إلى الفلسطينيين في قطاع غزة.

للكاتب/ة

من المهم هنا الإشارة إلى أن كلا الرسالتين تبرز معاناة ليست فردية، بل اضطهاد جماعيّ ضد العرب. وقد تكررت مثل هذه الحوادث يوميًا بسبب سياسات الحاكم العسكري التي دفعت بالناس إلى حافّة الجوع والقهر، بهدف فرض خطط التهجير والطرد القسري ضمن مخططات مصادرات الأراضي.

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

07/02/2025

تصوير: اسماء الغول

محمد قعدان

كاتب من فلسطين

محمد قعدان

وباحث مستقلّ. درس ماجستير في جامعة كوليدج دبلن، برنامج "العرق، الهجرة ودراسات نزع الكولونياليّة" في قسم علم الاجتماع. يكتب الدراسة والمقالة الفكريّة، السياسيّة والتاريخيّة في عدد من المنابر العربيّة.

مهمة الدولة الاستعمارية الاستيطانية السيطرة على وسائل الإنتاج للمجتمع المستعمَر، من خلال سلسلة من العمليات والإجراءات والعلاقات التي تتأسس على قمع المجتمع الأصلاني ومنعه من الوصول إلى الأرض، وحرمانه منها، وبالتالي، منعه الوصول إلى الغذاء والطعام بشكل مستدام. تبعًا لذلك، فإن إحدى أهم وسائل المشروع الصهيوني لتحقيق المحو والقضاء على الفلسطينيين، سواء فيزيائيًا أو رمزيًا، هي تطويع منالية الغذاء والطعام عند الشعب الفلسطينيّ، مع العلم أن منالية الطعام تلك مرتبطة بعلاقتهم بالأرض والزراعة، فمن غير الممكن قطع علاقة الفلسطينيين بأرضهم من دون التأثير بشكل ممنهج في طعامهم وغذائهم، وفرض سياسة تجويع عليهم بأشكالٍ متعددة. 

وصلت هذه السياسة راهنًا إلى أعلى مستوياتها بحرمان جزء كبير من الشعب الفلسطيني في قطاع غزة الوصول إلى الطعام والغذاء في مخطط حرب إبادية. وطبّقت الدولة الاستعمارية ذلك عبر قطع (وعرقلة) وصول شاحنات المساعدات إلى قطاع غزة، منذ بدء عمليات الحرب في السابع من أكتوبر 2023. بالمقابل، يجب التأكيد على أن لهذه السياسة جذورًا منذ نشوء دولة إسرائيل ووضعها الفلسطينيين الباقين منذ عام 1948 تحت الحكم العسكريّ، حيث نجد ملامح سياسة دفعت بالفلسطينيين إلى حافة الجوع، وأيضًا صادرت منهم شروط تأمين الغذاء والطعام لعائلاتهم. ومن المهم إجراء فحص تاريخي ديموغرافي للوفيّات، وخصوصًا أعداد الوفيات من الأطفال، يمكن بناء فهم أكثر وضوحًا لآثار هذه السياسة على موت الفلسطينيين. ويبين لنا ذلك تطوّر المنطق من وراء تجويع الفلسطينيين الذي نراه مكثفًا اليوم في حرب الإبادة.

البداية: النكبة، تدمير الزراعة، وسياسة التقشف

أثّر تدمير حياة الفلسطينيين في القرى والمدن بشكلٍ هائل في الإنتاج الغذائي والطعام على الجميع تحت سيطرة الدولة الناشئة. فطردُ الفلسطينيين شكّل عطبًا بنيويًّا في الزراعة والغذاء على مستوى تأمين الأكل اليوميّ وتوفيره للمجتمع المستوطِن، إذ إن ثلثي غذائهم اعتمد على إنتاج المجتمع الفلسطيني، من حليب وبندورة وبيض ودواجن، وفقًا لمقابلة مع الأنثروبولوجيّ المعماريّ محمد يونس (منشورة في مجلة فسحة). وبالتالي، عند الحرب والقتال والمجازر والطرد المنظمّ، أصبح المجتمع المستوطن والجيش في وضع خطير من ناحية تأمين الطعام. وخصوصًا في ظل هجرات المستوطنين إلى الدولة الناشئة، ما ساهم في مضاعفة الأعباء. ونذكر على هامش ذلك دراسة المؤرخ عبد الرزاق التكريتي حول أصول المقاطعة الفلسطينية، يبيّن فيها كيف أن الفلسطينيين استخدموا هذهِ الورقة الاقتصادية - السياسية ضدّ مجتمع المستوطنين بداية فترة الانتداب، إذ إن مقاطعة مجتمع "الييشوف اليهودي الصهيوني" هي جزء من عدة وسائل ضغط ومقاومة للمشروع الاستعماري الذي فرضته الإمبراطورية على فلسطين.

لنعد إلى أعوام الحرب، إذ إن الأزمة الغذائية تفاقمت بشكل كبير جدًا، فمن أين يأكل المستوطن؟ ومن سيحصد مئات الدونمات من الأراضي المزروعة؟ هناك العديد من القصص حول لاجئين قرروا العودة، "التسلل" وفق التصنيف الاستعماري، إلى أرضهم من أجل تفقد الزرع وحصده، ومنهم من استشهد على الحدود. في عام 1949، بدأت الحكومة الجديدة، بقيادة حزب "ماباي" في تقنين جميع السلع الحيوية والسيطرة الكاملة على أسعارها. وفرضت توزيعًا متساويًا للإمدادات المحدودة من خلال إلزام المواطنين ضمن "الييشوف" بتقييد استهلاكهم. وخلال العامين الأولين، بدا أن نظام التقنين قد حقق أهدافه الرئيسية؛ فقد استقرت الأسعار، وأطعِم المهاجرون الجدد، وزادت الاستثمارات والإنتاج المحلي. كما أن الدعم الذي تلقته الدولة من قبل الدول الغربية، وخصوصًا ألمانيا الغربية، تعويضًا عن إبادة النظام النازي لليهود الأوروبيين، شكّل إنعاشًا وإنقاذًا للاقتصاد، إضافةً إلى السلب والنهب المستمر لممتلكات اللاجئين الفلسطينيين.

أثرت هذه السياسة بشكل مباشر في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسيّة وتكوين الشخصية الإسرائيلية، وفقًا لكتاب المؤرخة الإسرائيلية عنات هيلمان (Becoming Israeli)، وأضافت عن سياسة تحديد الطعام والغداء من خلال كوبونات وفقًا للنظام البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، بأنها أكملت سياسات وبرامج بريطانية التي طُبّقت في فلسطين خلال تدهور الأوضاع الاقتصادية في تلك الفترة. ومن المهم ذكر كتاب المؤرخة الفلسطينية شيرين صيقلي "رجال رأس المال" (Men of Capital) الذي يحتوي على أقسام تفصّل في السياسات والبرامج البريطانية نهاية فترة الانتداب، وكيف بدأت تتخذ منحى علميّا لحساب التغذية وحاجات الإنسان من السعرات الحرارية.

بالمقابل، تدهور الإنتاج الزراعي العربي بشكل فعليّ في إثر الحرب واستمرار الفعل العسكري. ووضعت الدولة سياسات أولية لإنعاشهِ، حتى نهايات عام 1949، كونهُ مصدرًا للغذاء للمستوطنين أيضًا، فلا بديل آنذاك لزراعةِ الأرض وحصادها. ويذكر في مواضع عديدة في يوميات دافيد بن غوريون عن مساحات شاسعة تحتاج للحصاد، التي تساعد في تزويد مؤن للجيش، وأيضًا معدل قدوم عشرات آلاف المستوطنين شهريًا من بداية عام 1948 حتى نهاية 1950 (للاستزادة دراستي حول نهايات الفلاحة الفلسطينية).

بدأت الدولة في توجيه سياسات استراتيجية حيال الفلاحة العربيّة وإمكانيّاتها، من خلال وثيقة سريّة صادرة عن وزارة الزراعة تحت عنوان "مُشكلة تسويق الإنتاج الزراعي العربي"، صدرت في 7 تمّوز 1950. صنّفت الوثيقة القوّة السوقيّة العربية تهديدًا لمنافستها السوقِ الاستيطانية اليهودية التي ما زالت في عداد الناشئة، إذ إن عمليّة بناء مستوطنات وكيبوتسات على الأراضي مسلوبة من الفلسطينيين ما زالت جارية. تنبع أهمية هذهِ الوثيقة من أنّها تكشف لنا خبايا رؤية المؤسسة الاستعمارية منذُ البدايات إزاء الفلاحين العرب وإنتاجهم، والتحضير لتدمير شروط إنتاجهم. 

النكبة ومساعدات اللاجئين

في محضر اجتماع مشروع إغاثي للاجئين الفلسطينيين التابع للأمم المتحدة (UN Disaster Relief Project)، شارك فيه  ممثلين عن مؤسسات وجمعيات عدة مثل “الصليب الأحمر” وأيضًا مؤسسة “أمريكان فريندز سيرفيز كوميتي” (AFSC) وهي المؤسسة التي جلبت منها أرشيف المحاضر.

في البداية عرض سير رفائيل كلايند، تقريره عن أحوال اللاجئين الذين قدر عددهم حتى تلك الفترة ما يقارب 500 ألف لاجئ إلى 760 ألف، بسبب اختلاف التعريفات بين المنظمات الدولية والحقوقية إلا أنه يفترض التقرير مساندة كلّ النازحين عن بيوتهم. موضحًا أن كميات الطعام والمساعدات التي تم إعدادها وصلت إلى 5800 طنّ وفعليًا تم شحن فقط 3800 طنّ وتعتبر كمية صغيرة نسبةً لحاجات اللاجئين الحقيقية. مما يجعلهم على حافة المجاعة، خصوصًا أنه لا يوجد موعة محدد لعودتهم. 

وأضاف التقرير بأن مسألة المواصلات هي مشكلة كبيرة بالنسبة لإرسال المساعدات، حيث أن الدولة اليهودية تسيطر على أهم سكك القطار، ومع فقدان الوصول إلى حيفا، اقترح التقرير اتباع مسارات أخرى كما جاء في التقرير إذ أن شحن المساعدات من خلال بيروت- دمشق تسمح فقط لنقل 300 طن يوميًا، مع العلم أن الأمم المتحدة قدرت الحاجة تصل إلى 8000 طن شهريًا من أجل سد الحاجات، أي 2000 طن أسبوعيًا، وبالتالي يصعب علينا إيصال المساعدات إلى الأردن وفلسطين. بالتالي من الممكن استخدام القطار ولكن لن يحل المشكلة بسبب عدم القدرة على نقل أكثر من 1800 طن أسبوعيًا لذلك يحب إيجاد حلول أخرى. كما أكد التقرير بأن إرسال المساعدات لقطاع غزة وإدارة الإغاثة عمومًا اعتبرت الأشد صعوبةً، مما يعكس مشاهد اليوم من حيث الصعوبات الأمنية العسكرية. 

بعد ذلك ناقش الحضور التقرير ومسألة المساعدات، هي جزء من التحكم السياسي البيولوجيّ في جسد الفلسطينيّ وتحديد السعرات الحراريّة مما يعطينا لمحات حول تحول الطعام ومنع المجاعة إلى مسار سياسيّ بالإمكان التلاعب به وتحويله إلى سلاح سياسيّ عسكريّ وهذا ما سيحدث مستقبلًا. ويرينا التقرير مدى قدرة المنظمات على فحص، تصنيف، التحكم في حاجات الفلسطينيين الغذائية، مع التأكيد بأنها مساعدات وإغاثة. حيث أن هذه القدرة على المعرفة والفهم الدقيق لغذاء الفلسطيني، وتحديد 1800 سعرات الحرارية ضرورية ثم مناقشة محاولة تقليلها، وطرح بعد ذلك أحد الحضور موضوع إضافة قيمة غذائية للوجبات مثل البروتينات، وتحديد فيتامينات يومية لأعداد اللاجئين، مما يشير على القوة لمثل هذه المؤسسات وعلاقتها في الدول الغربية، مما يعطينا لمحة على الشبكة المتكاملة بين اللجوء والإغاثة والنكبة.

استمرت مشاريع الإغاثة لاحقًا تحت إطار واحد وموحد ومنظم تابع للأمم المتحدة، من خلال تأسيس "وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" وهي التي ستصبح المسؤولة عن الطعام والغذاء والعمل للفلسطينيين اللاجئين، كما أننا يجب أن نذكر بأنها نشطت حتى عام 1952 مع المهجرين الفلسطينيين داخل إسرائيل.

مورد الرزق، الأرض، والحاكم العسكريّ

"عائلتي معرضة لخطر الموت من الجوع" 

ــ لاجئ من الناصرة

في العدد الأول من صحيفة "العودة"، في تاريخ 30 تشرين الأول 1952، نجد خبرًا بعنوان "حكاية الذئب والحمل في قرية برعم: إسرائيل تقطع المؤن عن 17 ألف عربي". يوضّح هذا الخبر كيف شرّدت وهجرت وطردت الدولة الاستعمارية الفلسطينيين داخل الخط الأخضر. على سبيل المثال، سلّط الخبر الضوء على تهجير أهالي قرية برعم واقتلاعهم من أرضهم وبيوتهم، والتشديد على حرمانهم من خيرات حقولهم، وبالتالي تجويعهم، وتركهم يعيشون في كَفاف وشحّ مؤن تصلهم من وكالة الغوث "الأونروا". وعندما فرضت إسرائيل على "الأونروا" وقف عملها في داخل الخط الأخضر، تضاعفت أزمة المهجرين الفلسطينيين. ابتداء من شهر أكتوبر من ذلك العام (1952)، انتهى وجود الوكالة بين المهجرين، وصار أهالي القرية وجميع المهجرين متروكين لمصير مجهول من دون معونة. وقدمت إسرائيل "ضمانًا" لخطط استيعابهم وتشغيلهم، غير أنه بالتأكيد من دون أي ذكر لعودتهم إلى أراضيهم، مع العلم أن الأهالي لم يوافقوا على هذا التعامل والإهمال، وطبقته الدولة قسريًا من دون أي بديل حقيقي، بقوة سلطة الحاكم العسكري الذي يتحكم في أرزاقهم وحركتهم ووجودهم. في إثر ذلك، قدّم خوري القرية شكوى تمثّل الأهالي، أوضح من خلالها الهدف الحقيقي للاستيلاء على أراضيهم وكرومهم الزراعية من خلال تأجيرها لشركة يهودية تستفيد منها، وبالتالي التخطيط لمصادرتها. 

بدءًا من هذه الرواية التي وثقتها "العودة"، يجب التشديد على ربط مسألة تجويع الفلسطينيين بمصادرة الأرض، إلى جانب قوانين الحكم العسكريّ التي فُرضت منذ عام 1948. عمليًا، سياسة التجويع المفروضة تأسست على مصادرة الأراضي وحملات التهجير، وهذا النمط الاستعماريّ يتكرّر في العديد من الروايات الموثقة. 

في رسالة لاجئ من الناصرة، علي عبد الله مصطفى حسن، مؤرشفة في تاريخ 20 كانون الأول 1955، في ملف "توجهات العرب إلى لجنة فحص الحكم العسكري"، التي سميت على اسم رئيس اللجنة، يوحنان ريتنر، كتب شهادته عن حالة عائلته المكوّنة من تسعة أنفار التي أصبحت على حافة الموت من الجوع: "عائلتي معرّضة لخطر الموت من الجوع". وأضاف: "وهذه الحادثة هي مثل من مئات الحوادث التي أصبحت تتكرر يوميًا في ظل الحكم العسكري على المواطنين العرب". بلّغته شرطة حيفا بإلغاء تصريحهِ الدائم من الحاكم العسكري، من دون إدلاء أي أسباب، فتوجّب عليه ترك حيفا. وأبلغته الشرطة بألا يعود، وإلّا سيُعاقب، ما يعني أن عليه أن يعود إلى الحاكم العسكريّ في الناصرة بهدف تجديد التصريح. وعلى هذا الأساس ذهب لمقابلة الحاكم العسكري، وطرح في لقائه ذاك أنه ليس "متسللًا"، ولم يتم القبض عليه مرة واحدة من دون تصريح، ويؤكد أنه ليس متصلًا بأي حزب، فلِمَ إذًا يُلغى تصريحه من دون إجابة واضحة؟! كرر اللاجئ محاولاته، دون أي نتيجة. من المعروف أن تلك الإجراءات التعسفية تهدف فعليًا إلى تجويعه وأولاده، إذ لا يملك أي مورد رزق آخر سوى عمله، وقد مضى على تاريخ الرسالة، إلغاء تصريحه، أكثر من شهرين. كما جاء في رسالته مطالبة بإلغاء الحكم العسكري بشكل نهائي، حتى يستطيع العربي تحصيل لقمة عيشهِ.

في رسالةٍ أخرى من بشارات جريس جرايسي إلى اللجنة ذاتها، في كانون الثاني 1956، أكد فيها أنه مُعيل لأربعة أنفار، التي شدّد فيها بأن هذه الحادثة تجري بشكل يومي على المواطنين العرب تحت الحكم العسكريّ. مسترسلًا في رسالته، كتب بشارات بأن لديه تصريحًا يجدد أسبوعيًا تقريبًا، ويعمل في قرية المجيدل التي تبعد 8 كيلومترات فقط عن مدينته، الناصرة، وحدث في أحد الأيام أن نسي تصريحه، إذ غابت عنه ضرورة تجديده، فألقت الشرطة القبض عليه، وقد تبقى على سريان تصريحه 12 ساعة فقط، ثم قدمته إلى المحاكمة وغرمته بمبلغ 15 ليرة إسرائيلية، أو السجن. وأتبع ذلك بالقول إنه منذ ذلك اليوم محظور عليهِ تجديد التصاريح بتاتًا. ومنذ ذلك الحين لم يعد لديه مكان عمل، ولا أي مورد رزق لإعالة أولاده. وقد شدد في رسالته على وجوب إلغاء الحكم العسكري، حتى يتسنى للعرب التفتيش عن لقمة للعيش.

من المهم هنا الإشارة إلى أن كلا الرسالتين تبرز معاناة ليست فردية، بل اضطهاد جماعيّ ضد العرب. وقد تكررت مثل هذه الحوادث يوميًا بسبب سياسات الحاكم العسكري التي دفعت بالناس إلى حافّة الجوع والقهر، بهدف فرض خطط التهجير والطرد القسري ضمن مخططات مصادرات الأراضي.

نجد شهادات شبيهة في رسائل رسمية، مثل رسالة من رئيس مجلس المحلي في بلدة الطيبة، في تاريخ 25 حزيران 1960. تقع الطيبة في جنوب المثلث، قرب كفر قاسم، وهي تبعد بضع كيلومترات عن مدينة طولكرم، كما كانت الحال قبل النكبة وفرض خط الهدنة الحدوديّ. جاء في رسالة رئيس المجلس الذي يمثّل أيضًا المؤتمر الزراعي، عن أحوال العرب الفلاحين التي تضررت بشدّة في ظل الجفاف الذي أتلف جميع محاصيل هذا العام، ويؤكد بأنه في حال عدم تعويض المتضررين، أو مثلًا إلغاء رسوم إيجار الأراضي التي ترهق كاهل الفلاحين في منطقة المثلث، سيكون ذلك بمنزلة ضربة لمصدر دخلهم الوحيد، ما يعرضهم وعائلاتهم لخطر الجوع. نستنتج أن المنطقة بأكملها، وتعدادها يزيد على 30 ألف نسمة، أصبحت في تلك الفترة على حافّة المجاعة، ما يتطلّب البحث والتقصّي بشأن ذلك الجانب من خلال مقابلات ميدانيّة وتوثيق شفوي لتجارب الناس ومدى إحساسهم بخطر الجوع.

خلاصات

اقتضت الحرب الإبادّة إجماعًا وطنيًا صهيونيًا على سياسة تجويع، وقد شهدنا مظاهرات إسرائيلية منعت شاحنات المعونة والمساعدات المتوجهة إلى الفلسطينيين في قطاع غزة. كما أن خطة الجنرالات رسمت واقعًا استعماريًا بعنف غير مسبوق يحمل الهدف ذاته، فرض التهجير، الذي تسمّيه النخبة الإسرائيلية الحاكمة اليوم "ترانسفير طوعيّ". وصل العديد من الشهادات عن الطعام تحت ظرف الإبادة؛ أكل الأعلاف للنجاة، وانقطاع الطعام، والجوع لأيام حتى تصل حزمة صغيرة من الغذاء، قد تكفي للبقاء على قيد الحياة، وقد لا تصل. لذلك منطق "حرب الإبادة" وفقًا لمحاضرة أستاذ العلوم السياسية نديم روحانا، هو منطق يحمل في طياته هذا العنف الفيزيائي شديد الوضوح، ولم يعد يحتمل التأويل، وأصبح بدورهِ الناظم الأساسي للمشروع الصهيوني في علاقتهِ مع الفلسطينيين. هذه السياسة بدأت خلال النكبة، وتهجير مئات آلاف الفلسطينيين، وتطبيق حكم عسكريّ على الباقين منهم، واليوم، ما تزال تتكثّف في وحشيّتها وعنفها.

لوحة المقالة كاملةً
الكاتب: محمد قعدان

هوامش

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع