المخرج الكوري الجنوبي هونغ سانغسو غزير الإنتاج، جداً. فعلاً جداً، أي بمعدّل فيلمين كل سنة، وذلك منذ أكثر من عقد. هي أفلام ممتازة، وهنا الخصوصية في عمله السينمائي، إذ يمكن فهم صناعة هذا الكم "المبالَغ فيه" من الأفلام على حساب النوع، لكن المسألة ليست كذلك هنا. هذا صانع أفلام متكامل، وهو، فوق تكامله، يخرج بفيلمين كل سنة، وممتازين. هذه حالة خاصة، متى ذُكرت أمام عارف بالسينما لحزرَ أن المقصود هونغ سانغسو لا غيره.
فيلمه المشارك في مهرجان برلين السينمائي، "ما الذي تقوله لك تلك الطبيعة" (What Does that Nature Say to You) ينقل معنى التكامل السينمائي في صانعه، فمخرجه هو كذلك صاحب السيناريو والتصوير والمونتاج والموسيقى وتصميم الصوت، وهو المنتج كذلك. كان فيلمه هذا الأخيرَ لعروض المسابقة الرسمية في المهرجان، وكان مسك الختام في دورة امتازت عن سابقاتها بجودة البرمجة.
يبدأ الفيلم بصوت وصورة رديئتين، الصورة تحديداً، قبل أن يستوعب أحدنا أنه الفيلم أصلاً كذلك، أنه اختيار مقصود. يحيل الفيلم إلى هذا الأسلوب في حوار إذ يقول الشاب إنه يفضّل أن لا يرتدي نظاراته الطبيعة كي يرى الأشياء مع لمسة من الغبش، ففي ذلك جماله الخاص.
ولم يكن الغبش مزعجاً، رغم تعوّد العين، تحديداً بعد ١١ يوماً من مشاهدة ٣ أفلام يومياً على طول المهرجان، بتقنيات ودقّة عاليتين. هنا أعاد سانغسو للجمال السينمائي بساطته، فالدقة العالية تحجب جماليات بصرية وسردية سينمائية، تماماً كما يمكن للألوان أن تحجب جماليات في الصورة السينمائية يمكن للأبيض والأسود فقط نلقها. الغبش اسمه هنا بساطة الصورة، تواضع الجمال، حقيقته، متيحاً، بذلك، تركيزاً أكثر على الحوارات، تماماً كما يصب الأعمى جلّ تركيزه على سمعه فيرى بأذنيه ما لا يراه المبصر بعينيه. بجماليات الحوارات التي لا تتوقف في الفيلم، يسهو أحدنا عن الصورة التي يدرك معها مدى الإزعاج الذي كان لا فيها، بل في صور أفلام سبقتها كانت عالية الدقة.
هذه البساطة البصرية، هي كذلك موقف في سياسة السينما، ضد الاعتناء المبالَغ فيه بالتقنيين، بالاختصاصيين، بالجانب الصناعي للسينما المرتهن لشركات تكنولوجية. السينما الجميلة في بساطتها، وتحدي سانغسو هنا كان بتقديم النقيض مما تعودته العين اليوم، مراهناً على سينما صادقة تبنى على الصورة والصوت بمستويات تقنية هي في حدها الأدنى، مقدماً، مقابلها، كلاماً وحوارات كذلك بسيطة، عادية، ارتجالية كما بانت، لكنها لم ترخِ للحظة واحدة انتباه المُشاهد المتمعّن وانبهاره، المسحور في هذه الضبابية كأن الفيلم خارج من خزانة قديمة لسانغسو، نسيه فأخرجه وأرسله إلى المهرجان، كما هو، ببدائيته. كأنه مفعم ببساطة الجماليات، أو جماليات البساطة، لسينما هاوٍ غير منتبه إلى عبقريته.
سينما سانغسو هي سينما الكلام، الكلام الملقى على عواهنه، بالمعنى الجميل، البسيط وليس التبسيطي. هي أقرب لسينما إيريك روميه لكن بنسخة آسيوية، ومن دون الادعاء الفرنسي. هي كذلك سينما تكسيرية، في فيلمه الأخير تحديداً. كسّر المخرج هنا بديهيات العمل السينمائي اليوم، ساخراً من هوس الـ 4K شديدة التشويش. أراد أن يقول إن جماليات السينما تكمن في فنّيتها لا تقنيتها. في ما تصوّره لا في أي نوع كاميرا تصوّر. الفيلم هذا مرافعة جمالية ضد أفلام المنصّات.
أخذَنا الانبهار بهذه البساطة، ولم نحكِ شيئاً عن القصة. لحظة، لا قصة هنا، شاب يوصل صديقته إلى بيتها، فيلتقي بوالدها الذي سيطلب منه البقاء للغداء، فيمضي مع العائلة حتى صباح اليوم التالي. حوارات لا تنتهي بينهم، تنقل الأب والأم من الإعجاب به إلى التشكك منه. ما إن يبدأ الفيلم حواراته، أوله، حتى تتقدم على مهل كالغيوم إلى نهايته، وهادئة كالضباب.