فناجين لغوية:

القاموس إناء اللغة لا أناها ولا آناءها

Composition A, Piet Mondrian, 1923, Neoplasticism, abstract.

25/02/2025

تصوير: اسماء الغول

فرج بيرقدار

شاعر سوري

فرج بيرقدار

ما هو أول معنى يخطر في ذهننا حين نقرأ كلمة "رفات" بدون تشكيل؟ 

أفترض أن أغلبيتنا ستذهب إلى معنى الحطام وبقايا الجسد أو جثة الميت، وقلة قليلة يمكن أن ترى فيها احتمال أن تكون "رفَّات" مثلاً، رفَّات أجنحة لكائنات لطيفة. 

الواقع يرخي ظلاله على الخيال، وبالتالي على اللغة.

*   *   *

القضية مشتقَّةٌ من فعل "قضى"، وبالتالي لا تصبح الحالةُ أو القصة أو المسألةُ أو المشكلةُ قضيّةً إلا إذا عُرِضتْ على القاضي أو القضاء. يعني ما كلما رأيتم حبّة تعملون منها قُبّة، و "ما كلما دقّ الكوز بالجرّة" تعملون منها قضية؟!

*   *   *

القاموس إناء اللغة لا أناها ولا آناءها.

*   *   *

الأول: الزمن ابن كلب.. حين نريده أن يمشي يتوقف ويحرن كدابة شموس، وحين نريده أن يأتي يذهب على هواه.

الثاني: استغفر الله يا رجل.

الأول: على ماذا؟

الثاني: إنك تسبّ الزمن، والزمن جزء من الدهر، وقد ورد في صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبّوا الدّهر فإنّ الله هو الدّهر".

الأول: اَلله يسامحك.. يا أخي أنا أين وأنت أين؟!

*   *   *

كثير من البدو في الأردن وسوريا والعراق والخليج يقولون مثلاً "على مْهَلَك" بدلاً من "على مَهْلِك"، أي أنهم ينقلون الفتحة من الميم إلى الهاء، وينقلون سكون الهاء إلى الميم "إبدال"، ويقولون "يْخَسا" أي يخسأ ولكنهم ينقلون سكون الخاء إلى ياء الفعل وينقلون فتحة الياء إلى الخاء، وهكذا يبدأ الكلام بساكن رغم أن أحد أسس العربية أنها لا تبدأ بساكن. بالطبع لغة أولئك البدو عربية في معظمها، إلا أنها على الأرجح مثلها مثل بقية اللهجات العامية، استعارت من السريانية أو غيرها بعض الخصائص من قبيل إمكانية البدء بحرف ساكن. 

*   *   *

يُقال "تستاهل.. وفوقها حبة مسك". لماذا لا يُقال "نقطة مسك" أو "رشّة مسك"؟. 

أعتقد أن أجدادنا لم يقصدوا العطر السائل، بل قصدوا حبّ المِسْك الذي هو نبات تُستعمل بذوره في صناعة العطور. وبالمناسبة.. المسك لفظة فارسية يقابلها في العربية "المشموم"، غير أن لفظة المسك انتشرت وسادت لرقتها مقارنةً مع ثقل لفظة "المشموم" وعَوْم وعموم معناها.

*   *   *

لو سئلتَ عن إعراب "مات الرجلُ"، فعلى الأرجح ستقول: مات فعل ماض، والرجل فاعل. وهنا قد يتمحَّل أحد المتمحّلين ويتهمك بالكفر، لأن الأعمار بيد الله، وهو المحيي والمميت، وبالتالي هو الفاعل. 

ولكن مثلما هناك فقهاء متمحِّلون، كأنهم يتقاضون أجراً مقابل التضييق عليك وتعقيد وتسويد عيشك، فلن تعدم فقهاء متمحِّلين يردّون عنك الكيد وينتشلونك من هذه الورطة المنطقية بشأن من هو الفاعل في موضوع الموت، بل سيقدّمون لك حلاً لا يخطر في ذهن إبليس، إذ سيعلِّمونك أن تُعرِب "الرجل" فاعلاً في اللفظ ومفعولاً به في المعنى. 

*   *   *

قال لي: اللغة الإنكليزية غريبة ومليئة بالشذوذات، ولا سيما في جمع الأسماء. تصوَّر أنهم يجمعون Man على Men وكان أسهل لو أضافوا لها حرف إس S كما في الجموع الأخرى. قلتُ: تشعر بذلك لأنها ليست لغتك الأمّ، ولكن واقع الحال يؤكِّد أن شذوذات الجمع في الإنكليزية أقل بما لا يقاس مما هي في العربية، إذ عندنا جموع المذكر وجموع المؤنث السالمين، والجموع الملحقة بهما، وتغيّرات إعرابها في الرفع والنصب والجر، وجموع التكسير أو غير السالمة أو الشاذة ، وجمع القلة وجمع الكثرة ومنتهى الجموع. هذا ناهيك عن الجموع المتعددة لنفس الاسم كجمع ظُفر على أَظْفار وأظفُر وأظافير، وعندليب على عنادل عناديب، ومخُّ على مِخاخ وأمخاخ ومخخة، وجبين على أجبنة وأجبُن وجُبُن، وبعير على بُعْرٌ وأباعِرُ وأباعيرُ وأَبْعِرَة وبعران ومئات بل آلاف على هذه الشاكلة. تنهّدَ وزفر بحرقة وهو يقول: كل مرة أقول لنفسي أن لا جدوى من النقاش معك أبداً، لأنك تستطيع أن تجعل اللبن أسود، ولكني لا أرى نفسي إلا وقد "تدعثرت" أمامك ووقعت.

*   *   *

كثيراً ما نسمع "جاؤوا بقضِّهم وقضيضهم". المعنى مفهوم ولكن قلة من يمحِّصون ويعرفون أن القضَّ كِبار الْحَصَى والقضيض صِغَار الْحَصَى، وبالتالي صار القصد أنهم جاؤوا جميعاً بكبارهم وصغارهم.

*   *   *

تساءلتُ مراراً إن كان تعبير "فضيحة بجلاجل"، الذي يتكرر كثيراً في الأفلام والروايات المصرية، فصيحاً أم لا، لأكتشف لاحقاً أنه تعبير فصيح مع حبّة مسك زيادة، وإن شئتم حبتين. 

الجَلاجِل هي الأجراس الصغيرة التي تُعلَّق في رقاب الدواب، وجُلجُل هو مفردها. وهكذا يصبح المعنى "فضيحة بأجراس".

والجلاجل بالانكليزية jinjle ، حتى لكأن الإنكليز فخذ من قبيلة تميم التي تقلب اللام نوناً، ولا سيما في حال التقاء لامين.

في سوريا ولبنان يقولون "عملوا تجريسة لفلان"، والتجريسة من الجرَس، أي من الجُلجُل، أما في العراق فيقولون "دير بالك.. ترى يدگولك جرس"، أي يعملون لك فضيحة مطنطَنة.

وكانوا قديماً في المغرب، وربما في غيرها أيضاً، يطوفون في المدينة بمن اقترف فضيحة من الفضائح والجُلجُل في عنقه، ما يعني أن تعبير "فضيحة بجلاجل" كان حقيقياً، ثم أصبح فيما بعد مجازياً.

الكاتب: فرج بيرقدار

هوامش

موضوعات

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع