شاهدتُ حداده على أمّي متجسداً بعضلات جسمه المشدودة: عضلات ساعديه اللتين تعيدان دهن المنزل، عضلات فخذيه اللتين تركضان في الحقل صباحاً، وعضلات رقبته التي تؤلمه فيفرُكها بيده. أحياناً أفركها له وأنا مارّة بجانبه فيقول: "شكراً يا حبيبتي."
هل الجميع يفضلون التعب على الحزن؟
أعلم أن من الأفضل ألا أتوجه له بالأسئلة التي تؤرّقني. بدلاً من السؤال أخرج وأستلقي على العشب، حقلنا واسع ونديّ، حين أستلقي فيه يصبح الصيف أخفّ وأشعر أننا في الربيع. كما أن جمال الطبيعة يخفف من قبح الأفكار التي تخطر لي أحياناً، مثل فكرة أني لم أحبّ أمي إلا بعد موتها، لا أعرف كيف أشرح هذا الأمر.
بالعادة لا أنام في الحقل، لكني غفوتُ الأسبوع الماضي وأنا مستلقية هناك وحلمتُ بأن أبي تحوّل إلى تنّين، حين أخبرته بذلك ابتسم لي ثم عاد إلى كتابته. الأمر الغريب هو أني منذُ نمتُ خطأً في الحقل وأنا لا أستطيع النوم في أي مكان آخر، أستلقي إلى الأبد في سريري دون أن يواتيني النوم، جرَّبتُ كل شيء ثم طلبتُ مساعدة أبي الذي أعدَّ لي خلطات منوّمة لكن بلا جدوى، حتى صديقه الطبيب لم يفدنا بشيء رغم ما نصحنا به من أدوية.
كنتُ قد أمضيتُ أسبوعاً كاملاً بلا نوم حين عدتُ واستلقيتُ منهكةً في حقلنا، وحالما لمس ظهري العشب غفوتُ فوراً، كانت غيبوبة صغيرة خضراء أراحتني أخيراً ومدَّتني بأحلام لم يسبق لي أن رأيتُ مثلها من قبل، حلمتُ مثلاً بأن كاتدرائية ضخمة حلَّقت في سماء الليل مثل سفينة فضائية. لا زلتُ أذكرُ صوتها، يشبه صخبَ صمتِ الفضاء كما أتخيَّله، مثل صوت أنين الكهرباء وراء الجدران أو ذاك الصفير الذي نسمعه داخل آذاننا في الصمت المُطبق.
بتُّ أمضي لياليَّ نائمة في الحقل، ومن خوف أبي عليّ من الغرباء صار هو أيضاً ينام في الحقل إلى جانبي، ولفترة طويلة كنتُ سعيدةً بلعنتي الصغيرة، ننام أنا وأبي بالقرب من أمي، ملامسين تراب نومها العميق. أحياناً، عندما نغمض أعيننا موشكين على الغفو، لا أستطيع التفريق بين أنفاسنا والريح، ولا بين الحياة والموت، وأجد نفسي أبتسمُ داخل العتمة الدافئة لجفوننا المغلقة.
لكنَّ ليالينا الهادئة لم تستمر طويلاً. في أحد الأيام، كنّا عائدين إلى قريتنا بعد أن أنهينا تسوّقنا في المدينة، وحين وصلنا رأينا جيراننا ملتفّين يتحدثون حول رائحة ما بجانب منزلنا، رائحة وقود مسروق تخلص منه أحد ما هرباً من المساءلة القانونية، هذا كان تفسير أهل الضيعة، أما نحن فلم نكن نبحث عن تفسير، كنا نبحث عن حقلنا الغائب وراء كل هذا السواد.
أين سأنام الآن؟
في تلك اللحظة ضمّني أبي إليه وعانقني بقوة، لم أكن خائفة من موتي بقدر ما كنتُ خائفة من رفع رأسي والنظر في عينيه، من رؤية خوفه عليّ من الموت. لم أرد تصديق الأمر، ركضتُ نحو الحقل ولمستُ المادة السوداء، انتفضتُ إلى الوراء وأنا أكاد أجزم أنها لسعتني. اقترب أبي ووضع يده على كتفي، نظرت إلى وجهه وانهرتُ باكيةً.
هل الجميع يفضلون أن يحزنوا على أن يروا حزن من يحبّون؟
في الأيام التالية حاولتُ النوم داخل المنزل، لكن أرقي القديم عاد محمّلاً برائحة الوقود، كان أبي أيضاً يعاني من صعوبة في النوم لكنه يغفو عاجلاً أم آجلاً. تذكرتُ استلقاءنا المؤقت على العشب، كانت المرة الأولى التي نجتمع بأمي منذ زمن، هل كان يفكر بها أم بي وهو مستلقٍ هناك؟ هل حبه لي منفصل عن حبه لها أم أنهما يمتزجان داخله كالسُحب؟ ثمّ لماذا أشعر بالغضب منه عندما يغفو؟ لماذا أفترض أنه لن يقدر على النوم لو كان يشعر بي؟ ماذا لو كان أبي، رغم قدرته على النوم، يعاني بقدري في هذه الليالي؟
مرَّت الأيام وأنا أزداد تعباً، أخذوني إلى مشفى المدينة ولم ينفع الأمر، في النهاية حاول أهل القرية نزع الوقود أو غسله عن الحقل، لكن أيّ أثر متبقٍ له كان يمنعني عن النوم. في أحد الصباحات، ناداني أبي إلى الفطور لكني لم أقوَ على الحركة، كنت مستلقيةً خائرةَ القوى في فراشي، أشاهد حقلنا من النافذة. سمعتُ أبي يصعد الدرج ليطمئنّ عليّ، دخل غرفتي ووضع يده على جبيني ثم مسَّد رأسي وشعري وخدّي، كان يحدق بي وعيناه ممتلئتان بدموع حبّ قوي، لكني لسبب ما كنتُ أشعر أن نظرته تخترقني وأننا لسنا حاضرَيْن معاً في نفس الغرفة، كما لو أنه ينظر إلى أحد ما ورائي، لحظتها فهمتُ أنه يفكر بأمي عندما يبكي عليّ.
في ذات المساء سمعتهُ يخبر جارنا بأنه سيجرّب حلاً أخيراً، من النافذة شاهدته يخرجُ حاملاً شمعدان غرفة السفرة ويقترب من الحقل الأخضر الداكن المُعتم، رأيتهُ يحدّق بسواد الحقل مطوّلاً قبل أن يستجمع قوته ويرمي الشمعدان على العشب.
هبَّ الوقود حارقاً الحقل، كانت النيران تتطاير في سماء ليلنا وأبي ينهار جاثياً على ركبتيه، مستنزفاً ومنهكاً تحت ثقل حداده. رأيته ينحني ويسند رأسه على العشب، كنتُ أعلمُ أنه لو تبقَّت فيه طاقة الآن لرفع رأسه ونظر إليّ، ولكُنّا حدقنا ببعضنا، أنا من غرفتي وهو من حقلنا، مفكّرين معاً ليس فقط بموتِ أمي وموتي المُحتمل وموته من بعدنا، بل بكل موت تذكّرنا به هذه المادة السوداء في أيّ مكان، حتى لو لم يكن يُرى من هذه النافذة.