تشير الأدبيات العالمية إلى الفيلسوف والاقتصادي الليبرالي الاسكتلندي آدم سميث بوصفه مؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي وأحد رواد ومؤسسي علم الاقتصاد السياسي وواضع مبادئه الأولى في كتابه المشهور "ثروة الأمم" الذي نشر عام 1776. وإذا ما كان هناك سؤال يفرضه الوضع الراهن -المتعلق بتعقيدات المرحلة والحالة السياسية والاقتصادية- على الفلسطينيين بصفة خاصة، وعلى العرب بصفة عامة، فهو السؤال القديم الجديد المتمحور حول ماهية العلاقة بين الاقتصاد والسياسة بوصفهما المحددان الرئيسان لركائز الحياة الاقتصادية-الاجتماعية وكيفية تشكيل السياسة للاقتصاد العالمي من ناحيةـ وكيف يشكل الاقتصاد العالمي السياسة ويؤثر عليها من ناحية أخرى. وهناك حاجة ماسة إلى إعادة طرح هذا السؤال اليوم أكثر من أي وقت مضى لاعتبارات متعددة، كالتصورات المختلفة المحيطة بواقع غزة ومستقبلها وبما يشهده الفلسطينيون عموماً وعلاقة ذلك بالتحديات والرهانات المرتبطة بالسياق العالمي التي قد تشكل خطراً وجودياً وتهديداً لحاضرنا ومستقبلنا.
ولعل أحد أهم محاور النقاش الذي يتوجب علينا استحضاره اليوم هو مساعي تهجير أهل غزة وإعادة قراءة سلوك "الرئيس" رجل الاقتصاد والسياسة من خلال تقديم قراءة آنية لكتاب جون بيركنز "الاغتيال الاقتصادي للأمم: اعترافات قرصان اقتصادي." ذلك أن الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار الهش لما يكد يدخل حيز التنفيذ في غزة حتى طالعنا الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بخطة "تطهير غزة" ورؤيته حول إعادة الإعمار وتصوراته المتعلقة بتهجير السكان ونقلهم إلى الأردن ومصر، معتبراً أن إعادة إعمار غزة ستكون أسهل بكثير مع رحيل سكانها، الأمر الذي قد يكون مؤقتا أو قد يدوم أمدا طويلا. بل إن أحد التصريحات المنسوبة إلى بعض المسؤولين في إدارته تشير إلى وجود توجه لترحيل قسم من السكان أبعد من ذلك ونقلهم إلى أندونيسيا لحين الانتهاء من إعادة إعمار مدينتهم التي تغزل بها ترمب بمجرد دخوله إلى البيت البيض معتبرا أنها مدينة جميلة تتمتع بموقع استثنائي على ساحل البحر المتوسط وطقس جميل، لكنها اليوم تحولت إلى كومة من الركام، موضحا أنه قد يشارك في إعادة الإعمار لكنه حذر من عودة "القتال" إليها في حال فشل اتفاق وقف إطلاق النار.
ويبدو أن ردود الفعل "الطبيعية" لدى كل من الأردن ومصر، والمتعلقة برفض هذه المساعي التي تمس بسيادة الدول، قد أثارت العديد من التساؤلات لدى بعض رجال الاقتصاد والسياسة والصحافة الذين تداولوا العديد من التحليلات والرؤى السياسية والاقتصادية حول قدرة كل من البلدين على الصمود أمام هذا "المقترح." وفي رده على سؤال أحد الصحفيين إذا ما كان ممكناً إجبار البلدين على استقبال أهل غزة وقبول ذلك من خلال ممارسة ضغوط معينة مثل فرض تعرفة جمركية، قال ترمب الذي أمر بوقف المساعدات الأمريكية عن فلسطين والأردن "لإعادة التقييم" لمدة ثلاثة أشهر، إنه متأكد من أن مصر والأردن ستفعلان ذلك، مضيفاً "نحن نفعل الكثير لاجلهما وسيفعلان." جاء ذلك في الوقت الذي صرح فيه وزير مالية الاحتلال المتطرف سموتريتش أن الفلسطينيين يقفون عائقا أمام تنمية وازدهار المنطقة وأنه لن تكون لهم دولة.
وفي الوقت الذي كانت الأنظار فيه معلقة بالخطة المصرية لإعادة إعمار قطاع غزة، والتي تؤكد على إمكانية إعادة الإعمار دون تهجير سكان غزة الذي سيكونون جزءاً أساسيا من العمالة المطلوبة لإنجاز الخطة التي تبنتها جامعة الدول العربي في الرابع من آذار 2025، بادر البيت الأبيض إلى الإعلان عن رفض الخطة -ذلك بعد أن رفضتها إسرائيل، وسط تأكيد بالتزام ترمب بخطته "ريفييرا غزة" التي قام مسبقاً ببث فيديو توضيحي لها باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي حيثي ظهر هو ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يحتسيان مشروبهما على أحد شواطئ غزة. السلوك الذي لم يكن غريبا على الإدارة الأمريكية التي يرى رأسها أن الرب قد أنقذه ليجعل أمريكا عظيمة مجدداً، والذي يمعن في استغلال هيمنته وسلطته لفرض إملاءاته واشتراطاته على الدول الأخرى، تهديداً ووعيداً، على مرأى ومسمع من العالم.
في كتابه الشهير، يوظف جون بيركنز مفهوم "قراصنة الاقتصاد" ليشير في مقدمته إلى من أسماهم خبراء محترفين أجورهم مرتفعة ومهمتهم هي أن يسلبوا ملايين الدولارات بالغش والخداع من دول عديدة في سائر أنحاء العالم، ويكشف عن الدور الخفي الذي تلعبه المؤسسات المالية والشركات متعددة الجنسيات في فرض السيطرة الاقتصادية على الدول النامية، حيث موضحاً أن قراصنة الاقتصاد. يوضح بيركنز كيف يتم إغراق الدول بالديون، وإجبارها على تنفيذ سياسات تخدم مصالح القوى الكبرى على حساب شعوبها، مما يؤدي إلى استنزاف مواردها وإضعاف سيادتها. لكن أحد الجوانب الأقل تناولًا في هذا السرد هو تأثير هذه السياسات على البنية المكانية والاجتماعية للدول المستهدفة، من خلال عمليات المحو المكاني والتهجير "الطوعي"، كأدوات للتحكم في المجتمعات وإعادة تشكيلها بما يتناسب مع المصالح الرأسمالية العالمية.
الديون والهيمنة: من السيطرة الاقتصادية إلى التهجير
يشرح بيركنز في كتابه كيف يتم استدراج الدول النامية إلى مصيدة الديون عبر مشاريع بنية تحتية ضخمة يتم تمويلها من خلال قروض تقدمها المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. هذه المشاريع، التي تبدو في ظاهرها كوسيلة للتنمية، تُصمَّم في الواقع لتعزيز تبعية هذه الدول للشركات الغربية من خلال توريطها في ديون لا يمكن سدادها، مما يجبرها لاحقًا على تقديم تنازلات سياسية واقتصادية. ولكن ما لا يقوله بيركنز بشكل مباشر هو أن هذه العملية غالبًا ما تترافق مع تغييرات جذرية في البنية المكانية للدول المستهدفة. فعندما تُفرض مشروعات البنية التحتية الضخمة –مثل السدود، والمناجم، والمناطق الاقتصادية الخاصة– يتم تهجير السكان المحليين قسرًا أو "طوعًا"، حيث يجدون أنفسهم مجبرين على مغادرة أراضيهم بسبب تدهور الظروف الاقتصادية أو البيئية. هذا التهجير يُعدّ أداة فعالة لإعادة تشكيل الفضاء الجغرافي بما يخدم الاستثمار الأجنبي، بينما يتم تفكيك المجتمعات المحلية وإفقادها قدرتها على المقاومة.
المحو المكاني: إعادة رسم خرائط السيطرة
يشير مفهوم المحو المكاني إلى عملية مستمرة في تاريخ الاستعمار والرأسمالية العالمية، حيث يتم إعادة رسم الخرائط الجغرافية بما يتناسب مع مصالح القوى الاقتصادية الكبرى. في كتاب بيركنز، نرى كيف يتم ذلك من خلال تحويل الأراضي الزراعية إلى مناطق صناعية أو مشاريع ضخمة تستفيد منها الشركات الغربية، بينما يُترك السكان المحليون دون بدائل اقتصادية حقيقية. في العديد من الحالات، يتم تقديم عمليات التهجير على أنها "طوعية"، حيث يُعرض على السكان تعويضات مالية أو فرص عمل جديدة، لكن في الواقع، هذه البدائل ليست كافية لضمان استقرارهم الاجتماعي والاقتصادي. بمرور الوقت، يجد هؤلاء السكان أنفسهم مضطرين للهجرة نحو المدن الكبرى أو خارج أوطانهم بحثًا عن فرص أفضل، مما يعزز عمليات التحضر القسري ويؤدي إلى تفريغ المناطق الريفية والمناطق ذات الأهمية البيئية والموارد الطبيعية.
الهجرة كأداة للهيمنة الاقتصادية
ترتبط هذه العملية بمفهوم "الهجرة كأداة للهيمنة"، حيث يصبح التهجير الطوعي شكلًا من أشكال الاستعمار الجديد. فالأفراد الذين يُجبرون على مغادرة أراضيهم بسبب السياسات الاقتصادية المفروضة عليهم يصبحون جزءًا من القوى العاملة العالمية التي يتم استغلالها في ظروف عمل غير عادلة، سواء في الدول المتقدمة أو في الدول النامية الأخرى. وفي هذا السياق، تصبح الهجرة ليست مجرد نتيجة للسياسات الاقتصادية، بل تطفو إلى السطح بوصفها أداة يتم توظيفها لإعادة توزيع اليد العاملة بطريقة تخدم المصالح الرأسمالية الكبرى. فالمجتمعات التي يتم تفكيكها تفقد قدرتها على التفاوض أو المقاومة، مما يسهل على الشركات متعددة الجنسيات استغلال الموارد الطبيعية والبشرية دون عوائق كبيرة.
نحو قراءة ما بعد استعمارية للاغتيال الاقتصادي
يضع كتاب "اعترافات قرصان اقتصاد" الأساس لفهم أوسع لكيفية عمل النظام الاقتصادي العالمي، لكنه يظل محصورًا في رؤية فردية تُركّز على الدور الأمريكي في السيطرة الاقتصادية. من منظور أوسع، يمكن قراءة عمليات الاغتيال الاقتصادي للأمم كجزء من مشروع استعماري جديد يستخدم أدوات اقتصادية بدلًا من القوة العسكرية المباشرة، لكنه يؤدي إلى نفس النتائج؛ فقدان السيادة، وتدمير الاقتصادات المحلية، وإعادة تشكيل الفضاء الجغرافي بما يخدم مصالح القوى الكبرى. وبالتالي فإن تفكيك هذه العمليات يتطلب النظر إلى ما وراء الأرقام والإحصائيات، والتركيز على التبعات والآثار الاجتماعية والمكانية للسياسات المالية والاقتصادية "الاستعمارية" وأبعادها الرأسمالية، وكيف تُستخدم الديون والمشاريع الضخمة كأدوات لإعادة تشكيل المجتمعات بطرق تؤدي إلى تفكيكها وتهجيرها، مما يسهل استغلالها لاحقًا في الدورة الاقتصادية العالمية.
خاتمة
إن العلاقة بين الاغتيال الاقتصادي للأمم والمحو المكاني والتهجير "الطوعي" تكشف عن أبعاد خفية للهيمنة الاقتصادية العالمية. فما يصفه بيركنز في كتابه ليس مجرد مؤامرة اقتصادية، بل هو جزء من استراتيجية رأسمالية طويلة الأمد تستخدم الديون والوعود الكاذبة بالتنمية كأدوات لفرض سيطرة غير مرئية، لكنها فعالة. هذه الاستراتيجيات لا تؤدي فقط إلى إفقار الدول، بل إلى إعادة تشكيل مجتمعاتها بطرق تجعلها أكثر عرضة للاستغلال، سواء داخل أوطانها أو في أماكن هجرتها الجديدة. في النهاية، لا يمكن فصل الاقتصاد عن الجغرافيا، ولا يمكن فهم السيطرة الاقتصادية دون النظر إلى آثارها المكانية والاجتماعية. وعليه فإن استعادة السيادة الاقتصادية تستلزم استعادة السيطرة على المكان، وعلى طرق إنتاجه وإدارته، وإعادة بناء المجتمعات بحيث تكون قادرة على المقاومة، وليس فقط التكيف مع نظام اقتصادي عالمي مصمم لإبقائها في موقع التبعية. وعليه فإن الرؤى المحلية حول إعادة الإعمار والتصورات المحيطة بمستقبل غزة وما يجب أن تكون عليه المدينة، لا بد أن تحمل في ثناياها قالباً محلياً وعدسة تخطيطية تجابه كل مساعي إعادة التنظيم المكاني للسكان وتهجيرهم، وأن يتم النظر إليهم بوصفهم أحد ركائز المشهد المديني ومكوناته خارج سياقات الرأسمالية وتغولاتها التي تتبنى المحو والإبادة كسبيل لإعادة إنتاج وتنظيم الفضاء.