ساعات قبل افتتاح مهرجان كان السينمائي، الثلاثاء، وقّع مئات السينمائيين، في مختلف اختصاصاتهم وجنسياتهم، رسالة تنديد بالصمت حيال غزة، مانحين المهرجان الفرنسي فرصة الاتكاء (سلّماً للنزول) على هذا الجمع الكبير، بأسماء أوروبية وأمريكية كبرى، فيخرج المهرجان بكلمة وإن مقتضَبة حيال الإبادة التي يرتكبها الإسرائيليون في حق الفلسطينيين. بيان لم يخجل من تحديد مفرداته وإن حصر نفسه بالاختصاص السينمائي. لم يحرّك البيان ساكناً، سكون المهرجان الذي خصّ أوكرانيا ببيان صحافي لا طعم له، يشير، وحسب، إلى أنه يعرض ٣ أفلام أوكرانية، فرحاً بنفسه قبل أن يكون بها.
رئيسة لجنة التحكيم الرسمية، الممثلة جولييت بينوش، سُئلت في المؤتمر الصحافي للجنة، من قِبل مراسلة "الجزيرة الإنكليزية"، عن سبب غياب اسمها عن التوقيع، تلعثمت قد أجابت: "ستفهمين لاحقاً". ندرك أن اللاحقاً هذه كانت خلال حفل الافتتاح الذي أشارت فيه بينوش، بكلام عاطفي إنساني، إلى مقتل فاطمة حسونة، بطلة الوثائقي "ضع روحك على كفك وامشِ"، المعروض في التظاهرة الموازية ضمن المهرجان، "أسيد".
الرسالة كذلك لم تخرج عن مجالها السينمائي، لكنها سمّت الممارسات بمسمياتها، مستهلين البيان القصير بفاطمة وخاتمين إياه بالاعتداء على حمدان بلال أحد مخرجي فيلم "لا أرض أخرى". لا بأس، فليكن، وإن بعد أكثر من عام ونصف من إبادة ببثٍّ مباشر.
لا بأس باللجوء إلى اختصاصٍ ما، ضمنه ينحصر التعبير عن فعل التضامن، كما أقام صحافيون فرنسيون وقفةً الشهر الفائت، في ساحة الباستي بباريس، تضامناً مع الضحايا الصحافيين، حصراً، في غزة. هو نوع من التضامن مع الزملاء، صحافيين أو سينمائيين أو مسعفين أو غيرهم. لا بأس، ليس هذا أفضل ما ينتظره أحدنا لكنه مدخل لغيرنا يهوّن عليه التصريح بفعل التضامن يكون مهنيّاً، سينمائياً مثلاً، كي لا يحمل وزر التضامني السياسي في فرنسا، وهذا البعض، وفي حديث آخر، سينمائي مثلاً، يحصل أن يستعير عبارة من السينمائي والشاعر بيير باولو بازوليني في أن حتى السكس سياسيٌّ. أما التضامن مع غزة فلا بد أن يكون بواسطة ووساطة مهنيّة. تضامن هؤلاء "أبغض الحلال". هو كبيان لحركة "فتح"، إن لم يقدِّم -وغالباً لن يفعل- فهو لن يؤخِّر.
لا أخفي الشعور باللامبالاة تجاه قطاع السينما في فرنسا. لا أشعر بمواطنيّة تجمعني بهم. هم غالباً، باستثناءات قليلة، على الطرف الآخر. نوع من اللامبالاة ترسَّخ لديّ تجاه ما يقولونه بشأن غزة وما لا يقولونه. لا ينفي ذلك أن سينما ممتازة يصنعونها، ولا ينفي ذلك أن المهرجان بأفلامه قيمةً سينمائية علياً. هذا موضوع آخر. يقابله القول الصحيح في أن ليس كلّ فيلم حمل راية فلسطينية صار عظيماً، فمعظم إنتاجاتنا متواضع، وهذا سبب آخر للحزن.
سعدت، للحظة وحسب، بسماعي ما قالته جولييت بينوش في حفل الافتتاح، للحظة وهي عاطفية تماماً، قبل أن يستدرك العقل بأسئلته: لمَ الآن فقط؟ هل قتلُ خمسين ألف فلسطيني لم يكن يكفي، فكان لا بد من الانتظار ليرتفع الرقم قليلاً، كأنها، وغيرها، تقول: "أرجوكم ارفعوه قليلاً حتى يستحق هؤلاء التضامن مني"؟ ما المطلوب أكثر كي تقرر الديڤا الفرنسية وغيرها أن لا مجال للسكوت بعد؟ "فنانون" كهؤلاء، هل هم جديرون بالاكتراث بتصريحاتهم السياسية في أي شأن، في زيلينسكي وديبارديو وبغيضين آخرين مثلاً؟
لحظة عاطفية سعدتُ بها، انتهت وبقي الموقف الفكري، الرافض للمتاجرة بأرقام الضحية، بأن ارفعوا الرقم قليلاً، سِيلڤوبْليه، ارفعوا السعر قليلاً، أتهيّأ للإدلاء بتصريحي، أظنني مريم العذراء بفستاني هذا.
النتيجة، سعدتُ لموقف بينوش، هي سعادة لحظية كنقطة في خط من الحزن، وتزيد من تأثير الحزن اللاحق والباقي. هو خط من الحزن من الغضب، وتخالطهما فتكون الخيبة. خيبة مزمنة ولامبالاة من الموقف التضامني وغير التضامني (لا ينفي فرح اللحظة الباهت) من فرنسيين مواقفُهم الثابتة لم تتزعزع، ولن تعكّرها إشارة سريعة لن يكون تجاهلُها، بفعل الرسالة السينمائية من مئات الموقّعين، سوى موقف آخر.
السكوت حيال غزة لا يكون سوى موقف صارخ، فكانت البلادة بإعلان التضامن، ضمن الآخرين، كأنه واجب لا بد منه يمرّ عنّا فندخل يوماً جديداً مخلِّصاً، محتضِناً صراخةَ موقف الساكتين.