من بعد فيلم افتتاح لا يَخرج منه أحدنا غير متسائل: كيف وصل الفيلم ليكون افتتاح دورة في مهرجان كان السينمائي، وتحديداً في دورة قوية كهذه، كما تشي العناوين والأسماء حتى قبل المشاهدة، من بعدها، من بعد فيلم الفرنسية أميلي بونّان هو Partir un jour في خارج المسابقة، استهلّ المهرجان أفلام مسابقته الرسمية لهذه الدورة بفيلم عالٍ، بجرعات كبيرة من العنف النفسي، المكتوم، فيحوم العنف كالشبح. غير مرئي وغير محكي عنه، نشعر به وحسب.
فيلم الألمانية ماشا شيلينسكي "صوت السقوط" (Sound of Falling)، أو بعنوانه الألماني "انظر في الشمس"، هو البداية المثالية لدورة ممتازة بأفلام مرتقَبة. وقد يزيد من إدراك مثالية استهلال دورة عالية كهذه، لهذا الفيلم، العرضُ الآخر من المسابقة في اليوم ذاته، فيلم تقليدي ممل هو Two Prosecutors للأوكراني سيرجي لوزنيتسا. بهما أنهى المهرجان يومه الأول.
ينقل "صوت السقوط" قرابة ١٠٠ عام لبيت عائلي في الريف الألماني، أجيال من النساء فيها تحديداً، بأعمار متفاوتة. ولا ينقلها بسردية خطّية كأنها أحداث تاريخية، بل في كونها حدثاً واحداً متكرراً، منسوخاً، على نساء العائلة في أجيالهن، مضمونها العنف المكتوم، لا نراه فنرى أثره، النفسي تحديداً، متكشّفاً في نظرات الفتيات والنساء، كأنهن يحدّقن في الشمس، تحديقاً في الآخرين شخصيات في الفيلم ومتفرّجين أمامه. ومن مواقعهن في ظل العائلة الذكورية التي مرّت على حروب هي العالمية الأولى فالثانية مروراً بسقوط جدار برلين وصولاً إلى يومنا.
الفيلم حالة متقدمة جمالياً في السينما الألمانية للسنوات الأخيرة، بصرياً كما هي صوتياً. هذا التفاؤل حيال الفيلم يعود إلى تكامله، فتصميم الصوت وإدارة التصوير كانا حاضرين في الواجهة، بارزين كأن كل منهما شخصية منفصلة عن الأخرى، وعن الآخرين.
انسحابات الكاميرا جعلتنا للحظة نرى بعيون شبح تتردد إشارات له، شبح نسائي يتنقّل من جيل لآخر، يتنقّل لا ينتقِل، فيتحرك جيئةً وذهاباً، متردّداً. نرى انسحابات لكاميرا كأنها تحلّق، بل نرى امرأة من العائلة تحلّق مواجهة العاصفة في وقت اختبأ الجميع خلف ركام القش. الصوت كان كثيفاً، لم يكن خلفيةً، كان في الواجهة كأنه صورة أخرى، كأنه شخصية أخرى. كأنه تفصيلاً ضرورياً في السرد.
لم يحكِ لنا الفيلم قصة نسائية في تاريخ مستقر، في سردية مستقرة، بل كان أسلوب السرد مضطرباً، كما يجب لموضوعه، كما كانت ألمانيا في تاريخها المعاصر. العنف الذكوري الممرَّر على طول القرن، في العائلة، كان موازياً لعنف شعب ودولة طبعت القرنَ ذاته، فطبعت الرجالَ بتلبّسهم العنف وإسقاطه على النساء. ولأن الفيلم شاعري، أقرب إلى نص نثري متقطّع، بفقرات متتالية، متداخلة إحداها بالأخرى، تفوح على الشاشة، تروي كل منها عن واحدة من نساء العائلة لأربعة أجيال، على مدى القرن.
يُداخل الفيلم بين قصص النساء في أجيالهن كأن كل واحدة منها، ومنهن، تحكي عن الأخرى أو تكمل من حيث توقفت. هذا العنف الألماني، الممتد لأكثر من قرن، لم نرَه حقيقةً في الفيلم، رأينا آثاره، رأينا نظرات نسائه المحدّقات في الشمس، في العنف، تحدّياً.
نحن أمام قصة واحدة متصلة، بأزمنة منقطعة، أمام نص نثري، نسمع بصوت نسائي، يروي لنا بضمير المتكلّم، لا ما يحصل بل الشعورَ المرافق لهن، لكل واحدة منهن، لما يحصل. هو كذلك، الصوت، متنقّل في أجيال العائلة، فنسمع قصة واحدة، لنساء تترقّب توحّشاً ما في العائلة، توحّشاً ما في البلاد.