ويس أندرسون مُبالَغ في تقديره. لا يعني ذلك أن فيلمه هذا أقل من العادي، لكنه ليس فوق العادي، ليس خاصاً إلا بقدر ما يمكن أن يكون أندرسون، لهذا المشاهد أو ذاك، خاصاً.
للمخرج الأمريكي معرض استعادي في السينماتيك الفرنسية حالياً، وفيه مقتنيات وألعاب ومجسمات وصور وفيديوهات وملصقات وغيرها الكثير مما بنيَت عليه أفلامه، بأسلوبه الخاص. ببساطة، المعرض حدث فوق العادي، وخاصٌّ لأي محب لأفلام أندرسون، لكنه ليس خاصاً لأي محب للسينما وغير مكترث بتلك الأفلام. امتياز المعرض عموماً يعود أساساً إلى روعة معارض السينماتيك الباريسية في تصميمها، بغض النظر عن موضوعها.
لكن كذلك هي سينماه، إما أن ننبهر بها، لخصوصية مسألتين تسيطيران فيها، هما السرد المتقاطع والمبعثر من أكثر من راوٍ، بما فيه تقارير وقصاصات إخبارية، وكذلك التصوير والألوان الخاصَّين، المميَّزين، وقد صارا علامة تشير إلى سينماه. وهذا نراه في مهرجان كان ذاته، ومنه. فالمساحة الخاصة بالقهوة لخدمة الصحافيين وغيرهم في قصر المهرجان، صمِّمت هذه السنة بنمط سينما أندرسون، ألواناً وديكوراً. والمهرجان أنجز فيديو "ريل" دعائي، كان كذلك، ألواناً وتقطيعاً وأداءً، بأسلوب أندرسون، هذا الساحر الباهر أكثر منه السينمائي، هذا الملوّن ومصمم الديكورات أكثر منه الحكّاء.
لكن، بمعزل عن التقدير الأعلى من المستحَق، وهو تقدير شكلي وبصري أساساً، أتى فيلمه "المخطط الفينيقي" (The Phoenician Scheme) أفضل من أعماله السابقة، طويلة وقصيرة، وخاصة آخرها، وقد تناولتُه في قراءة نقدية قصيرة مبدياً خيبةً تجاهه، خلال مشاركته في المهرجان الفرنسي ذاته قبل عامين.
يحكي "المخطط الفينيقي" عن رجل أعمال فاحش الثراء، صاحب استمارات في مكان متخيَّل في شرق المتوسط، تحاربه الحكومة الأمريكية، يقع في ورطة مالية فيمضي في مشوار إلى المستثمرين في مشاريعه لمحاولة إقناعهم بتخفيض نسب أرباحهم.
لسنا هنا أمام قصة، لسنا أمام شيء يُحكى مع إثارة للاهتمام. بل أمام كيف يحكيه، بالأسلوب ذاته. القصة تُكتَب بسطرين، وهنا تبرز أهمية أندرسون، كأنه لا يعطي اهتماماً بما سيحكيه، فالفيلم شكل وأسلوب، والقصةُ تتبعهما مهما كانت، تتكيف معهما، لذلك تبدو أفلامه متماثلة كأنها عمل واحد طويل بحلقات لها شخصيات منفصلة.
الفيلم جيد، لا ينافس معظمَ غيره في المهرجان لكنه ممتع، إن أحببنا مسبقاً أفلام أندرسون سنحب هذا أكثر منها، وإن لم تعنِ لنا تلك الأفلام شيئاً فهذا الأخير سيكون أقل وطأة. لن تضرَّ مشاهدتُه.
أشاهد أندرسون للاستمتاع بالصورة، وبالكوميديا، للاستمتاع بأسلوب نقلِ حوارات لا تصنع قصة جيدة بالضرورة، لكنها، الحوارات، تبدو كأنها مكْتفيَة بذاتها، كما هي الصورة مكْتفيَة بذاتها في تقديم فيلم ليس سيئاً بالضرورة. الفيلم هو عمل أندرسونيّ آخر، ليس رائعاً، بالتأكيد، وإن لم يكن مملاً. لكن الأهم أنه ليس بمستوى التقدير العالي، الشكلي دائماً، الذي يناله، فرنسياً تحديداً.
في حالة ويس أندرسون، أقول تماماً إن المخرج أهم من أفلامه، وهذا لا يكون سوى ذمٍّ، ولا يكون أبداً مدحاً.