للنرويجي واكيم ترير سينما خاصة، عاطفية، بالمعنى التراجيكوميدي للكلمة. لا استهلاك للعواطف في أفلامه. لا يصوّر انعكاساتها على أفعال شخصياته، كأنها حركات خارجية نراها في سطحها. بل يصور العاطفة بنقائها مبيَّناً في شخصيات. ترير يصوّر العاطفة كمن يصوّر الريحَ في صورة صافية للسماء، لا في أوراق تتطاير.
النقاء العاطفي هنا لا نرى تمثيلاته أو نسمعها في الشخصيات. بل، أكثر، نشعره في ما وراء الأفعال والكلام. لقطات مقرّبة تكثر على الملامح المشبعة بالعواطف. كلام قليل، كأنه همس، يفوح بما تسعه كلماتٌ في عبارة أو اثنتين، هذه هي سينما ترير، نراها في أفلام رائعة له أولها "أسوأ شخص في العالم" المعروض في مهرجان كان سنة ٢٠٢١، ثم "أوسلو، آب ٣١".
في فيلمه المشارك بالمسابقة الرسمية للمهرجان، "قيمة عاطفية"، يواصل ترير تتبّعه للعواطف في حالاتها القصوى، في أقصى انعكاساتها على الملامح، مستعيداً واحداً من أقوى المشاهد في تاريخ السينما حيث تتشابك الملامح عاطفياً، من فيلم "بيرسونا" لإنغمار بيرغمان. استعاده في طبعة طبق الأصل، ومعاصرة، متشابك فيها أكثر من ملمح لأكثر من وجه لأكثر من شخصية.
الفيلم المتقدم في روعته، الأجمل حتى اللحظة من ضمن أفلام المسابقة الرسمية، الأكثر حساسية ورهافة، المتوغّل في العاطفة كمن يحفر بئراً، يحكي عن مخرج سينمائي مكرَّس، ومعتدٍّ بنفسه، ترك زوجته وابنتيه منذ سنوات. هو في علاقة متوترة مع ابنتيه، الكبرى تحديداً، وهي ممثلة مسرحية. يجتمعون في بيت العائلة إثر موت الأم. يحاول الأب التقرب من ابنته بسيناريو كتبه عن أمه، ظاهراً، وعن ابنته باطناً، عن علاقته القلقة عاطفياً مع كل منهما، بوصفه ابناً وبوصفه أباً. ترفض الابنة بدايةً فلا تريد العمل مع والدها أو حتى التقرب منه. فيجد الأخير ممثلة هوليوودية يضطر من أجلها تغيير لغة الحوار، وتضطر لأجله صبغ شعرها تشبّهاً بابنته. تتطور القصة، العاطفة فيها تكبر، الشخصيات تتقارب وتتباعد. طبقات من العاطفة، من القيمة العليا للعاطفة كما اتخذ الفيلم لنفسه عنواناً صافياً وأميناً.
هذا كله، سرداً بالمشاعر كما هو بالكلمات، رافقه تصوير فصّل الفيلمَ إلى فصول بمونتاج كان كذلك أداةً انسجمت مع المشاعر المتضمَّنة. لحظات سوداء صامتة تفصل بين الفصول. الواقع لهذه العائلة يتداخل مع المسرح والسينما، نشاهد فنظن أننا في واقعهم قبل أن ندرك أننا في مشهد للابنة، مسرحي أو سينمائي. الحياة هنا مسرح وسينما. العاطفة، بالتالي، البيرسونا للشخصيات في المسرح والسينما، العاطفة تكون متجسّدةً بملامح، عودةً إلى بيرغمان. هي هنا ارتقاءٌ في الفيلم، في كونه استحضاراً سينمائياً للعاطفة، بوصفها قيمة عليا، واقعاً في حياة الأب وابنتيه، وخيالاً في سينما الأب ومسرح الابنة.
إلى اللحظة، في نهايات المهرجان، هو الفيلم الأولى بالسعفة الذهبية، لتكامله، لروعة هذا التكامل، وإن نافسه بقوة كذلك، فيلم جعفر بناهي "حادث بسيط". لكنه، "قيمة عاطفية" (Sentimental Value)، كغيره من أفلام الميتافيكشن كان موضوعها السينما، سيكون من بين الأشد عمقاً عاطفياً لا في عمليات الميتافيكشن، أو السينما داخل السينما، بل في كشف العواطف، على شدّتها، السابقة للعمليات الإنتاجية للفيلم، هي العاطفة العليا للسيناريو. من بين سلسلة طويلة من الأفلام العظيمة التي صوّرت تلك العمليات، نحن هنا أقرب إلى سينما بيرغمان في الموضوع السينمائي، إلى الفيلم في حالاته الجنينية، حيث العاطفة نقية وسابقة لعمليات وإداريات، نحن هنا أمام سينمائي يسبق كتابة السيناريو بقلق عاطفي، ويلقي بقلقه هذا على صفحات السيناريو مقدماً إياه لابنته.
الفيلم نقاء سينمائي، بالقدر من النقاء الذي تستلزمه أي قيمة عاطفة.