"كلّ ما تسألني كيفك، بتذكّر إنّي مش منيح." ليست هذه العبارة التي التقطها زياد الرحباني من الهامش اليومي، وصنع منها ميتافيزيقا حزنه، مجرّد جملة عابرة من أرشيفه. بل هي اختصار لمشروعه كلّه؛ حفْر في اللامعنى، وتصالحٌ جارح مع هشاشة الذات، وتهكّم صلب على واقع لا يحتمل الجِد. وهي مفتاحٌ كامل لفهم روحه؛ تلك الروح التي صنعت من الوجع مادة تفكير، ومن التهكم فلسفة، ومن الهزيمة وجهاً آخر للوعي. زياد لم يكن مغنّيًا، ولا فقط كاتبًا أو ملحنًا، بل كان مرآةً، تشبهنا أكثر ممّا نحتمل، وتفضح زيفنا حين نظنّ أنفسنا بخير. كان فنانًا يمزج الفلسفة باليومي، وينتقد الاستلاب السياسي والاجتماعي والديني. لقد أسس لخطاب وجودي بلسان ساخر وواقعي، وكأنه يقول لنا، كلّ مرة، إن البقاء والنجاة في هذا العالم المضطرب فعلٌ يحتاج إلى وعي نابع من سياق فكري يعكس رؤية نقدية للحياة، وتأمل فلسفي في معنى الوجود. وبرحيله لا نخسر فنانًا "استثنائيًا" فحسب، بل نودّع زمنًا كاملاً من السخرية النبيلة، ونخسر صوتًا نادرًا في هذه البقعة الجريحة من العالم، صوتًا لم يهادن ولم يتكلّم بلغة الخلاص، بل بلغة الصدق المؤلم، الذي لا يعِد بشيء، ولا يطلب شيئًا.
ينتمي زياد إلى جيلٍ لبنانيّ عربيّ شهدَ نهاية المعنى، أو بالأحرى، نهاية أوهام المعنى. جيلٍ وُلد على حافة الأمل من ومات في عمق الهزيمة. جيل ما بعد الثورة، وما بعد الحرب، وما بعد الدولة. لكنه لم يعِش هذه "الما بعد" كحسرة، بل كواقع يجب التفكير فيه. في زمنٍ كان الجميع يصرخون "سننتصر"، كان هو يهمس: "ما في شي رح يتغيّر." ليس لأنه متشائم، بل لأنه يرى جيدًا، ويرى أكثر ممّا يحتمل. وعلى خلاف الكبار الذين سبقوه، لم يكتب قصائد وطنية ولا أهازيج تحرير، بل كتب الارتباك، وثبّت الخيبة كهوية. كان ضد البطولة، وضد الشعر المزيّف، وضد الشعارات المعلّبة. لكنه لم يكن عدميًا، كان "ما بعد المعنى" -لا في رفضه، بل في تخطيه إلى طبقة أعمق وإلى بعد فلسفي: إذا كان المعنى قد سقط، فهل يمكن للإنسان أن يستمرّ؟ وكيف؟ هنا تأتي إجاباته: الموسيقى، السخرية، التهكّم من السياسة، والإلحاح على أن "العيشة صعبة". "ما بعد المعنى" الذي تجسده أعمال الرحباني ليس فراغًا، بل ثقلٌ هائل من الإدراك، أن ما نعيشه لا يكفي، وأن الكلام نفسه لم يعد يَصف، بل يَفضح. بهذا، لم يكن زياد يسارياً تقليدياً، بل كان كافرًا بأصنام المرحلة كلّها، من دون أن يقع في فخ الحياد. لم يصالح النظام، ولم يعوّل على الثورة، لم يؤمن بسلطة "الحزب"، ولا بشعارات "الطبقة العاملة"، بل آمن بأن الإنسان العربي مسحوق حيثما كان، سواءً من جهة الرأسمالية أو بأدوات اليسار المُتكلّس، ولهذا، كان مشروعه السياسي هو: فضح كلّ سلطة.
كان زياد أكثر "راديكالية" من راديكاليي جيله، لا لأنه رفع شعارًا، بل لأنه كشف هشاشتنا -في لحظةٍ كان الجميع فيها يتغنّى بالقضية، وبرع في صياغة أعمال تلامس نقد الطبقة السياسية والفاسدين بأسلوب رمزي. في أغانيه ومسرحياته ومقالاته الإذاعية، لم يكن الرحباني يعرض الحزن كحالة وجدانية سطحية، بل كوعيٍ مضاد. الحزن عنده لم يكن مجرد غياب للفرح، بل كان موقفاً فلسفياً، وتعبيراً عن رؤية ترى في العالم انكساره الأصلي، وتتعامل معه لا من منطلق الانتحار أو العزلة، بل من موقع الشاهد الذي لم يعد ينتظر شيئاً من أحد. في عالم زياد، لا يوجد "أمل" بالمعنى الذي تحبه الكتب المدرسية، بل يوجد ما هو أكثر جذرية: حين يقول "بتذكر إني مش منيح"، لا يعترف بالضعف، بل يفضح الكذب اليومي المتبادل، ويهدم بروتوكول السؤال والجواب، ويحول العبارات المبتذلة إلى أدوات تفكيك. "كيفك؟" التي تُقال آليًا في صباحات الموظفين والمقهورين، يردّ عليها لا بجواب، بل بافتضاح السؤال ذاته؛ ولماذا يجب أن أكون بخير؟ ومن الذي قال إن "المنيح" هو المعيار؟ وهل في خراب هذه البلاد ما يُحتمل أن يُنتج بشراً بخير؟ بهذا، يصبح السؤال مناسبةً للتفكير، والجواب نفيًا وجوديًا في سياق عبثي ساخر، لا مجرد حالة شخصية. حين نضحك مع زياد، لا نضحك لأن شيئًا طريفًا حدث، بل لأنّ الكارثة بلغت من العمق حدًّا لم يعُد يفيد فيه البكاء.
في عالمٍ منهار مثل عالمنا، أن تكون بخير هو إمّا جهل أو إنكار، وهنا تتجلّى فلسفة زياد التي تُسائل البديهيات وتفكك جمل الكذب الجماعي التي نردّدها في صباحاتنا. في زمن الصراخ والبطولات الوهمية، كان زياد يهمس: " أنا ما عم جرّب غيّر البلد، أنا عم جرّب بس ما خلّي هالبلد يغيرني." تأتي الجملة كصفعة، تفضح سخافة النقاشات السياسية العقيمة، وتلمّح إلى استنزاف المواطن العادي في مواجهة بلد لا يتغير. زياد لم يكن يحثنا على حبّ الحياة، بل على أن نراها بوضوح. لم يعدنا بالخلاص، بل بشرّنا بأنّ "الخلاص فكرة فاشلة،" ومع ذلك، لم يتوقف عن العزف. في زمن المسلّحين، حمل آلة موسيقية، وفي زمن الإعلام النظيف، سبَّ وشتم على الهواء، وفي زمن التفاهة، تجرّأ أن يقول: "أنا مش منيح". إذ لماذا نردّ دائمًا أننا بخير؟ من قال إن السلامة هي الأصل؟ ومتى كان هذا العالم صالحًا للحياة؟ أسئلةٌ لا يطرحها زياد بوصفه فيلسوفًا أكاديميًا، بل كشاهدٍ لا يصدّق ما يرى، فيقرّر أن يقول الحقيقة، ولكن بطريقته: الضحك. لم يكن ساخرًا محايدًا، بل ساخرًا جريحًا، يعلم أن ما يسخر منه هو ذاته ما يسكنه.
كان زياد ابن الحرب الأهلية اللبنانية، لكنّه رفض أن يكون ناطقًا باسمها. لم يقدّم نفسه بوصفه ضحيّة، ولا مقاتلًا، بل راصدًا للتمزّق، والانقسام، وللانفصام الجماعي الذي جعل الناس يعيشون في بلدين فوق الأرض ذاتها. وحين كان يصبح العقل ترفًا، والسخرية جريمة، كانت نصوصه وكلماته تتحوّل إلى مقاومةٍ من نوع آخر. مقاومة لا تستند إلى بندقية، بل إلى جملة ذكية، أو مفارقة صادمة، أو نغمة تُضحك وتبكي في الوقت نفسه. لم تكن السخرية عنده سطحًا، بل أداة لفتح أعماق، تمامًا كما كانت الكوميديا عند تشيخوف أو صامويل بيكيت: نوع من المرآة السوداء التي تظهر لك ذاتك وأنت تحاول إنكارها. كلمات الشارع، الشتائم، التنهيدات، الصمت، كلها أصبحت أدوات فنية في يده. لم يحتج إلى مفردات فحول الشعراء، بل إلى "شو خصّك إنت؟"، و"خلصنا بقا"، و"ما بعرف، ما بعرف،" فرفع اللغة المحكية إلى مستوى الشعر دون أن يُدخلها إلى "ديوان العرب." في كلّ مشهدٍ من مسرحياته، هناك وزن إيقاعي، وتهكّم لاذع، ونغمة فيها شيء من الحزن النبيل، وفي خلفية كلّ ذلك، موسيقى. موسيقى ليست زينة، بل شريكًا في المعنى، موسيقى تحتضن اللغة، أو تسخر منها، أو تصمت معها. لم ينتقد فقط الطائفية، بل النظام نفسه، لم يضحك على الزعماء فقط، بل على الناس الذين يصفّقون لهم. لم يتحدث عن الفلسطيني كـ"قضية"، بل كجارٍ، وكصديقٍ فقيرٍ، وكحبيبٍ مرفوض. بهذا المعنى، كان زياد سياسيًا بعمق، لأنه تحدّث عن السياسة بوصفها حياة، لا خطابًا.
بالنسبة إلى كثير منّا، لم يكن زياد شخصية عامة فقط، بل صوتًا داخليًا. كأنّه ظلنا الذي يقول ما نخاف أن نقوله، أو يقول ما لا نجرؤ حتى على التفكير فيه. هو الذي يختصر الموقف في جملة واحدة، ويجعلنا نضحك رغم كلّ شيء. كان زياد مرآةً، لا تعكس جمالنا، بل ترينا ما نريد إنكاره. ولهذا كرهه البعض، وخافه آخرون، وأحبّه كثيرون. لأنه لم يجامل، ولم يعتذر، ولم يقدّم فنًّا "جميلاً" بالمعنى السائد، بل فنًّا صادقًا، مملوءًا بالشقوق، كما نحن. لهذا، فإن رحيله ليس فنيًا فقط، بل شخصيّ بامتياز، وفقدان زياد، بهذا المعنى، هو فقدان شكلٍ من أشكال الفهم. كان وجوده يقول لنا إننا لسنا مجانين تمامًا، وإنه ما زال هناك من يرى العبث ويفضح منطقه. والآن، وقد غاب، يبقى السؤال معلقًا: من سيقول "أنا مش منيح" بالنيابة عنّا؟ من سيحوّل وجعنا اليومي إلى عمل فني، لا يبكينا فقط، بل يجعلنا نفكّر ونضحك في آنٍ معًا؟ في وداع زياد، لا نكتب رثاءً، بل نُدوّن جملةً جديدة في دفتر الخراب العربي: مات من كان يعرف كيف يسخر منّا، قبل أن نكتشف سوءتنا. وداعًا يا عازف الخيبة، يا من لم تكن كاذبا بما يكفي لتكون "منيح"، ولا "منيح" بما يكفي لتصمت.
