في خطوة أثارت جدلاً ونقاشًا واسعًا حول حرية التعبير والضمير الأكاديمي، أعلن المؤرخ الفلسطيني البارز رشيد الخالدي، أستاذ الدراسات العربية الحديثة في جامعة كولومبيا، وأحد أبرز الأصوات الأكاديمية في حقل دراسات الشرق الأوسط، انسحابه من تدريس أحد مقرراته خلال الفصل الخريفي، احتجاجًا على تبنّي الجامعة تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) لمعاداة السامية. هذا التعريف، الذي يتضمن أمثلة تعتبر بعض أشكال انتقاد إسرائيل معاداة للسامية، بات موضع جدل واسع في الأوساط الأكاديمية والحقوقية، لما يحمله من مخاطر على حرية التعبير وشرعنة قمع التضامن مع الفلسطينيين. موقف الخالدي قد يبدو بسيطًا من الخارج لكنه مشحون بالرمزية ومحمّل بالدلالات العميقة، وقد كانت خطوته بمثابة صفعة قوية لواجهة الليبرالية الأكاديمية الأمريكية، وجرس إنذار لنظام معرفي يُدار تحت سطوة التمويل والتحالفات السياسية.
يقول الخالدي في مقاله المنشور في صحيفة "الغارديان" البريطانية في الأول من آب 2025، إن قراره هذا لم يكن سهلًا، بل جاء بعد "صراع طويل ومؤلم مع الضمير". مبينا أنه لا يرفض الانخراط في التدريس الأكاديمي من حيث المبدأ، لكنه لا يستطيع أن يعلّم في سياق يتعارض فيه ما تمثّله الجامعة مع المبادئ التي عاش ودرّس من أجلها لعقود. إذن قرار الخالدي لم يأت من فراغ، وهو لم يترك قاعة الدرس بسبب خلافات أكاديمية أو مطالب مالية، بل احتجاجًا على ما يمكن اعتباره تواطؤًا مؤسساتيًا مع أجندات سياسية تسعى لقمع السردية الفلسطينية داخل الحرم الجامعي -إثر قرار إدارة جامعة كولومبيا بالموافقة على تبني التعريف الذي يُتهم باستخدامه سياسيًا لقمع النقد المشروع تجاه إسرائيل. ووفقًا للتقارير، فإن قرار الإدارة جاء ضمن تسوية أوسع بين الجامعة وإدارة ترامب، التي كانت قد أدرجت كولومبيا ضمن الجامعات المعادية للسامية، مهددة بقطع التمويل الفيدرالي عنها. وبدلاً من خوض معركة مبدئية دفاعًا عن حرية التعبير والاستقلال الأكاديمي، اختارت الجامعة ما يمكن وصفه بأنه نوع من "الاستسلام الأخلاقي".
ويبدو أن ما شكّل ذروة هذا الاستسلام هو التناقض الصارخ بين دفاع الجامعة المستميت عن حرية التعبير حين يتعلق الأمر بمواضيع أخرى، مقابل تقييدها الواضح لأي خطاب ناقد لإسرائيل. فرشيد الخالدي، الذي أمضى عقودًا في العمل الأكاديمي والبحثي، وجد نفسه مضطرًا للانسحاب من قاعات التدريس لأن الجامعة لم تعد تتيح له المجال ليعبّر عن مواقفه بحرية، أو ليحمي طلابه من الرقابة والتخويف. هذا الانسحاب لم يكن فقط موقفًا احتجاجيًا، بل رسالة رمزية تقول إن المؤسسة الأكاديمية فقدت إحدى وظائفها الأساسية: أن تكون فضاءً نقديًا حرًا.
لقد شكّل تبنّي إدارة كولومبيا لتعريف معادة السامية المشار إليه نقطة تحوّل في تاريخ الجامعة وتوجهاتها المعلنة. فالتعريف الذي صاغه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست لا يكتفي بتحديد معاداة السامية ككراهية لليهود، بل يتضمن أحد عشر مثالًا، يُدرج بعضها نقد إسرائيل ضمن السلوك المعادي للسامية. من بين هذه الأمثلة: وصف إسرائيل بأنها مشروع عنصري، أو التشكيك في حقها في الوجود، أو مقارنة سياساتها بسياسات النازية. وقد لاقى هذا التعريف معارضة واسعة من قبل أكاديميين وجمعيات حقوقية، من بينها منظمة "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية"، التي رأت فيه تهديدًا لحرية التعبير، خاصة عند استخدامه في المؤسسات الأكاديمية. ورغم أن جامعة كولومبيا كانت "منارة للحرية الأكاديمية"، إلا أنها لم تعد كذلك حين تخلّت عن حيادها المفترض وتبنّت تعريفًا يجرّم فعليًا أي انتقاد جوهري لسياسات إسرائيل –واستخدمت شعارات مثل "مكافحة الكراهية" كغطاء للرقابة الفكرية.
الخالدي، الذي عمل لعقود على توثيق السردية الفلسطينية وتاريخ الاستعمار الصهيوني، يرى في تبنّي الجامعة لهذا التعريف محاولة لإسكات الأصوات الفلسطينية والتضامن معها. وهو، كما يظهر في مقالته، ليس وحيدًا في هذا القلق. فعدد كبير من أعضاء هيئة التدريس والطلاب في كولومبيا عبّروا عن رفضهم لهذه الخطوة، واعتبروها تراجعًا خطيرًا عن القيم الليبرالية التي يفترض أن تحكم العمل الجامعي. لكن ما يبدو أنه شكّل لحظة فاصلة بالنسبة له هو شعوره بأن الجامعة "عقدت صفقة" مع السلطة حين استجابت لضغوط سياسية خارجية تتعارض مع استقلالها الأكاديمي. عندها، تصبح حرية التعبير مرهونة بما لا يُزعج الحلفاء والقوى النافذة، بحسب تعبيره، وتتحوّل الاتهامات بمعاداة السامية إلى أداة لإعادة إنتاج "الغيرية" –أي لإبقاء الفلسطيني في موقع الخارج، كآخر لا يُسمح له بسرد روايته أو المطالبة بحقوقه دون وصم أو تجريم. في هذا السياق، لا تعود المسألة متعلقة فقط بتعريف أكاديمي لمعاداة السامية، بل بإطار أيديولوجي يعيد تشكيل حدود المشروعية السياسية داخل الجامعة.
يعد الخالدي من أبرز الأصوات الأكاديمية التي واجهت المسألة الفلسطينية بمنهج نقدي وتحليلي، وقد شكل كتابه "حرب المئة عام على فلسطين" مرجعًا مركزيًا لفهم كيف تم نزع الطابع السياسي عن القضية الفلسطينية في الخطاب الغربي -حيث يقدم قراءة تاريخية توثيقية للصراع، تُظهر كيف تمّت هندسة الروايات الغربية لتهميش السردية الفلسطينية، والتعامل مع الفلسطينيين كعقبة ديموغرافية أو أمنية. واللافت في موقفه أنه لا ينبع من غضب عابر أو رد فعل شخصي، بل من تحليل أعمق لطبيعة التحوّلات داخل الحقل الأكاديمي الأميركي. فالهجوم على الخطاب الفلسطيني في الجامعات ليس وليد اللحظة، وقد تصاعد مع تزايد النفوذ السياسي للمنظمات الموالية لإسرائيل، ومع صعود الإسلاموفوبيا، وتجريم حركة مقاطعة إسرائيل “BDS”، وتوسع خطاب "الأمان العاطفي" الذي يُستخدم أحيانًا لحظر الفعاليات الفلسطينية بحجة أنها "مزعجة" للطلاب اليهود.
في هذا السياق، يمكن فهم قراره الأخير كاستمرار لهذا المشروع الفكري، الذي لا يفصل بين العمل الأكاديمي والموقف الأخلاقي، وتعبيرًا عمليًا عن موقف لطالما ناضل من أجله، مفاده أن الصراع ليس فقط على الأرض، بل أيضًا على المعاني، والسرديات، وأدوات المعرفة. كل ذلك يأتي في لحظة تتعرض فيها غزة لتدمير ممنهج، وتُمنع فيها التغطية الإعلامية، وتُقمع الأصوات المنتقدة في الغرب. أمام هذا الواقع، يصبح الصمت نوعًا من التواطؤ، وهو ما يبدو أن الخالدي أراد كسره. فانسحابه من التدريس لا يعني الانسحاب من الفعل، بل هو تعبير رمزي حاد عن الرفض، وتجسيد للامتناع كفعل مقاومة. إنه يستخدم موقعه الأكاديمي، وامتيازاته، ليس لحماية الذات، بل لكشف تناقضات المؤسسة التي ينتمي إليها. في مقاله، يذكّرنا الخالدي بأن كولومبيا لطالما كانت ساحة للمواجهة الفكرية، وأنها استضافت رؤساء دول مثيرين للجدل، كأحمدي نجاد، باسم حرية التعبير. فكيف تُعاقب اليوم أصواتًا فلسطينية أو متضامنة، لمجرد أنها تنتقد الاحتلال أو تطالب بالمساواة؟ المفارقة، كما يشير، أن الجامعات التي تدّعي الليبرالية أصبحت من أبرز مواقع تكميم الأفواه، وهذا ما يجعل المسألة أخطر من مجرد خلاف أكاديمي؛ إنها أزمة أخلاقية.
بيان الخالدي لا يدين فقط جامعة كولومبيا، بل يضعنا جميعًا أمام سؤال جوهري: ما هي حدود الصمت التي نقبل بها؟ وأين يقف المثقف حين يصبح قول الحقيقة جرمًا؟ كما أن موقفه لا يجب أن يُقرأ كحدث فردي معزول، بل كجزء من تحوّل أوسع تشهده الجامعات الغربية. فمع تزايد الضغوط السياسية والتمويل المشروط، ومع صعود الشعبوية اليمينية، تتقلص مساحة الحرية الأكاديمية، ويُعاد تعريف "الخطاب المقبول" وفق حسابات تتجاوز حدود المعرفة. وفي هذا السياق، تصبح المقاومة فعلاً معرفيًا، واختيار الانسحاب تعبيرًا عن الحضور، لا الغياب. إذ ما معنى أن تكون أستاذًا جامعيًا إذا لم تستطع الدفاع عن حرية التفكير؟ وما معنى أن نعلّم عن العدالة والحق، فيما نحن عاجزون عن تسمية الظلم باسمه؟ في هذه الأسئلة تكمن دلالة موقف الخالدي، فهو لا يدّعي البطولة، بل يضع نفسه أمام مرآة المؤسسة التي أفنى فيها عمرًا، والتي خذلته حين قررت أن تخون رسالتها. لذلك نجد أنه أشار في ختام مقاله إلى أنه سيواصل التدريس، لكنه لن يفعل ذلك في سياق "تمت فيه مقايضة المبادئ بالاسترضاء السياسي".
