يظهر الآن واضحاً أن حل الدولتين الذي جرت المراهنة عليه من قبل الفصائل الفلسطينية، والسلطة التي تشكلت باسمها، وكذلك من الأحزاب الشيوعية، ومنها الحزب الشيوعي الإسرائيلي، هذا الحل بات “في خبر كان”، حيث فرضت الدولة الصهيونية على الأرض ما ينفي كل إمكانية لتحقيقه، وهي تسعى الآن لضم معظم أرض الضفة الغربية بعد أن ضمنت عدم المساس بوضع القدس، ومن ثم بعد أن بات الموقف الأميركي داعماً علناً لهذه السياسة، وحيث تسعى أميركا ترامب إلى فرض “صفقة القرن” التي تشطب مسألة قيام دولة فلسطينية.
هذا كله بات مكشوفاً بعد أن كان واضحاً لكل من يعتمد التحليل العلمي في فهم طبيعة الدولة الصهيونية والوضع العالمي الداعم لها، كونها أداة بيد الإمبريالية للسيطرة على البلاد العربية وضمان تفكيكها. حيث أن المنظور الأساس هو أن فلسطين هي إسرائيل، ولا بديل عن ذلك، وربما تسعى الدولة الصهيونية إلى التوسّع أكثر من ذلك في الأردن أو سيناء. وأنها لم تُقَم هنا لكي تتعايش بسلام مع المحيط العربي بل من أجل أن تهيمن عليه، وتمنع تطوره ووحدته، فهذا هو دورها. بهذا لا وجود لكيان فلسطيني، ولا سلام ممكن. بالتالي إذا لم يكن ذلك واضحاً في السابق، وكان وجود الاتحاد السوفيتي يُطلق الوهم حول إمكانية الضغط من أجل حل الدولتين وحصول الفلسطينيين على دولة على 20% من فلسطين، وتحقيق التعايش، وأيضاً كان وهم تأثير المقاومة الفلسطينية على الرأي العام العالمي يُنتج الوهم ذاته القائم على حصول دعم عالمي لتحقيق “قرارات الشرعية الدولية”، فقد سقط كل ذلك الآن، وباتت الأمور واضحة، حيث تسير الأمور نحو فرض الحل الصهيوني كما رُسم منذ البدء. الأمر الواقع الآن يتمثل في أن الدولة الصهيونية تفرض هيمنتها على كل فلسطين، ولن تعطي السكان الفلسطينيين سوى شكل ما من الحكم الذاتي (ربما المرتبط بالأردن)، وستبقى الأرض هي “أرض إسرائيل”. هذا ما بات واضحاً تماماً، ومؤسس على الأرض بسيطرة استيطانية واسعة، وبدعم دولي كامل (وهنا ليس أميركياً فقط ولا أوروبياً فحسب، بل روسياً كذلك، وأيضاً صينياً). وكذلك بوجود نظم عربية تدعم ذلك.
لهذا يُطرح السؤال على الأحزاب التي راهنت على حل الدولتين، وقبل ذلك قبلت بوجود الدولة الصهيونية، ماذا ستفعل الآن؟
هنا أقصد الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي وافق على قرار التقسيم حينما كان ضمن عصبة التحرر الوطني، بعد أن وافق الاتحاد السوفيتي على هذا القرار مباشرة. ومن ثم قبل الدولة الصهيونية كأمر واقع، متجاهلاً كل ما كتبت العصبة وقبلها الحزب الشيوعي الفلسطيني، من أن الحركة الصهيونية هي أداة بيد الإمبريالية، وأنها تعمل ضمن مخطط تقسيم البلاد العربية والسيطرة عليها، وأنها معادية للتحرر والتقدم، وتمثل الرجعية والتعصب، وغيرها من المصطلحات الدقيقة والصحيحة. ولهذا طرحت قيام الدولة العلمانية الديمقراطية في فلسطين، وناضل أعضاؤها من أجل هذا الهدف. لكن التبعية لسياسة الاتحاد السوفيتي فرضت هذا التحوّل الدراماتيكي، غير العقلاني ولا العلمي، والمعادي للماركسية، حيث قبلت بدولة احتلال استيطاني قامت على أنقاض شعب جرى تهجير جزء كبير منه، وأتت ضمن مشروع إمبريالي. انقلاب في الموقف يُظهر التبعية لموسكو حينها، ويوضّح غياب المبادئ والقيم، ويكشف التخلي عن الصراع ضد الإمبريالية والعنصرية والاحتلال الاستيطاني.
هذا ما حكم، كذلك، مجمل الحركة الشيوعية العربية والعالمية، لكن ما قام به الشيوعيون الفلسطينيون الذين شكّلوا الحزب الشيوعي الإسرائيلي هو “مسح” فلسطين، حيث انقسمت عصبة التحرر الوطني التي تريد الدولة العلمانية الديمقراطية في فلسطين إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي ينطلق من الاعتراف بوجود الدولة الصهيونية، وجزء آخر يقيم فيما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية) أسهم في تأسيس الحزب الشيوعي الأردني، بعد أن باتت الضفة الغربية جزءاً من الدولة الأردنية. بهذا تلاشت فلسطين ولم يعد هناك قضية فلسطينية، مع السعي لتعزيز سياسة السلام والتعايش بين العرب والإسرائيليين، هذا هو شعارها من أجل “السلام العالمي”.
الحزب الشيوعي الإسرائيلي وافق على وجود الدولة الصهيونية، واعتبر أن قيامها هو انتصار لحركة التحرر اليهودية (كما خطب توفيق طوبى بعد عام من قيامها). ورغم الدور الذي لعبه للحفاظ على الهوية العربية، وعن الوجود العربي في “دولة إسرائيل”، ودفاعه عن الأرض والسكان، فقد ظل يعترف بالدولة الصهيونية، ووجد في حل الدولتين مخرجاً لتأكيد أنه مع الشعب الفلسطيني، ومع حقه في إقامة دولته. وبهذا فقد استمرّ في النضال من أجل الحقوق المدنية لـ “عرب إسرائيل”، وضد سياسات إسرائيل العدوانية، كما من أجل دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس في الضفة الغربية وقطاع غزة. لقد كان يريحه ذلك، حيث يُقنع الذات بأنه مع حق الشعب الفلسطيني وهو يقبل بوجود الدولة الصهيونية، ويحصر نضاله في حقوق مدنية وسياسية ضمن الدولة الصهيونية، وفي “النضال” من أجل “السلام” من خلال التفاوض لتحصيل حقوق الشعب الفلسطيني” في دولة على 20% من فلسطين. لكن، حين يصبح حل الدولتين منعدماً ماذا سيفعل؟ كيف سيبرر سياساته؟ هل سيقبل أن تصبح إسرائيل هي الدولة الواحدة التي تسيطر على فلسطين، ويظل يناضل من أجل حقوق مدنية وسياسية للشعب الفلسطيني؟
يتعامل الحزب مع الدولة الصهيونية كدولة “طبيعية”، أي أنها باتت قائمة وليس مطروحاً التفكير في إنهائها، مع سخريته من كل من يطرح ذلك، فالحزب يعتقد أنه أمر مستحيل نتيجة اختلال الميزان القوى والدعم العالمي لها، وبالأساس لأنها دولة معترف بها من قبل الشرعية الدولية. ولهذا يصبح السؤال بعد وضوح نهاية حل الدولتين، ماذا سيفعل الحزب؟ ربما سيقبل بالأمر الواقع الجديد (فهذا من أساسات المنظور الأيديولوجي الذي أنشأته الماركسية السوفيتية)، و”يناضل” من أجل حقوق الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتحسين وضعهم المعيشي، وتوسيع سلطة “الإدارة الذاتية” الفلسطينية. أو يبقى يكرر دعمه لحل الدولتين لكي تكون غطاءً لسياسة استسلامية. إن المنظور الذي يحكم الحزب لا يخرج عن هذه الممكنات، حيث لم يكن حزب النضال من أجل الثورة والتغيير بل كان حزب القبول بالأمر الواقع ضمن تكتيك الدولة السوفيتية، وأيضاً ضمن الواقع العالمي القائم الآن.
فهو “حزب مطلبي”، يغطي ذلك بشعارات كبيرة “ضد الإمبريالية” و”مواجهة المخططات الإمبريالية”، و”ضد الرجعية”، لكنه لا يؤسس للنضال ضد الإمبريالية وتمظهراتها في الواقع، ومن هذه التمظهرات الدولة الصهيونية ذاتها، وكل النظم الرأسمالية التابعة. لا يريد تطوير الصراع الطبقي، ولم يُرِد تصعيد الصراع الوطني الفلسطيني ضد كيان استيطاني استعماري وأداة إمبريالية. ولا يظهر أنه معني بذلك. حتى أنه لا يسعى لتغيير الدولة من خلال النضال من أجل إسقاط الطبقة المسيطرة، وفرض سلطة طبقات أخرى. هنا ستعاد السخرية نتيجة اختلال ميزان القوى، لكن من قال أن الشعوب تنتصر بلا جهد كبير من أجل تغيير ميزان القوى على ضوء شعارات صحيحة؟ فالسلطة تكون هي الأقوى بداية مع غياب فاعلية الشعوب، لكن تصعيد الصراع وتنظيم حراكها، وأزمتها الطاحنة التي هي نتاج نهبها، تفرض تغيير ميزان القوى. هذا هو التكتيك الذي إتبعه لينين لكي تنتصر ثورة أكتوبر التي تُمجّد دون فهم كيف انتصرت. والصراع هنا “داخلي” وليس شعارات ضد الإمبريالية، ومن أجل تنظيم قوى فعلية وليس لتشكيل تحالفات وتجمعات أكثر ما تقوم به هو اصدار البيانات، وضد عدو “بعيد”، في تجاهل بأن أرجله هي هنا “في الداخل”، وهي الأرجل التي يجب أن تقطع لكي تنتهي السيطرة الإمبريالية.
لقد خدم الحزب “عرب إسرائيل” في مرحلة ما، لكن هذا لم يعد كافياً منذ زمن طويل. فالدولة الصهيونية باتت تسيطر على فلسطين، وهي تمدّ نفوذها عربياً، وتفرض مركزيتها في السيطرة على المنطقة. كما أنها تعزز من تفكيك البلاد العربية، وتسهم في تدميرها. بمعنى أنها لا تريد أن تقنع بجزء من فلسطين كحلّ لمشكلة يهود مشردين كما جرى الإدعاء الصهيوني الإمبريالي، بل هي قوة سيطرة ونهب وتدمير. حيث أن وجودها جاء كمشروع رأسمالي لتحقيق كل ذلك (وهذا ما كانت تقوله عصبة التحرر الوطني، والحركة الشيوعية قبيل الاعتراف بقرار التقسيم). بالتالي لا بدّ من إعادة بناء الصراع على الأسس التي نشأ نتيجتها، فقد انتهى وقت الأوهام حول السلام، والنضال من أجل تحسين أوضاع “عرب إسرائيل”، رغم أن كل ذلك كان وهماً منذ البدء، لهذا نشأت أجيال فلسطينية تريد التحرير، ولا زالت تنشأ.
لقد طرحت المقاومة الفلسطينية شعار تحرير فلسطين لكنها قبلت ببعض فلسطين دون أن تحصل عليه، وظهر واضحاً أن الأمر يتعلق بصراع جدّي بين مشروعين ليس من تعايش بينهما. هذا الأمر يجب أن تُسقط كل الأفكار والمفاهيم التي قامت على أساس القبول بالأمر الواقع، وأن يصبح واضحاً أن ما يجب النضال من أجله هو استعادة فلسطين، وإنهاء الدولة الصهيونية، من أجل إقامة دولة علمانية ديمقراطية، فلسطينياً، وفي الإطار العربي العام. هل يسعى شباب الحزب الشيوعي إلى ذلك؟ هذا ما يجب أن يكون هدف هذه المرحلة، وأن يتركز النقد ضد السياسة القديمة، وكشف أساساتها، من أجل بديل حقيقي في فلسطين. لم يَعُد مقبولاً المراوحة في إطار السياسات القديمة ذاتها، ولا حصر النشاط في نضال مطلبي حقوقي، و شعاراتي على المستوى السياسي. والتوهم بخوض نضال “ضد الإمبريالية” مع القبول بتمظهرها الواقعي، فالنضال ضد الإمبريالية يفرض السعي لإنهاء قاعدتها: الدولة الصهيونية. وكل كلام آخر هو مزاودة وشعاراتية لا معنى لها.
مشروع النضال من أجل فلسطين بات هو نقطة المركز الآن، وهذا يعني تصفية الحساب مع كل السياسات السابقة، وإعادة بناء الصراع على أساس أن الصراع ضد الإمبريالية وأدواتها يفرض تطوير الصراع من أجل إنهاء الدولة الصهيونية. لقد انتهت مرحلة بكل أوهامها، وعلينا أن نؤسس لمرحلة جديدة وفق فهم علمي ورؤية واضحة، وبلا ميول إصلاحية أو تساومية، بل بفهم ثوري حقيقي. لهذا لا بدّ من إعادة بناء مشروع النضال من أجل فلسطين.