تركت نكبة العام ١٩٤٨ أثرها على بنية الشعب الفلسطيني، فقد شتته كما مزقت أرضه، وغدا موزعاً على أماكن جغرافية عديدة، تماماً كما أصبحت فلسطين مقسمة بين أكثر من دولة؛ فلسطين/إسرائيل والأردن ومصر. غدا ٧٩٪ من الأراضي الفلسطينية يعرف بإسرائيل، وألحقت الضفة الغربية بالأردن، وأما قطاع غزة فقد غدا تحت الإدارة المصرية. وتوزع الفلسطينيون على هذه الأماكن وعلى أماكن أخرى؛ سورية والعراق وأبعد من هذه وتلك. وبقي ١٦٥٠٠٠ فلسطيني في مدنهم وقراهم يعيشون تحت حكم الدولة الإسرائيلية الناشئة، حاصلين؛ مجبرين ومكرهين، على هويتها ليعانوا من تمييز قومي عبّر عنه محمود درويش في قصيدته الشهيرة “سجل أنا عربي”.
واختلف الخطاب السياسي العربي من بلد إلى آخر؛ من خطاب قومي إلى خطاب وطني فإسلامي، وإن كان الأخير في هذه الفترة ضعيفا. ولا ننسى الخطاب اليساري الذي برز وعلا وضاهى الخطاب القومي، وإن لم يمتلك اليساريون، خلافاً للقوميين، السلطة في أي بلد عربي. ويمكن القول إن الخطابين؛ القومي واليساري، كان لهما الحضور الأكبر في أدبيات هذه الفترة، وإن لم يعدم المرء بروز أدبيات ظل أصحابها فيها يعبرون عن رؤاهم الموروثة المستمدة من ثقافتهم الدينية.
اختلف الخطاب من مكان إلى آخر حسب النظام السياسي الحاكم وحسب قناعات الكاتب بهذا الخطاب أو ذاك. فالفلسطينيون الذين ظلوا في أرضهم، مثل توفيق زياد ومحمود درويش وحنا ابراهيم وتوفيق فياض وغيرهم، تأثروا بالأفكار التي اعتنقوها وآمنوا بها، وهي متنوعة ومختلفة، ما بين ماركسية وقومية وأفكار لم تر في اليهود عدواً أساسياً، فاليهود والفلسطينيون ضحايا سياسة الإنجليز في فلسطين؛ سياسة “فرق تسد” وهو ما بدا في قصة مصطفى مرار الذي كان ينشر في صحف السلطة الإسرائيلية الخاضعة للأحزاب الحاكمة، وفي رواية محمود عباسي “حب بلا غد”.
اعتنق توفيق زياد، ومثله محمود درويش، الأفكار اليسارية وانضوى الاثنان تحت راية الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) وعبرا فيما كتبا عن طروحاته الفكرية والسياسية، وهي طروحات تقوم على أساس صراع طبقي لا ينسى أو يتناسى حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة. ولم ير هذان في اليهود كلاً واحداً لا فرق بين أجزائه، فثمة يهود هم ضحايا الحركة الصهيونية، كما هو حال الشعب الفلسطيني، وبالتالي فقد خاطب زياد الأحزاب الصهيونية الحاكمة باعتبارها أحزابا تضطهد الفقراء اليهود والعرب معاً، وحين كتب عن إضراب عمال مصنع “اتا” خاطب العمال اليهود بـ”يا إخوتي” في النضال.
لم يختلف محمود درويش كثيراً عن زياد ، فقد أحب فتاة يهودية كانت رفيقة له في الحزب، وفيها كتب قصيدته الشهيرة “ريتا والبندقية” التي قال فيها:
“بين ريتا وعيوني
بندقية
والذي يعرف ريتا
ينحني
ويصلي لاله في العيون العسلية”
ولم ينته الحب إلا بعد أن آثرت ريتا الخدمة في الجيش الإسرائيلي.
إن قصيدة درويش “سجل أنا عربي” كانت بالأساس موجهة للضابط الصهيوني العنصري، لا لكونه يهودياً، بل لكونه عنصرياً. يختلف توفيق فياض ذو الميول الناصرية القومية، فقد كتب مسرحية عنوانها “بيت الجنون” وفيها كتب عن رياح “غريبة غربية” جاءت لتقتلع سامي مدرس التاريخ وشعبه. سامي معلم تاريخ في مدرسة يدرس فيها المنهاج الإسرائيلي، وهو منهاج لا يقر بوجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني ولا بأرض اسمها فلسطين. وعلى سامي، إن أراد الوظيفة، أن يعلم الرواية الإسرائيلية، وهو له روايته التي ترى في اليهود الذين أقاموا دولة إسرائيل يهوداً غرباء وغربيين، جاؤوا لهدم بيت سامي واقتلاعه. هكذا كان خطاب توفيق فياض مختلفاً، ولأن إسرائيل لم تكن تسمح بخطاب مثل هذا، فقد لجأ كاتب المسرحية إلى الكتابة الرمزية.
اختلف الخطاب السياسي العربي، في هذه الفترة، وكان الخطاب الأبرز هو الخطاب القومي، وإن كان هناك خطاب يساري ماركسي ظل ملاحقاً وزج أصحابه في السجون غالباً، وأما الخطابان الوطني والديني فقد كانا ضعيفين إلى حد ما. وإن كان هناك من يعكسهما في الأدب مثل هارون هاشم رشيد ومحمد العدناني وبرهان العبوشي وآخرين.
ويعد هارون هاشم رشيد من أبرز من كتبوا قصائد تصور واقع اللجوء وتعبر عن حلم العودة، وفي أثناء ذكره للعدو كان يستخدم دال “اليهود” دون تمييز بين يهودي وآخر وغالبا ما أسبغ عليهم الصفات التقليدية المعروفة عنهم في الأدبيات العربية والعالمية، وتحديداً الصفات السلبية، وأبرزها هنا الغدر والمكر والحقد وكره الآخرين وما شابه. ولم يختلف خطاب رشيد إلا بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ حيث بدأ يميز بين اليهود والصهيونية.
الكاتب الفلسطيني الأبرز الذي انعكس الخطاب القومي الناصري في نصوصه هو ناصر الدين النشاشيبي. عاش النشاشيبي في ستينيات القرن العشرين في مصر وتولى رئاسة تحرير صحيفة ناصرية تنطق باسم الناصرية، ومن الطبيعي أن يطغى على ما يكتب؛ سياسة وأدباً، الخطاب الرسمي. أصدر النشاشيبي في ١٩٦٢ و ١٩٦٤ روايتين تصوران الصراع الفلسطيني/ العربي والصهيوني؛ الأولى هي “حفنة رمال” والثانية هي “حبات البرتقال”، وفي كلتيهما يبرز الخطاب القومي الذي يأتي، أحياناً، على نظرية الدم. فهناك دماء عربية تجري في شرايين سارة التي ولدت لأب عربي وأم يهودية. يموت والد سارة فتأخذها أمها إلى أهلها ليرعاها أخوالها، وحين تكبر توظفها الوكالة اليهودية لخدمتها، فترسلها لشاب عربي يرفض بيع أرضه، علها تسقطه، ولكن دماءها العربية تأبى لها هذا فتعترف لثابت بأن دماءها عربية وأنها عربية مثله وأنها مرسلة للإغواء والإسقاط.
الصورة التي تبرز لليهود هنا هي صورة اليهودي المستوطن الذي يريد الأرض، وفي سبيل هذا لا يتوانى عن أي طريق مهما كان سافلاً وبلا أخلاق. اليهودي الصهيوني هنا يقتل ولا شرف له ويرسل الفتيات اليهوديات إلى الآخرين للإيقاع بهم. إنه دموي قاتل. ولا تختلف صورة اليهود في رواية “حبات البرتقال”. في الرواية يهود صهيونيون يريدون إقامة الوطن القومي اليهودي ولا يتورع هؤلاء عن ارتكاب جرائم وسلوكات غير أخلاقية. يلجأون إلى الخداع والقتل وإرسال الفتيات اليهوديات إلى الآخرين ليضغطوا عليهم لتنفيذ مآرب الحركة الصهيونية وأهدافها. طبعاً وكالعادة يميز النشاشيبي بين يهود ويهود، فهناك يهوديات جميلات يحببن أن يعشن حياتهن ولا يؤمن بالصهيونية ويقعن ضحية للحركة الصهيونية. بطل الرواية سابا فلسطيني يقيم، في فترة الحرب العالمية الثانية، في المانيا، ويقاوم النازية ويسجن لهذا، وحين تنتهي الحرب يطلق سراحه ويواصل حياته مع صديقاته اليهوديات اللاتي يرفضن الصهيونية وما تطلبه منهن الوكالة اليهودية من أفعال مشينة كتوظيف أجسادهن لخدمة المشروع الصهيوني. وحين يرفضن توقع الوكالة بينهن وبين الفلسطيني سابا وتحول حياة الجميع إلى جحيم؛ سابا وصديقته وصديقاتها أيضاً. إن الخطاب القومي وانعكاسه في الكتابة عن اليهود يبرز أوضح ما يكون في هاتين الروايتين.
طبعاً لا يعني ما سبق عدم وجود كتابات أخرى تعكس الخطاب القومي وتكتب وهي واقعة تحت تأثيره فغسان كنفاني الذي كانت ميوله في هذه الأثناء ميولاً قومية لم تخل نصوصه من الكتابة عن اليهود. إن رواية “ما تبقى لكم” (١٩٦٦) تصور الجندي اليهودي وتأتي على ما فعله الإسرائيليون في غزة في ١٩٥٦، حيث قتلوا سالماً بلا رحمة. ولكن الجندي الإسرائيلي في الرواية لا يبدو كذلك لأن الفلسطيني حامداً تمكن من أسره. وهكذا يستسلم للقدر علّ رفاقه يبحثون عنه فيقتلون حامداً ويتخلص هو من الأسر.
بدا تأثير الفكر القومي الذي آمن به كنفاني، في حينه، في بعض قصص “عن الرجال والبنادق”، فعدا عن أن هذه القصص تعكس صورة إيجابية لليهود المستوطنين الذين ينزرعون في الأرض ليعمروها، خلافاً لابن الريف الفلسطيني المتعلم الذي يؤثر حياة المدينة، فإنها تأتي على يهود صفد الفلسطينيين، وهم عرب. لقد كان هؤلاء قبل مجيء المستوطنين والحركة الصهيونية عرباً. كانت أسماؤهم عربية وكانت عاداتهم وتقاليدهم مثل عادات بقية سكان البلاد وتقاليدهم، وكانوا يشاركون السكان في أفراحهم وأتراحهم، ولم يتغيروا إلا حين بدأ المشروع الصهيوني يقوى. في البدء سكتوا وصمتوا ثم بعد ذلك آثروا الانضمام إلى الحركة الصهيونية. إن صورة اليهود في أدبيات كنفاني في هذه المرحلة تأثرت بالخطاب القومي وهو ما سيختلف لاحقاً ليبدو كنفاني، بعد هزيمة حزيران، متأثراً بالفكر اليساري الذي سيترك أثره في تشكيل صورة اليهود.
وماذا عن الخطاب اليساري؟ لعل المرء يجده في أشعار شاعر مثل معين بسيسو، ولن تختلف الكتابة عن اليهود في شعره كثيراً عنها في أشعار زياد ودرويش. فقد كان بسيسو شيوعيا يفخر بشيوعيته ويقر بأنه فلسطيني وأممي في الوقت نفسه.