في مواجهة الثورة يعلّي “اليسار الممانع” قضية فلسطين، ويشدد على المقاومة (التي باتت تتلخص في حزب الله)، بل يحتكر خطابها كونه هو “المقاوم الأول”. وينطلق من ذلك لتحديد طبيعة النظم، فيكون النظام التونسي قبل الثورة، وكذلك المصري عميلان للإمبريالية، ومتحالفان مع الدولة الصهيونية. ويكون علي عبدالله صالح والقذافي يمثلان نظامين “وطنيين”. وتصبح الثورة السورية مؤامرة ضد نظام وطني يدعم المقاومة و”تحرير فلسطين”.
“فلسطين هي البوصلة” هكذا يقول خطاب الممانعة، وعلى أساسها يحدّد سياساته ومواقفه هذا اليسار. لهذا وقف مع النظام السوري، وبرّر تدخل حزب الله وإيران في سورية. لكن أي فلسطين هذه التي هي البوصلة؟
طبعاً يظهر من هذا الخطاب أنه يحضّر للزحف من أجل تحرير فلسطين، وإنهاء الدولة الصهيونية. وهو يرى أن الثورات هي مؤامرة من أجل التشويش عليه ومنعه من القيام بهذه المهمة الكبيرة، والتاريخية. لهذا بعد أن اعتبر أن تونس ومصر قد شهدتا ثورة عاد ليؤكد أن كل هذه الثورات مؤامرة، وكاد يردّد أنها “ثورات ملونة” مع خطاب الروس الذين يتحسسون رؤوسهم من “ثورة ملونة”، بالتالي اعتبروا أن ما جرى هو “ثورات ملونة”، وفرحوا بأنهم “كسروها”.
لكن ما هو موقفهم من فلسطين، من الدولة الصهيونية، ومن الصراع بمجمله؟
عدا قلة قليلة من هذا “اليسار” لا زالت تطرح مسألة تحرير فلسطين فإن مجمل هذا اليسار (العربي والعالمي) ينطلق من “حقيقة وجود الدولة الصهيونية”، ومن “ضرورة الاعتراف بها”، حيث أنه يؤسس على مبدأ “حل الدولتين”، حيث تصبح فلسطين هي “الضفة الغربية وقطاع غزة”، ويكون 80% من فلسطين التاريخية هي “دولة إسرائيل”. وبالتالي فهو مع “الحل السياسي” للصراع “الفلسطيني/الإسرائيلي”، ومع تعايش دولتين.
الأحزاب الشيوعية في كل العالم، التي تدافع عن النظام السوري وتشدّ على “ممانعته”، قررت منذ زمن طويل الاعتراف بالدولة الصهيونية، وهي تتعامل معها كوجود ثابت، وترفض كل حديث عن إزالتها وتحرير فلسطين، التي باتت لديها هي الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، بالتالي تطالب عبر الحل السياسي تحقيق “الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف”. ولقد رفضت كل المقاومة المسلحة، وشعار تحرير فلسطين، واعتبرت أن ذلك طفولية و”لا واقعية”، وفرحت حين قامت “قيادة منظمة التحرير الفلسطينية” بتحويل الشعار إلى دولة فلسطينية على 20% من أرض فلسطين، معتبرة أن واقعيتها هي التي انتصر على الضد من “ثورويّة” الفصائل الفلسطينية، من ضمن ذلك “الحزب الشيوعي الإسرائيلي”، وحزب الشعب الفلسطيني، والحزب الشيوعي الأردني، واللبناني، وغيرها في البلدان العربية والعالم. التي كلها تضغط، وتؤكد، وتنشط من أجل، نجاح حلّ الدولتين، أي القبول “النهائي” بالدولة الصهيونية، والاعتراف بوجودها مع إزالة الطابع العنصري الذي تتسم به، وكسر نظام الأبارتهيد الذي أنشأته. وهي كلها تنشط ليس من أجل إنهاء الدولة الصهيونية بل تشذيبها، ولا تطور الصراع العالمي من أجل تفكيكها بل أنها تحصر الحراك العالمي في حدود الضغط من أجل حصول هذا “التجميل” في بنيتها. فقد “وُجدت لتبقى” وفق منظورها، دون لمس الطابع الاستيطاني الإمبريالي الذي يسم وجودها، ويجعلها كياناً استعمارياً استيطانياً.
وأيضاً الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي تلقى أفكارها رواجاً لدى قطاع من اليسار العربي والعالمي نتيجة رمزية سابقة، يقوم برنامجها على “حل الدولتين”، وتدافع بشكل شديد عن “الدولة المستقلة وعاصمتها القدس”. ورغم حماسة شباب ينتمون لها وتصميمهم، لا زالت جزءاً من الفصائل الفلسطينية التي تعتبر فلسطين هي هذه “الدولة المستقلة”، وتحصر سياساتها ضمن ذلك. ورغم بعض المراوغة في خطابها، تُظهر ممارستها حدود هذه السياسة التي تقزّم فلسطين إلى جزء ضئيل من حدودها التاريخية. وتشتت المنظور الأصلي الذي قام على تحرير فلسطين، كل فلسطين، نحو سياسات هامشية، ومنظور لا يبتعد كثيراً عن أسلوب التفاوض الذي تمارسه السلطة الفلسطينية، بالضبط لأنها تقبل أولاً بهذه “الدولة المستقلة” وتتجاهل كل فلسطين، ولأنها ثانياً تمارس ضمن حدود هذه الإستراتيجية، ولا تخرج عنها، بل ربما تتخذ “دوراً اعتراضياً” فقط.
هذه المنظورات هي التي تحكم “اليسار الممانع”، والذي يدعم النظام السوري لأنه “يدعم القضية الفلسطينية”، كما يدعم “المقاومة”، ويسهم في “تحرير فلسطين”. لكنها هي ليست مع تحرير فلسطين، ولقد أقرت بأن فلسطين هي فقط هذه الـ 20% من حدودها التاريخية، وأن المفاوضات والسلام هما الأصل في الوصول إلى “الدولة المستقلة” عليها. بالتالي هي لا تريد دعم النظام السوري من أجل تحرير فلسطين، بالضبط لأنها لا تطرح ذلك، وطبعاً النظام السوري لا يريد تحرير فلسطين، فقد قرّر منذ أكثر من ربع قرن أن سياسته تقوم على أن السلاح هو الخيار الإستراتيجي، وأن المفاوضات هي “الطريق الوحيد”. وهو ما جعله يهدئ جبهة الجولان طيلة السنوات التالية لحرب أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1973.
بالتالي فلسطين خارج معادلة الموقف من النظام السوري والثورة السورية، وليست سبب دعم هذا اليسار الممانع للنظام، ودفاعه الشرس عنه. فلسطين هنا هي “ورقة لعب”، وربما “ورقة تين” تخفي الأساس الذي يفرض دعم نظام مافياوي دكتاتوري وحشي. فلا هي معنية بتحرير فلسطين، ولا النظام معني ليس بتحرير فلسطين بل بتحرير الجولان. ولقد كانت فلسطين هي الغطاء لنظم مافياوية استبدادية، وتظهر أنها الغطاء كذلك ليسار هزلي، عجز عن أن يلعب دوراً في الصراع الطبقي في الإطار “القومي”، وظلّ هامشاً في المعادلات السياسية في الدول “القومية”، ولقد بات يتيماً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تلك الدولة العظمى التي كانت تمده ببعض الوجود.
هو “يسار” يريد أن يواجه في البيانات والخطابات، التي تصدر ضد الممارسات الوحشية الصهيونية، ويريد حقوق الفلسطينيين على 20% من أرض فلسطين متبرعاً بالباقي للدولة الصهيونية. كل ذلك رغم أنه “يتحالف” مع (أو يلتحق بـ) نظم يتوهم أنها “تريد تحرير فلسطين”، أو يمكن أن تسهم في الضغط من أجل “الدولة المستقلة”، وبيع باقي فلسطين.
إذن هذا “اليسار” يتمسّح بفلسطين لكن وفق المنظور الذي يؤسس عليه وهو ليس من فلسطين، إذ تقزّمت إلى كانتونين. “يسار” ضد “إسرائيل” لكن مع حل الدولتين الذي يقوم على قبول “إسرائيل”. بينما تحرير فلسطين يفترض تحقيق تغيير جيوإستراتيجي في الوطن العربي، يبدأ بإسقاط النظم كلها (أو أولاً دول الطوق)، فمن أجل تحرير فلسطين نريد إسقاط النظام وليس التحالف معه، وأقصد طبعاً النظام السوري، كجزء من مجمل النظم العربية. ويجب أن تقود الثورات إلى ذلك. حينها يصبح تحرير فلسطين مشروعاً واقعياً.