مقدمة
أرسل إليّ أحد الأصدقاء مقالًا لعالمة الاجتماع الإسرائيلية، إيڤا إيلّوز، التي لم أسمع بها من قبل لجهلي بنجوم هذه الأيام في الأكاديمية الإسرائيلية، الذين تحتضنهم الأكاديميات الغربية. وقد نُشر المقال في جريدة “زودويتشه تسايتونغ”(١) الألمانية. المقال يردّ بالإيجاب عن السؤال: هل كانت الاحتجاجات في الجامعات معادية للساميّة؟ لا علاقة لردّي عليه بموقفٍ من الكاتبة، التي لا أكنّ لها مشاعرَ إيجابية أو سلبية، بل لأنه ينتقل من مجرد التحريض إلى محاولة إثبات التهمة، على نحوٍ يتيح فرصةً لمناقشة الموضوع. وكان ممكنًا أن يناقَش من دون ذكر المصدر. لكنّ هذا لا يجوز.
تبدي الكاتبة استغرابًا إلى حدّ الاندهاش من الاحتجاجات في الجامعات الأميركية والأوروبية، ومن الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل. وهي تكرِّر أنّ المظاهرات حملت أيضًا شعار تفكيك إسرائيل، وهو شعار لم يُستخدَم، في رأيها، حتى ضد “الإمبريالية العدوانية الروسية” و”رواندا الجينوسايدية” بتعبير الكاتبة Genocidal، ولا حتى ضد جنوب أفريقيا نفسها. ولا تميّز بين الدعوة إلى تفكيك نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا وإسرائيل وتدمير بلاد على شعبها، كما فعلت الحركة الصهيونية في فلسطين، وكما تفعل إسرائيل حاليًا في غزة. وتفكيك نظام الأبارتهايد هو موقف بعض المشاركين في المظاهرات، باعتبار أنّ ما نشأ في إسرائيل نتيجة للاستعمار الاستيطاني هو نظام كهذا. والموقف يطابق في صياغاته لغة الحركة المناهضة للأبارتهايد في جنوب أفريقيا في حينه؛ ولكنه ليس شعار مجمل الحراك الطلابي الداعي إلى وقف الحرب، وسحب استثمارات الجامعات من إسرائيل.
تستغرب الكاتبة اعتبار أن ردَّ إسرائيل على عملية إرهابية بحجم عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وإن كان متمثِّلا في قصف منطقة كثيفة بالسكان، ونتيجة له سقط ضحايا مدنيون، هو عمليةَ إبادة؟ يرى العديد من الباحثين والحقوقيين، ومنهم كاتب هذا المقال، أنّ إسرائيل “تستهدف المدنيين والمنشآتِ المدنيةَ في غزة”، بما في ذلك المدارس والجامعات، لأهداف الانتقام وتلقين المجتمع الغزّي كلّه درسًا لردعه عن دعم أيّ مقاومة مسلّحة للاحتلال في المستقبل وتأليبه على حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، لأنّ إسرائيل تجعله يدفع ثمنًا غاليًا لعملياتها. وتضمّنت مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، يوم 20 أيار/ مايو 2024، تهم التجويع وارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين. وحتى من يرى أنّ قتل المدنيين ليس كافيًا للحديث عن جريمة إبادة (جينوسايد)، لأنه ناجم عن كثافة السكان وتحصّن حركة حماس في الأنفاق بين المدنيين، يعود ويؤكد أن نهج التجويع الذي تتبعه إسرائيل في غزة هو “جينوسايد” فعلًا(٢).
تصرّ الكاتبة على أن تبعدنا عن الاحتلال وفظائعه، وجرْح أكثر من 80 ألف، والتسبب في إعاقةٍ لعشرات الآلاف، وقتل أكثر من 35 ألف فلسطيني (خلال سبعة أشهر)، إضافةً إلى حوالى 10 آلاف من المفقودين، ثلثاهم من النساء والأطفال، وتدمير قطاع غزة وجعله غير صالح للعيش، لتصل إلى نقاشٍ حول ما يكمن في اللاوعي الثقافي للطلاب في جامعات الولايات المتحدة الأميركية، أو التراكمات الثقافية العميقة الكامنة في وعيهم.
يتميز هؤلاء الطلاب المدفوعون بحوافز أخلاقية نبيلة للتضامن مع شعب في قارة أخرى ولمعارضة تورّط بلادهم المباشر في الظلم الواقع عليه، بترفّعهم عن أيّ مصلحة مباشرة، وذلك خلافًا لحراك الطلاب الأميركيين ضد الحرب في فيتنام، الذي كان أيضًا أخلاقيًا، لكنّه لم يخْل من اعتبارات أخرى؛ لأنّ الحرب كانت تمسّهم وتمسّ عائلاتهم مباشرةً، ومن المتوقّع أن يُجنَّدوا ليقاتلوا فيها بعد أن يتخرّجوا. ولكن الكاتبة، لسبب ما، تعدّ احتجاج الطلاب ضد الحرب في فيتنام أكثر أصالة من الاحتجاج الحالي الذي تشهده جامعات الولايات المتحدة. فهي لا تستطيع أن تنكر أخلاقية حراك الطلاب؛ لذلك، تلجأ إلى ادّعاء تأثّره بالعناصر المعادية لليهود في الديانة المسيحية والقائمة في مداميك ثقافية عميقة مدفونة في اللاوعي. ليست لديها أيّ أدوات عقلانية لإثبات أيّ مظاهر أو تعبيرات لاساميّة في الاحتجاج الطلابي، ولذلك تلجأ إلى افتراض اللاوعي الثقافي الجمعي الذي يغنيها عنها.
تلجأ الكاتبة إلى أدواتٍ يستخدمها يساريون وليبراليونفي نقد مظاهر العنصرية والشوفينية الذكورية التي قد لا تكون واعية لذاتها، لكنّها تُعبِّر عن تلك المداميك الثقافية المتراكمة عبر تاريخ المجتمعات والمستبطنة في لاوعي الأفراد، وتتجسد في تعابير لفظية وسلوكيات اجتماعية. وإذا كان الأساس المنهجي للمقال هو أبحاث الكاتبة بشأن العواطف في السياسة، فاستخدامه هنا يقول الكثير عن عملها الأكاديمي؛ فثمة طرائق كثيرة يجري التعامل بها مع ما تعدّه هي مستويات ثقافية مستبطنة في اللّاوعي. قد يعِيها الناس، خاصة جيل الشباب هذا، في صراعهم مع الجيل السابق ويقاومونها ويتمردون عليها. وقد تُكبَت ومن ثم يُعبَّر عن الكَبْت بمواقف تماهٍ غيبي عصبوي ضد ما يُكبت، كما تتماهى المسيحية الصهيونية مع إسرائيل، مع أنها الأقرب في جذورها إلى اللاساميّة الدينية. وتتوافر آليات عديدة في التعامل معها غير الانسياق الأعمى لها. وفي حالات التأثر غير الواعي بالأفكار الدفينة، ينشأ توتر مع مواقف الإنسان الأخلاقية. وسرعان ما يصحح نفسه حين يعي ذلك بسبب مبادئه الأخلاقية وقدراته العقلية على التمييز. ويكاد يكون التذكير في حالة اللاسامية كلّيَّ الحضور؛ إذ تكاد تكون العنصرية الوحيدة التي يحاسب عليها القانون في البلدان الأوروبية، والتي تعمل المدارس والأدب والمسرح والسينما على التثقيف ضدها. لقد تبلور إجماعٌ ثقافي ضدّها، وضد النظرية العرقية التي تلبّست بها في تحوّل اللاساميّة الدينية إلى العلمانية.
لا يتحدّر هؤلاء الطلاب غالبًا من مثل هذه الثقافة التي لم تنتشر في الولايات المتحدة بالدرجة نفسها كما في أوروبا. ويتحدر العديد منهم من جنوب الكرة الأرضية، حيث لم تنتشر هذه الثقافة التي تُفرِد الكاتبة لها الجزء الأكبر من مقالها، وأقصد العداء للساميّة في المسيحية. تدفع المقاربة الأخلاقية هؤلاء الطلاب إلى مناهضة أشكال العنصرية كافة، ومنها اللاساميّة. وتعلم الكاتبة أنّ دوافعهم أخلاقية؛ لذلك تنهي مقالها الذي تهاجم فيه هذا الحراك الأخلاقي الفريد بالجملة التالية “لم تكن الأخلاق يومًا إلى هذه الدرجة ضد الخير”. والحقيقة أنّ قلة الأخلاق لم تكن يومًا ضد الخير إلى هذه الدرجة (التي بلغتها في هذه الحرب). يمكن أن تتهم الكاتبة الطلاب بأنهم ساذجون ولا يفقهون السياسة، ومن ثم، يتسببون في ضرر “للخير” المتمثل عندها كما يبدو ب”معسكر السلام في إسرائيل” (المتضرر من هذه المظاهرات وفقًا لتحليلها العجيب). في هذه الحالة تكون التهمة هي السذاجة الكامنة في الدوافع الأخلاقية النبيلة، وليست اللاساميّة التي تحرّكهم من دون أن يدروا.
لا تنجح الكاتبة في إخفاء دوافعها؛ فهي تريد أن تحافظ على امتيازات إسرائيل في الغرب رغم ما تقوم به في المناطق المحتلة، وأن تُحسَب على معسكر السلام، في الوقت ذاته. وهكذا تكسب العالَمَين. تموضع نفسها في معسكر السلام، وتعدّ مظاهرات الطلاب ضد الحرب مدفوعة بمشاعر مسيحية لاساميّة عميقة تعود إلى صلب المسيح، رغم مشاركة شباب يهود ومسيحيين ومسلمين وبوذيين وآخرين فيها. لقد غاب ما يسمّى معسكر السلام في إسرائيل في هذه الحرب قبل أن تنطلق هذه المظاهرات بأشهر، واندمج ضمن القبيلة التي جرى تحشيدها للانتقام. ولن نحلل الطبقات الثقافية العميقة التي تحرّك الكاتبة، والتي لا تعيها حين تحاول إلصاق تهمة اللاساميّة بمظاهرات ضد الحرب. ونكتفي بمناقشة ما تكتب.
لماذا لا يتظاهرون ضد روسيا والصين وإيران؟
ذكّرتني الكاتبة، لسببٍ ما، بتساؤلات داعمي الدكتاتوريات في الدول العربية في زمن الثورات العربية: لماذا لا يتظاهرون ضد إسرائيل وسياسات الولايات المتحدة في العراق؟ حين تساءلت في بداية مقالها باستهجان: متى كانت آخر مرة احتج الطلاب أنفسهم بالكثافة نفسها على النظام الإيراني القمعي وعلى الإبادة التي تجري في الصين ضد الإيغور؟ لقد تركزت مطالب المظاهرات الجارية بالأساس على طلب أن تسحب الجامعات استثماراتها من إسرائيل. فهل تريد الكاتبة أن يدعو الطلاب جامعاتهم لتسحب استثماراتها من إيران، وأن توقف الولايات المتحدة دعمها للصين؟ لا يحتاج الطلاب إلى التظاهر ضد سياسات الولايات المتحدة في كوريا الشمالية أو إيران أو الصين أو روسيا؛ لأنّ دولتهم منخرطة أصلًا في سياسات معادية لأنظمة هذه الدول، وتتخذ ضدها خطوات عملية مثل الحصار والعقوبات (إيران)، وتدعم خصوم هذه الدول في الحروب ضدّها (أوكرانيا ضد روسيا)، في حين أنها تساند الاحتلال الإسرائيلي سياسيًا بالمال والسلاح من دون قيد أو شرط. ولا تكتفي الولايات المتحدة بعدم اتخاذ أيّ إجراء ضد إسرائيل، بل تحظى الأخيرة بامتيازات فيها وفي أوروبا الغربية. هل تبعد الجوائز الأكاديمية أصحابها عن الواقع السياسي إلى هذه الدرجة؟ إنها تعرف، على الأقل، أنّ إسرائيل تحظى بامتيازات في الدول الغربية، بما في ذلك في المؤسسات الأكاديمية من خلال التعاون والتبادل والاستثمارات ودعم البحث العلمي. ومن الواضح أنّ الكاتبة لا تريد أن تخسر هذه الامتيازات، وذلك من خلال موقفها الحادّ ضد مظاهرات الطلاب.
تفتتح الكاتبة حجاجها لصالح اتهام الحراك الطلابي بمعاداة الساميّة بأنّ نقاشًا Debate دار حول كون هذه المظاهرات معادية للساميّة أم لا. والحقيقة أنّ كلمة نقاش في هذا السياق تجميل للواقع؛ فما تعرَّض له الطلاب من افتراءات واستخدام أداتِي إسرائيلي للّاساميّة، على طريقة نتنياهو وبعض نواب الكونغرس المتطرفين الجهلة، هو تحريض حقيقي لنزع الشرعية عن حراكهم، واتخاذ خطوات لقمعه، وتشتيت الانتباه عن مضمونه، وتحويل الطلاب إلى الدفاع عن أنفسهم في وجه هذه التهم الباطلة. لقد أثارت المظاهرات حوارًا في الجامعات حول عدالة قضية فلسطين، أما تهمة اللاساميّة فجاءت لتعطيل النقاش العقلاني والأخلاقي. لم تكن إسرائيل في الماضي في حاجة إلى أن تقيّد حرية التعبير في الدول الحليفة دفاعًا عنها، فقد حقق خطابها وسرديتها بشأن فلسطين والمنطقة هيمنةً ثقافيةً في دول الولايات المتحدة وأوروبا، لكنها أصبحت في حاجة إلى تقييد حرية التعبير في الإعلام وفي الجامعات في الدول الديمقراطية؛ لكي تحمي سرديتها التي لم تعد مهيمنة، ولا بد من فرضها بالقوة.
عن التعريفات
بعد أن قررت الكاتبة أنّ المتظاهرين غاطسون في معانٍ ثقافية عميقة معادية للساميّة، عن وعيٍ أو من دونه، فإنها تعرّف اللاساميّة تعريفًا عجيبًا. وهي تشدد في البداية على عدم الخبرة في الموضوع وعدم الاختصاص. ولولا أنّ كلامها هذا هو مقدمة من أجل وضع تعريف خاص بها للاساميّة، لقلت إنه تواضع العلماء؛ فالباحث الذي أشبع موضوعه بحثًا وحده يتجرأ على وضع تعريف للظاهرة، أما غير المتخصص فيلجأ إلى تعريفات قائمة. وأما الكاتبة التي تقول إنها غير متخصصة ولا مؤرخة في هذا المجال الشاسع، فخلافًا للمتوقع يدفعها ذلك، كما تقول، إلى أن تُعرِّف اللاساميّة “شخصيًا” (يبدو أنّ كل شخص غير متخصص يمكنه أن يختار التعريف الذي يناسبه) بكونها “النظرية التي تعدّ يهودًا مسؤولين عن سفك دم غير يهود” the theory that holds Jews responsible for the spilling the blood of non-Jews. وهو تعريف عجيب من منظور الاختصاص وغير الاختصاص. لقد وضعت هذا التعريف على مقاس موقفها من معارضي الحرب الحالية. وبما أنّ اللاساميّة هي الادّعاء “أنّ يهودًا مسؤولون عن سفك دماء غير يهود” من دون أداة التعريف “الـ”، فكيف تهرب في هذه الحالة من تداعيات هذا التعريف الكامن في أعماق مشاعرك على ادعائك أنّ يهودًا يسفكون دماءَ غير يهود في غزة. عليك أن تحذر في كلامك!
تشتق الكاتبة تعريفها هذا ممّا ورد في الأناجيل من اتهام ليهودٍ بصلب المسيح. وتعتبر أنّ سفك الدم هو الخيط الذي يربط جميع الافتراءات اللاساميّة التي انتشرت في أوروبا في العصر الوسيط. لكنّ اللاساميّة أوسع من ذلك في الحقيقة. وهي تعني كراهية اليهود لأنّهم يهود؛ وهي كراهية متطرفة لا يتسع المقام لشرح ما يميّزها. كانت هذه كراهية دينية، وأصبحت كراهية قومية، واستُخدمت كذلك في حرف الصراعات الاجتماعية الطبقية نحو معاداة اليهود بوصفهم مرابين أو طفيليين (رأس مال غير منتج) مسؤولين عن الأزمات الاقتصادية، أو لأنهم طعنوا الأمة في الظهر في الحرب العالمية الأولى، أو خانوا، أو غير منتمين قوميًا في زمن صعود الفكر القومي في فرنسا وألمانيا وغيرهما، كما ركِّبت في منتصف القرن التاسع عشر النظرية “العرقية” على كراهية اليهود لتصبح كراهية مبررة بعلمٍ زائف Pseudoscientific.
الحجج
-
تعتبر الكاتبة أنّ العداء لإسرائيل يتضمن العداء لليهودية؛ لأنّ الإسرائيليين يهود، وهذه حجة عجيبة. تاريخيًّا كان المتنورون من بيننا، ومن كانوا يسمّون يومًا التقدميين، اليهود والعرب، يحاولون أن يقنعوا الإنسان الفلسطيني العربي بأن يميّز بين اليهود والصهيونية، وبين اليهود وإسرائيل، وألّا يعمم غضبه مما تقوم به إسرائيل على اليهود. تأتي هذه العالمة وتقول العكس: لا يجوز التمييز بين اليهود وإسرائيل، فمن يتظاهر ضد إسرائيل يتظاهر في الحقيقة ضد اليهود. أيّ نهج للتفكير هو الأقرب إلى اللاساميّة هنا؛ نهجها أم نهج من يميزون بين إسرائيل واليهود، ويرفضون هذه التعميمات؟ إنها تستدعي التعميم. ولسذاجتنا، كنّا نحسب أنّ العنصرية تقوم على التعميم. إنّ نمط التفكير الأقرب إلى اللاساميّة هو نمط تفكيرها، وليس نمط تفكير هؤلاء الطلاب أو غيرهم من الليبراليين والتقدميين، العلمانيين والمتدينين، العرب واليهود، المسلمين والمسيحيين، الذين يميّزون بين اليهود وإسرائيل. وبهذا المعنى، نعم من المهمّ وجود شباب وأساتذة يهود بأعداد كبيرة في المظاهرات ضد الحرب، وهي حقيقة تهملها تمامًا وتعتبرها حجّة سخيفة. وسنأتي على هذا الموضوع.
-
لقد استخدم الجزائريون في مقاومتهم الاستعمار الفرنسي تعابيرَ دينية إسلامية، واستخدمها غيرهم في التعبئة ضد مستعمرين مسيحيين. أيعني هذا أنهم قاوموهم لأنهم مسيحيون أم لأنهم مستعمرون؟ العداء لإسرائيل هو عداء للاحتلال. والصراع هو صراع بين شعبٍ واقع تحت الاحتلال ودولةٍ محتلّة. ولا شك في أنه في جميع الصراعات في العالم تُستخدم تعميمات قبلية (دينية أو قومية أو غيرها) ضد الطرف الآخر. حصل هذا في أوروبا بين الشعوب المسيحية، وبين الشعوب المسلمة والمسيحية، وبين شعوب تدين بالبوذية. تختلق دائمًا صفات سلبية تعبّر عن الفرق وتُستخدَم للتعميم ضد العدوّ. يظهر هذا كله على السطح، وليس بالاستناد إلى اللاوعي والطبقات الثقافية العميقة الدفينة. وبما أنّ أيًا من هذا لا يظهر في الحراك الطلابي ضد الحرب، فإنّ الكاتبة تبحث عنه في لاوعيهم الثقافي الجماعي.
تعتبر الكاتبة أنّ أحد أهم مظاهر اللاساميّة هي تغذية كراهية اليهود من خلال تشكيلهم أو تركيبهم في الوعي بوصفهم “تهديدًا للنظام الأخلاقي”. ووفقًا لتعابيرها: حين يُركَّب اليهود باعتبارهم كيانًا خطِرًا يسفك الدماء ويتجاهل القوانين ويعيث خرابًا، تصبح اللاساميّة هي حزب الإنسانية والأخلاق والنظام والقانون. واضح أنّ التركيب الذي تقوم به، وتحديدًا سفك الدماء وتجاهل القوانين والتدمير، هو ما تقوم به إسرائيل حاليًا في غزة، وقد جعلته الكاتبة جزءًا من تشكيل اللاساميّة لصورة اليهود. يمكن أن تسفك إسرائيل الدماء وتتجاهل القوانين وتدمّر، وهذا ما تقوم به فعلًا، لكنّ قول ذلك قد يعرّضك لتهمة اللاساميّة؛ لأنك بذلك تحاكي هذا التركيب. ليس مفاجئًا، في نظرها، أنّ المتظاهرين الشباب في العالم كله الذين يوجّهون هذه التهم لإسرائيل لا يعدّون أنفسهم لاساميّين، لكن ما يعبّرون عنه هو لاساميّة دفينة. وفي رأيي، إنهم لا يعدّون أنفسهم لاساميّين بحق، فهم لا يتهمون اليهود. والأساس في العنصرية هو تعميم الصفات السلبية وليس نوع التهم التي توجَّه.
-
وتدّعي الكاتبة أنهم ينكرون حق إسرائيل في الوجود “وهو حق لا يُنكر لأيّ شعب آخر على وجه البسيطة”! (ربما نسيَت الشعب الفلسطيني على ما يبدو وشعوبًا أخرى عانت طويلًا الاستعمار)، لأن الطلاب المتظاهرين “يدافعون بشغف عن بقاء العالم الذي تهدده هذه الدولة المتفردة في إجراميتها”، وفقا لما تنسبه الكاتبة إليهم. والحقيقة أنّ الطلاب لا يريدون “إنقاذ العالم من هذه الدولة المجرمة”، بل يريدون إنقاذ الشعب الفلسطيني (والإسرائيلي أيضًا) من الاحتلال، ويدعون دولهم ألّا تتورط في دعمه على حساب المواطن الذي يدفع الضرائب. وتقول الكاتبة: “لا يوجد عنف آخر يستخرج هذا الكمّ من الغضب الأخلاقي الذي تستخرجه إسرائيل من الناس”. ولكنّ العكس هو الصحيح. فقد حظيت إسرائيل بتسامحٍ لم يحظ به أيّ احتلال، بما في ذلك خرقها المتكرر للقانون الدولي. وتأخّرت المظاهرات ضدها عقودًا. وتتمثل الفرادة في تأخّرها كلّ هذا الوقت، وإلّا لما كانت الكاتبة متفاجئة ومستغربة إلى هذه الدرجة. والمدهش أنّها لا ترى أنّ العالم شهد احتجاجات كثيرة ضد الحرب في فيتنام وعلى العراق وضد نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وضد سياسة فرنسا في الجزائر، وكلّ الأمور التي كانت دول غربية متورطة فيها، إلا قضية فلسطين. وتكمن الفرادة في قضية فلسطين في عدم قيام احتجاج واسع بشأنها حتى الآن! وثمة أسباب عديدة لذلك ليس هذا مقام الخوض فيها. وأحدها بالتأكيد هو المسألة اليهودية وتعقيداتها في الغرب، ومساعدة إسرائيل الدول الغربية في التخلّص من عقدة الذنب بإسقاطها على العرب والفلسطينيين.
-
تقول الكاتبة: “يعود الأمر برمّته، في رأيي، إلى أنه في عمق الثقافة الغربية تكمن فكرة أنّ اليهود يهددون العالم”. لا أدري ما علاقة هذه المقولة العجيبة بالمظاهرات الاحتجاجية للطلاب؟ وتقول إنّ هذا يظهر حينما تقوم الدولة الإسرائيلية “أحيانًا” بخرق القانون، كما تفعل دولٌ عديدة في العالم. لقد خرقت إسرائيل القانون الدولي، كما تقول، لكنها تجد صعوبة في الاعتقاد أن الولايات المتحدة أو غيرها من دول العالم الحر كانت ستتصرف على نحوٍ مختلف لو تعرّضت لما تعرّضت له إسرائيل يوم 7 أكتوبر. لا تقوم إسرائيل بعمل استثنائي في حربها على غزة يبرر الاحتجاج عليه، إذًا؛ فما يجري، وفقًا للكاتبة، طبيعي جدًا، وإذا اتّهَمتَ إسرائيل بارتكاب جرائم فإنكَ تكرر، بوعيٍ أو من دونه، المقولات اللاساميّة التي تتهم اليهود بأنهم مجرمون يهددون النظام الأخلاقي في العالم. الويل لمن ينتقدون إسرائيل من منطلقات أخلاقية! إنهم يعرّضون أنفسهم لتحليل عالمة اجتماع إسرائيلية ترى أنّ موقفهم الأخلاقي هو في الحقيقة تعبير عن أفكار دفينة عميقًا في اللاوعي مفادها أنّ اليهود يهددون النظام الأخلاقي السائد.
-
يتهم الطلاب المتظاهرون حكومة إسرائيل ومن يتبعها عينيًّا بارتكاب جرائم بل فظائع ضد الإنسانية، ولا يعممون ذلك إطلاقًا على اليهود. وبما أنّ اليهود يعتقدون أنّ إسرائيل جزء من هويّتهم، بحسب استطلاعات تقتبسها الكاتبة، وهذا أمر متوقع، فإنّ من يهاجمها يهاجمهم، وهذا استنباط غيبي لا علاقة له بالعلم. بين الطلاب المحتجّين في الجامعات الأميركية والأوروبية أتباع لديانات وإثنيات متعددة، علمانيون ومتدينون. وهم في الحقيقة يتظاهرون ضد حكوماتهم وسياساتها، وربما يتضمن ذلك تمردًا جيليًا عند بعضهم كما حصل في ستينيات القرن العشرين. وتتظاهر فئتان فقط بدواعي الهوية أيضًا، تتمثلان في الطلاب من أصول فلسطينية الذين من خلال هذه المظاهرات يؤكدون على هويتهم وتضامنهم مع شعبهم، واليهود الذين بسبب هذه الصلة الدينية بينهم وبين إسرائيل يريدون القول إن إسرائيل لا تمثّل هويتهم. إنّ وجود علاقة هوياتية بين أتباع الديانة اليهودية وإسرائيل لا يعني أنّ اليهودي متّهم إذا هوجمت إسرائيل، وحتى ذلك الذي يشعر أنه متّهم، إذا ما هوجمت، فلديه أدوات عقلانية وعاطفية ليتعامل مع هذا الأمر، إحداها التماهي معها كما تفعل الكاتبة. وثمّة أدوات أخرى، مثل اتخاذ موقف أخلاقي من سياسات إسرائيل التي تحرجه (بسبب شعوره بصلة الهويّة)، أو فكّ الارتباط الشعوري بها، وغيرهما. وبغضّ النظر عن هذا كلّه، لا يُستنتَج من وجود رابط ذاتي بين اليهودي وإسرائيل أو غيابه، أنّ من يهاجم إسرائيل يقصد مهاجمة اليهود.
-
تقول الكاتبة، أخيرًا، إنّ وجود يهود في المظاهرات لا يعني شيئًا؛ فالجميع في حركة “حياة السود مهمة” يَعون أنّ هناك سودًا يضطهدون سودًا آخرين أو لديهم أفكار مسبقة عنهم، كما يدرك كثير من اليهود أنّ يهودًا شاركوا في قمع اليهود في الاتحاد السوفياتي. لكننا نضيف إلى معلوماتها أنّ الطلاب يعرفون أنّ ثمة فلسطينيين يتعاونون مع الاحتلال، ومسلمين لا يترددون في قمع مظاهرات الاحتجاج ضد الحرب، مثل الحكّام العرب، ورئيسة جامعة كولومبيا. ويعرف كثير من اليهود أنّ ثمة يهودًا في إسرائيل يخدعون يهودًا آخرين ويقمعونهم، ويُضحّون بهم في هذه الحرب، وأن الكاتبة هي الأكثر شبهًا بهؤلاء حين تتهم الشباب، بمن فيهم اليهود، الذين يعارضون الحرب بمعاداة الساميّة.
الهوامش:
[1] Eva Illouz, “Antisemitismus an den Universitäten: Euer Hass auf Juden,” Süddeutsche Zeitung, 17/5/2024, accessed on 19/5/2024, at: https://tinyurl.com/vetf26bv
[2] Aryeh Neier, “Is Israel Committing Genocide?,” The New York Review (June 2024), accessed on 16/5/2024, at: https://cutt.ly/vete5kWd
عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.