التحدي والاستجابة في «حرف» لمحمد حاج بكري

Youssef Abdelke، Fish, Charcoal on Paper, 145x275cm, 2015

مازن أكثم سليمان

شاعر وناقد سوري

لعل حاج بكري قد دفع في هذا الديوان ديَّةَ الألم والقلق والخذلان شعرياً، مثلما كان قد دفعها حياتياً، وقد يكون المُشتهَى من ذلك هو أمل تطهير نفسه، وتحريرها في جدلية شعرية انبسَطتْ بين جماليات التحدي والاستجابة، وهذا ما يُحسَب له ويُثمَّن فعلياً.

للكاتب/ة

لماذا يعلن الشاعر هنا استمراريته في تدوين القصائد لمحبوبته، وفي إرسالها كل صباح جديد حتى ييأس سعاة البريد، إذا كان قد وجد ضالته (فرح) في أساليب وجود عالم (حرف)؟

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

06/01/2025

تصوير: اسماء الغول

مازن أكثم سليمان

شاعر وناقد سوري

مازن أكثم سليمان

استلهم المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي نظريته الشهيرة المعروفة بِالتحدي والاستجابة في تفسير نشوء الحضارات من علم النفس السلوكي، ولا سيما من كارل يونغ؛ إذ يرى هذا العلم أن الصدمات الفردية تُولِّد استجابة ما تأتي بعد مرحلة من فقدان التوازن النفسي والسلوكي، وهذه البؤرة كانت نقطة انطلاق توينبي في تفسير آليات نهوض الشعوب والحضارات عبر التاريخ. 

يمثل ديوان محمد حاج بكري، “حرف”، تبعاً لقراءتي له، استجابة شعرية لجملةِ صدمات ذاتية، فردية وجمعية، عاشها وعايشها الشاعر بعمق وعنف؛ بمعنى وجود إمكانية أولية، وفق اعتقادي هذا، لتوظيف نظرية توينبي في التاريخ على قصائد الديوان، وذلك بوصف هذه النظرية بؤرة أساسية لمقاربة الدلالة، ثم لتخليق الفهم وتشييد التأويل فيه.  

وأود، في هذا الإطار، أن أعتمد في قراءتي هذهِ إجرائياً، بعض آليات منهجي النقدي الأنطوثقافي العامة، والتي تنظر إلى النصوص الشعرية بوصفها عوالم تفتح أساليب وجود مختلفة، بما هي علامات تنطوي على جدل بين التمركز والتشتت.

وهذا ما سأحاول أن أختبره في قصائد هذا الديوان، وذلك تبعاً لمنحى يرى أساليب الوجود فيها نتاج تحدٍّ وجودي، انبسط كيانياً في منفتح استجابة شعرية ناهضة جمالياً بين المستويين الوقائعي (أي لغة الوجود) والمتخيّل (أي وجود اللغة)، حيث أعتقد أن هذه النصوص تنطوي على أربعة مستويات جدلية تتمركز وتتشتت بين التحدي والاستجابة، هي: 

أولاً: جماليات التحدي الوقائعي للأنا 

يفتتح الشاعر ديوانه بمجموعة شذرات شعرية، تبدو في اعتقادي منطوية على عتبات دلالية تُبنَى عليها ملامح عدة في تلقي التحدي، وقراءة الاستجابة، حيث يبدأ شذراته هذه بالقول: 

“قبلَ أن أراكِ 

كنتُ ميتاً فانتبهتُ”.

ينفي الشاعر وجود حياته قبل رؤية الحبيبة، إذ لم يكن قبلها سوى كائن ميت، وهذا الأسلوب يُؤسِّس لبناء دلالة التحدي الحياتي والوجودي الذي حاصره بمحنة ما، أو بمحن مختلفة. 

ولعل التناص يقودنا هنا إلى استعادة مقولة منسوبة إلى الإمام علي “الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا”، لكنَّ حاج بكري يطرح المعنى من زاوية معاكسة للمعنى الميتافيزيقي في جدلية الحياة/ الموت، الذي يعد الحياة زائفة، والموت حق أصيل، بينما يريد الشاعر أن تكون الحياة موتاً زائفاً، والحب تخليقاً للحياة الأصيلة، وهذا ما يمنح فعل (أراكِ) في هذا الموضع دلالة الرؤية القلبية، أكثر من دلالة الرؤية البصرية.  

يختتم حاج بكري شذراته الافتتاحية بالقول: 

“للزمن جيوب مهترئة..

…………..ضاعت فيها أعمارنا”. 

في هذا المقطع يُغلِق الشاعر دائرة الإحالة الرمزية على جذور التحدي الوقائعي، فبعد أن بدأ شذراته بإعلاء أيقونة الحب -إذا صح التعبير- ينهيها بإعلاء أيقونة الخيبات، فهل ينطوي تسرب الأعمار من جيوب الزمن بما هو ضياع على سؤال وجودي كلي بحت، أم أن للشاعر سؤاله النابع من خبرته وتجربته الخاصة التي نهض على تحدياتها وصدماتها هذا السؤال الكلي؟  

يقول حاج بكري في قصيدة “مُغادَرة”: 

“موتان قد صنعا لحبي دمية

خشباً من الصفصاف لا يتغيرُ

موتان من حب تعثرَ دربه

حتى تهاوى صخرةً تتكسرُ”.

ربما يكون من المُسوَّغ لنا، في حال اطّلعنا على حياة الشاعر المعيشة، أن نؤول هذين الموتين الوجوديين الكليين في إطار موتين واقعيين اختبرهما حاج بكري بنفسه، الأول تجربة الثورة السورية وتداعياتها الحربية الهائلة، وما نجم عن ذلك من مآسٍ وآلام وأثمان باهظة دفعها الشاعر شخصياً وحياتياً؛ والثاني تجربة الزلزال الذي ضرب سورية وتركيا، وفقد الشاعر بفعله عدداً مروعاً من عائلته، في كارثة لم يشف منها السوريون بعد. 

يقول في قصيدة “شدِّي على الرُّوح”: 

“هل تعلمينَ بأنني

راودتُ قبلكِ فكرةً للموتِ

كانت كل يومٍ تشعل النيران في قلبي أنا

منذُ انتقى الزلزالُ أحلامي 

ليخنُقَها

وطردتُها لما سمعتكِ

.. وانتبهتُ بأن شيئاً في الوجودِ يشدني

نحوَ البقاء”.

وهكذا، انزاحت صدمات الحياة الوقائعية، ثم انبسطت في القصائد بوصفها محرضات كيانية لفتح عالم بديل وتعويضي، فتداعيات الثورة وكوارث الحرب والزلزال على نحو خاص، وأسئلة الوجود على نحو عام، أفقَدَت الشاعر التوازن الشخصي، وشعرية التحدي الوقائعي لـِ (الأنا)، ولَّدَت شرارة تخليق عالم يحتفي بِشعرية استجابة ذات أساليب عدة.

ولعل هذا العالم المنفتح شعرياً هو الذي يمنح تلك الأنا إمكانية التعين في ذات (تنتبِهُ بأنَّ شيئاً في الوُجودِ يشدُّهُا نحوَ البقاء)، وهذا ما يُمكِّننا ربما، من تفسير دلالة إحدى قصائد الديوان أيضاً، والتي حملت عنوان “انكسار”، فهو من جانب أول عنوان يرمز إلى صدمات التحدي الوقائعية، وهو من جانب ثان يبسط نصياً أساليب وجود الحب لتكون تمركزاً تعويضياً على “ذات” رغبوية، حيث تُلحِق تلك “الذاتُ” الحبَّ وتتحكم به أو تخضعه لأولوية صراعات “أناها” المنكسرة في الحياة:    

“أُحبُّها لأُحبَّني.. أتمسَّكُ بها لأَجدَني”.  

ثانياً: جماليات الاستجابة الكيانية في عالم القصيدة البديل (حرف) 

عند التأمل في عتبة عنوان هذا الديوان، “حرف”، يخطر في بال المتلقي أن حاج بكري اختار عنواناً مختزلاً ومتقشفاً للوهلة الأولى، لكنَّ التحليل الدلالي لمفردة “حرف”، وربطها شعرياً بجدلية التحدي والاستجابة، يفتح المعنى على أبعاد تتعلق من حيث المبدأ بالـ “العلامة حرف” المشيرة رمزياً إلى استبدال الشاعر بعالم الصدمات الوقائعية، عالمَ الشعر والكتابة، فالحرف هو كناية عن تخليق الكلمة والعبارة واللغة الشعرية ككل، فَـ “في البدء كانَ الكلمة” حسب إنجيل يوحنا، و(الكلمة/ اللغة/ الشعر) هي “بيت الوجود” وفق هايدغر، وهي الشق الفاتح للوجود الكياني البديل تبعاً لأساليب وجود الشاعر في قصائده هنا.  

قال حاج بكري في قصيدة “حرف”، وهي أول قصائد ديوانه الواردة مباشرة بعد الشذرات: 

“لي أحرفي ولكِ الصدود عن الهوى

ما عابني أبداً جنون العاشق 

سهلٌ أمامكِ مشبعٌ بتوجدي 

وحروف اسمكِ أسهبت في منطقِي

كسرت عيونكِ ما تحجَّر من دمي

كحمامةٍ قهرتْ عناد الباشق”. 

إن معركة الشاعر الضارية رداً على الواقع المرير وضرباته القاسية، تكمن في استجلاب أساليب وجود الحب، وفي تثبيته مركزياً تحت سطوة (الأنا) الجريحة، ولا أقدر من فضاءات العالم الشعري بأن تكون بديلاً لإخضاع الحب المُعوِّض، فالشاعر يقول بملء ثقة (الذات الشعرية)، وبملء الرد على التحدي بتحدٍّ كياني أعنف (لي أحرفي)؛ أي لي سلطة القصيدة، وعبرها تستطيع (حروفُ اسمكِ) أن (تقهرَ عنادَ الباشقِ) ظاهرياً، لكنها تُحقِّق غاية أو رغبة (أنا)، هذا الباشق النازف نفسياً ووجودياً بِـ (كسرِ ما كانَ قد تحجَّر في دمِهِ) وقائعياً.  

الحرف ها هنا ذا، أو (الحروف/ العبارات/ اللغة) أساليب وجود كيانية تستجيب للتحديات وصدماتها، بتخليق عالم بديل يحتفي بالكينونة المشتهاة والمفقودة وقائعياً، فَـ (الحُروفُ بعضُ رفاقٍ)، وبعض رفاق دنيا القصيدة يلتبسون ببعض رفاق دنيا الواقع. قال حاج بكري في قصيدة “شدِّي على الرُّوح”: 

“هل تعلمين بأنها كانت

تسامرني الحروفُ إذا خطرتِ

كأنها بعضُ الرفاق”. 

وقال أيضاً في قصيدة “شدِّي على الرُّوح”: 

“أصبحت كل التعابيرِ التي دونتها عنا 

تراقصني 

وتدفعني لأكتبَ من جديد

وتلح في طرحِ السؤالِ تقولُ لي ماذا تريد؟”. 

فإذا كانت (التعابير/ اللغة) تراقص الشاعر في عالم الشعر، وتُحفِّز (استجابة الكتابة) أكثر فأكثر، فما الذي يريده هو بالمعنى الوجودي من جهة أولى؟ وبالمعنى الشعري من جهة ثانية؟

قد يكون ما يريده حاج بكري أشبه بما يريده المتصوفة، فالتخلي والانفكاك من براثن الواقع وأحداثه القاسية وصدماته الموجعة، يمر بالاتحاد المجازي بالحبيب المُعوِّض، وهذا الاتحاد التعويضي (كياناً وكينونة) لا يكون إلا بافتتاح فجوة وجودية بديلة؛ هي فجوة أساليب وجود عالم (الشعر/ الحلم/ الشمس). قال حاج بكري في قصيدة “هلوسات”:

“ما كان صفوك غير أحجية 

وبحلها قد حارت الإنسُ

وأنا أمامك ناسك خشع

آياته الأشعار والهمسُ

يحكي لنجم الصبح أمنية 

وتنام في أحلامه الشمسُ”. 

ثالثاً: جماليات الاستجابة الموضوعية في عالم الحُبّ التعويضي (فرح) 

قد يكون من المجدي أن أبدأ هذا المحور من حيث أنهيت المحور السابق، ففتح فجوة عالم القصيدة (البديل) كيانياً، يسمح للذات الشعرية أن تبسط (تعويض) الانفكاك (موضوعياً) عن تصدعات أناها؛ أي بما يمثله هذا من رد فعل (يستجيب) لأحداث (تحدٍّ) عميقة، وهو الأمر الذي يتأسس بدءاً من نسبية التخلي عن الارتباط الوقائعي، وانتهاء بالاتحاد المجازي بِـ (الحب/ الحبيبة)، فها هو ذا يقول في قصيدة “هلوسات” ذات النكهة الصوفية:  

“بي لوثة المشتاق.. بي مسُ

فهي الكنيسُ وخافقي قسُ

وصفاؤها طهرٌ يعمدني 

لأعود طفلاً ما به رجسُ

أمضي إليَ فلا أرى نفسي 

في نفسها قد ذابت النفسُ”. 

إن شعرية الاستعانة بموضوعة الحب في أساليب وجود المدار الشعري البديل، لها (دور وظيفي) تعويضي، وهذا ما ينهض به رمزياً (الجناس) الذي يقيمه حاج بكري بين دلالة (حرف) التي شرحتها في الفقرات السابقة، ودلالة (فرح) الأنثى المُتخيَّلة و(الموضوعة) الحاملة لهذا الدور الوظيفي، ولنلاحظ بادئ ذي بدء إحدى عتبات (الإهداء) التي جاء فيها:

“… إلى فرح

ما دامت الحمائم تنقر الحَبّ

سأبقى أعيشُ على أمل الحُبّ”.  

لعل تفكيك هذا الارتماء الكياني في أنثى (الفرح) بوصفها كينونة تعويضية، يقود إلى فهم أساليب حضورها كَـ (موضوع) أكثر من فهم أساليب حضورها كَـ (وجود). قال الشاعر في قصيدة “شدِّي على الرُّوح”:

“إنني فَرِحٌ لأنكِ في الحشا فرحي 

شدي على روحي لتُمسك بعضها

يا من أعدتِ صياغتي 

ورسمتِ لي بعض الحياة”. 

إن كينونة الفرح الأنثوي هنا هي كينونة التمركز على (الأنا) عبر مواجهة قلق الفقد وصدماته بإحضار (موضوعة الحب)، وإخضاعه لسلطة الذات الشعرية، والتحكم به لِـ (يشدَّ على رُوحِ الشَّاعرِ، فتُمسِكَ بعضَها)، فتغدو أساليب وجود الأنثى في عوالم الشعر هنا (حرف)، ناهضة بوظيفة تعويضية عن عوالم الواقع بتشييد الـ (فرح) المشتهى، ولهذا فهي أساليب وجود تنتمي في موضوعها إلى الغياب أكثر من انتمائها إلى الحضور.   

وهكذا، تتعين (الاستجابة العاطفية) عند حاج بكري ضد تحديات العالم المعيش بتثبيت (الأنا) في وحدة انبساط (الذات الشعرية) التمركزية، رداً على تشظي (الذات الشاعرة) الوقائعية وتفتتها، ولهذا يريد أن (يلهجَ باسمِ حبيبتِهِ الباري، حتَّى ينتهي منهُ خَيَالُ الأرضِ، وتنتهي الذِّكرى على هذا الوُجود)، كما قال في أحد مقاطع قصيدته “شدِّي على الرُّوح”: 

“وأظلُّ ألهجُ باسمكِ الباري على شفتّي حتى 

ينتهي مني خيال الأرض

 حتى تنتهي الذكرى على هذا الوجود”. 

رابعاً: جماليات تشتُّت منفتح الاستجابة في فجوة التحدي

لما كانت الاستراتيجية المحورية في استجابتي الشاعر (البديلة: حرف)، و(التعويضية: فرح)، تقوم على آليات وحدة الإحضار التمركزي، بوصفها (استجابة) آمنة لحاجة حاج بكري ولرغبته في التحكم المستقر ضد صدمات (التحدي) الوقائعية، فإن السؤال الاختباري الرئيس عند مقاربة أساليب وجود عوالمه الشعرية هو عن مدى نجاعة تلك الاستراتيجية؟

قال الشاعر في إحدى شذراته:

“السرُّ لا يلزمهُ بئر

………. مدفنه قبر”. 

ترى ما السر المقصود هنا الذي لا يلزمه الحفظ والصون عبر الإخفاء؛ إنما يلزمه القتل والدفن ربما وأداً؟

هل نجد الجواب في قوله الآتي من قصيدة “عقدة وشاح ما تزال”، أم يتعقَّد السؤال ويتركَّب أكثر؟

“سأبقى أدوِّنُ فيكِ القصائد

أرسلها كل صبح جديد 

لتتعبَ مما أخطُ الدواة 

وييأسَ حتى سعاة البريد”.

لماذا يعلن الشاعر هنا استمراريته في تدوين القصائد لمحبوبته، وفي إرسالها كل صباح جديد حتى ييأس سعاة البريد، إذا كان قد وجد ضالته (فرح) في أساليب وجود عالم (حرف)؟ 

أستطيع القول إن ما ظن حاج بكري أنه قد أحكم تخليقه لم يكن إلّا بمنزلة حلم مُؤقَّت سرعان ما بدت هشاشته، فبعد أن قام بطيّ تشتُّت التحدي على وحدة الاستجابة المركزية، في محاولة حثيثة كي تنبسط كينونة الـ (فرح) في كيانية الـ (حرف)، انبسط النكوص عبر طيّ الاستجابة على جذور التحدي الوقائعية. 

بمعنى أوضح، يبدو أن ما مثَّلَ جماليات تمركز على وحدة الذات الشعرية في عوالم القصائد، والتي رد بها الشاعر بوصفها (استجابات) على تمزُّق الذات الشاعرة في العالم الوقائعي، لم يسلم (هذا التمركز) من تسلُّلِ صدمات (التحدي) إلى وحدته المستقرة ظاهرياً، وتفتيتها من داخل أساليب وجود عوالم القصائد، وهذا ما يُمكِن التقاطه دلالياً في المقاطع الثلاثة الآتية من قصيدة “في المقهى”: 

“كل الجميلات

في المقهی …

غريبات

وأنا النورس المتعب

علی رصيف بارد

يبدو أنني انكسار الحُب

والقلب المنهك من انتظار الأصدقاء”. 

“أنا قربة من الماء

بللت ثوب حاملها

وبقعة زيت في رداء أبيض

أنا لعنة العاطفة

التي لم تكتمل”.

“أنا طريد الله …

ولست بإبليس

أنا انكسار حكاية الخلق

انا الملاك المطرود من رحمة الحُب”. 

أظن أنه لا يكفي فهم (انكسارِ الحُبّ) و(لعنةِ العاطفة التي لم تكتمل) و(الملاكِ المطرود من رحمة الحُبّ) هنا في إطار إخفاق التمركز الموضوعي بما هو (استجابة) تعويضية عبر الحب (فرح)، إنما لا بد من توسيع دائرة التفسير انطلاقاً من أسلوب وجود (أنا انكسارُ حكايةِ الخَلْق)؛ إذ لم تتوقف خيبة التفتُّت عند كينونة (فرح) العاطفية المحطمة، لكنها مثَّلَت نكوصاً ارتدادياً في كامل كيانية (حرف) بما هي أساليب (استجابة) بديلة انبسطت في منفتح عالم القصائد. 

ويبدو أن هذا هو ما تم تحديداً عبر العودة ثانية إلى (التحدي) الأصلي بوصفه تشتُّتَ العالم الوقائعي، ليس فقط على مستوى التجارب العاطفية أو الحياتية الخاصة فحسب؛ بل على مستوى أسئلة الوجود (انكسار حكاية الخَلْق) انطلاقاً من صدمات مآل الثورة والحرب، ثم الزلزال، ثم كامل المشهد الحياتي الحالي العام، حيث ارتدَّتْ أساليب وجود الذات الشعرية بما هي استجابات رغبوية لِـ (الأنا الجريحة) إلى بؤرة تشتُّتِ تلك (الأنا)، وربما تكون هذه الدلالة، هي ما تنطوي عليه صرخة الشاعر اليائسة حينما قال في قصيدة “راعي”: 

“لو كنتُ أملكُ أي ناي

لعزفتُ في الليلِ الطويلِ 

حكايةَ الراعي 

وأقنعتُ القطيعَ 

بأن هذا الذئبَ فيهِ من البراءةِ 

ما يحيلُ حكايةَ الجداتِ أوهاماً 

وكذباً وافتراء “. 

لعل حاج بكري قد دفع في هذا الديوان ديَّةَ الألم والقلق والخذلان شعرياً، مثلما كان قد دفعها حياتياً، وقد يكون المُشتهَى من ذلك هو أمل تطهير نفسه، وتحريرها في جدلية شعرية انبسَطتْ بين جماليات التحدي والاستجابة، وهذا ما يُحسَب له ويُثمَّن فعلياً. 

لكن، وفي الوقت نفسه، يبدو أن ما ربحه إبداعياً على المستوى الذاتي في مواضع عدة من هذا الديوان، قد خسره، نسبياً، في مواضع أخرى بفعل ضغط الضرورة التي فرضتها المُباشَرَة الوقائعية موضوعاتٍ ولغةً وتراكيبَ وصوراً ودلالةً، وقد يكون هذا المنحى سائداً، ربما وإلى حد ما، في ديوانه الثّاني الذي أعلنَ عن جهوزيتهِ للنشر (ولم أقرأهُ بعد)، ويتناول فيه كما قال الوجع السوري، وهو بعنوان: (أعدُّ حصَى الدُّروب).

وهذا لا يعني، أنني بإشهار هذه الإشارة هنا، أجهر بحكم قيمة معيارية حاسم؛ إنما أدعو بحماس، وأستشرف في الآن نفسه، جمالياتِ الوعد الشعري عند محمد حاج بكري، وذلك بأن يتلوَ تسديدَ الفواتير الحاكمة انتقالٌ فني مُفترَض (ومطلوب) إلى تجارب جديدة ومُتخفِّفة مما سبق، ومنحازة أكثر إلى حرية عالمٍ شعري خلَّاق وكاشف، فما الخوض في منحنيات الإبداع سوى وعد مُغوٍ ودائم الشغف. 

هوامش

موضوعات

للكاتب/ة

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع