رؤية نظرية انطلاقاً من نصٍّ لعبد الفتاح كيليطو، وتطبيق تجريبي في بيت شعري للشريف الرضيّ

مقاربة في أساليب وجود التلقي في المنهج الأنطوثقافي

Wassily Kandinsky: Im Blau, 1925 80 x 110 cm Collection d’art Nordrhein-Westfalen, Düsseldorf

مازن أكثم سليمان

شاعر وناقد سوري

غيرَ أنَّ مثل هذهِ الشَّذرات الإبداعيَّة الطَّيِّعة ظاهريَّاً، والتي تُموِّهُ طبقاتِ مَعانيها عبرَ تسليمِ نفسِها بسُهولةٍ للمُتلقِّي من دون صُعوبات في التَّرويضِ الفنِّيّ والمَعرفيّ؛ هيَ ما ينطوي بعضُها، كما أزعمُ، على قدراتٍ تحريضيَّةٍ فائِقة لشَهوةِ الحفرِ، ولتفكيكِ المَسكوت عنهُ، ولاستنطاقِ غيرِ المُفكَّر فيه على مُستوى دائِرَةِ الخطاب الأوسَع. 

للكاتب/ة

كُلَّما ابتعدَ الشَّاعرُ في المَسافةِ عنِ الطَّللِ، وتشتَّتتْ كينونتُهُ تلفُّتُ العيْنِ، فاختفاءُ الطَّللِ، فتلفُّتُ القلبِ، اقترَبَ منهُ في المَشاعرِ والعواطفِ والانفعالاتِ المُتأجِّجةِ إلى حُدودِ التَّمركُزِ عليهِ وتوهُّمِ التَّطابُقِ معهُ.  

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

04/04/2025

تصوير: اسماء الغول

مازن أكثم سليمان

شاعر وناقد سوري

مازن أكثم سليمان

تعودُ فكرةُ التَّأسيس النَّقديّ بناءً على (أساليبِ الوُجود) إلى إرهاصاتِ تفكيري بتخليقِ مَنهج التَّأويل الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ للانزياح (المَنهج الأُنطوثقافيّ)، وذلكَ مع بدايةِ اطِّلاعي على الأُنطولوجيا الهايدغريَّة، وتلامذتِهِ وورثتِهِ التَّأويليِّين والتَّفكيكيِّين والاختلافيِّين إذا صحَّ التَّعبيرُ هُنا، وهذا ما كانَ في مرحلةِ دبلوم الدِّراسات العُليا/ شُعبة الدِّراسات الأدبيَّة في قسم اللُّغة العربيَّة في جامعة دمشق (2001 - 2003)، ثُمَّ انتقلتُ، بعدَ ذلكَ، إلى العمَل الفعليّ على تشييد هذا البناء المنهجيّ خلالَ مرحلتَي بحث الماجستير "الانزياح في الشِّعر الجاهليّ - المُعلَّقات أُنموذجاً" (2005 - 2009)، وبحث الدُّكتوراه "مَفهوم الذَّات وجماليَّاتُها بينَ شعر إمرئ القيس وشعر زهير بن أبي سُلمى" (2010 - 2015).

وقد طرحتُ في بحثِ الدُّكتوراه الشَّكلَ الأوَّليَّ لهذا الاقتراح، ولا سيما عبرَ جدليَّةِ (التَّمركُز/ المُطابَقة) و(التَّشتُّت/ الاختلاف)، غيرَ أنَّ هذا المَنهج أخذَ شكلَهُ المَبدئيّ في مَخطوط كتابي الفائز بجائزة الطَّيِّب صالح العالَميَّة للإبداع الكتابيّ (دورة 2019)، حيثُ عالجتُ عناصرَهُ ضمنَ الفصل النَّظَريّ الأوَّل من ذلكَ الكتاب، والذي طبعتْهُ ونشرتْهُ هيئةُ الجائزة (الشَّركة السُّودانيَّة للهاتف السَّيَّار/ زين – ط 1 - 2019)، وكانَ عُنوانُهُ: "انزياحُ أساليب الوُجود في الكتابة الإبداعيَّة بينَ مُطابَقاتِ العولَمة واختلافاتِها".

وقد قامَ موقع "صالون سوريا" بالنَّشر الإلكترونيّ لنصّ المَنهج كامِلاً في أجزاء ثلاثة تواريخُها على الشَّكل الآتي: 30 أيلول/ سبتمبر - 7 تشرين الأوَّل/ أكتوبر - 14 تشرين الأوَّل/ أكتوبر في عام 2023.

أسعى في هذهِ المادَّة إلى استكمال التَّأسيس المَبدئيّ لهذا المَنهج، وذلكَ عبرَ مُحاوَلةِ تعميقِهِ في إطارِ أساليبِ وُجودِ التَّلقِّي، وهيَ المَسألةُ التي تنهَضُ انطلاقاً منَ البناءِ على نصٍّ لعبد الفتَّاح كيليطو، ومنَ العمَلِ على مُجاوَزةِ هذا النَّصّ بتقديمِ اقتراحاتٍ نظَريَّةٍ شكلاً ومَضموناً، ثُمَّ باختبارِ تلكَ الاقتراحاتِ عبرَ تطبيقِها على بيتِ شِعرٍ شهيرٍ للشَّريف الرَّضيّ.

...

أوَّلاً: الانزياحُ بوصفِهِ عُنفاً جدَليَّاً مُرَقَّداً1 المُرَقَّد هو المُصطلَح الذي نحتُّهُ، واقترحْتُ اعتمادَهُ في اللُّغة العربيَّة للدَّلالَةِ على مَفهومَي (المُرَكَّب) و(المُعقَّد) في آنٍ معاً، حيثُ لا يوجدُ مُصطلَحٌ يدلُّ على حُضورِ هاتيْن الصِّفتيْن، أو على وُجودِ هذيْن المَفهوميْن في ظاهِرَةٍ واحدة؛ إذ ليسَ كُلُّ مُعَقَّدٍ هوَ مُرَكَّبٌ، والعكسُ صحيح. يُنظَر: مازن أكثم سليمان، المُرَقَّدُ - اقتراحُ مُصطلَحٍ في النَّقدِ والفلسفَةِ - مُهدَىً إلى الفيلسوف التُّونسيّ الدُّكتور فتحي المسكينيّ (موقع ميسلون للثَّقافة والتَّرجمة والنَّشر، 12 آذار/ مارس 2023). ويُنظَر: مُلتقى العُروبيِّين - منبر أحرار العُروبة، 15 نيسان/ أبريل 2023. ويُنظَر: موقع مجلَّة الرَّافد الإلكترونيَّة، 1 أيَّار/ مايو 2023. يُرتكَبُ بحقِّ أساليبِ الوُجودِ الاعتياديَّة 

حاولتُ في هذا الاقتراح أنْ أنتقلَ نظَريَّاً وإجرائيَّاً من مَسارات فَهم المَنهجيَّات الشَّكليَّة للانزياح؛ أي: من الفَهم اللِّسانيّ/ البِنيويّ المَبنيّ على أُسُس علميَّة - موضوعيَّة، وتقنيَّة قياسيَّة وحسابيَّة للانزياح، إلى فَهْمِهِ انطلاقاً من الأُسُس الأُنطولوجيَّة التي لا تنفي المُستوى الشَّكليّ؛ إنَّما تتجاوَزُ النَّقصَ القائِمَ بفعل ما دعوتُهُ بِـ "مَسألة فصل اللُّغة عن الوُجود"، بمَا هيَ في اعتقادي، آليَّة تجريديَّة قاصِرَة، تُفقِدُ تلقِّي العمَل الإبداعيّ طاقتَهُ الكيانيَّة وانفتاحَهُ الحيويّ الأصيل.

وانطلقْتُ، ضمنَ هذا المَنحى، من مُجاوَزة الفكرة التَّجريديَّة الشَّائِعة التي تقولُ إنَّ "اللُّغة هُنا، والوُجود هُناك"، حيثُ تبنِّيْتُ الرُّؤيةَ التَّأويليَّةَ القائِلَةَ إنَّهُ "حيثُ توجدُ لغةٌ يوجدُ عالَمٌ"، وإنَّ هذا العالَم اللُّغويّ هوَ مكانٌ تنفتِحُ فيهِ أساليبُ وُجودِ الحياة المُختلِفة؛ ذلكَ أنَّ تأويليّ الأُنطولوجيّ للانزياح يقومُ على فكرة النَّظَر إلى نُصوص الكتابة الإبداعيَّة بوصفِها (عَوالِمَ) تنبسِطُ فيها أساليبُ وُجودٍ (طُرُقُ وُجودٍ) مُتنوِّعةٌ بمَا هيَ ميادينُ اهتمامٍ وتفاعُلٍ وصِراعٍ، وهوَ الطَّريق الذي سلكَهُ مارتن هايدغر وورثتُهُ والمُتأثِّرونَ بنهجِهِ.

وبهذا المَنحى، تبنَّيْتُ في بناءِ هذا التَّأويل المَنهجيّ للانزياح رأيَ بول ريكور القائلَ إنَّ الجُملة هيَ التي تُمثِّلُ وَحدة الخِطاب الأساسيَّة لكونِها وَحدة الحدَث الفعليّ الذي لا يُمكِنُ أنْ تُحقِّقَهُ العلامة اللِّسانيَّة؛ أي الكلمة المُفرَدة، مُسوِّغاً على هذا النَّحو، تفسيري للانزياح بوصفِهِ (أُسلوبَ وُجودٍ) يبسطُ أفعالاً وأحداثاً وتحوُّلاتٍ.

واستكملْتُ هذا التَّأويلَ المَنهجيَّ الأُنطولوجيَّ للانزياح، بمنحِهِ مَدىً ثقافيَّاً؛ أي: بمنحِهِ بُعداً إجرائيَّاً مُؤسَّساً على النَّقد الثَّقافيّ، وذلكَ بمُقارَبة أساليب الوُجود في العوالِم الإبداعيَّة بوصفِها حركيَّاتٍ تنهَضُ على الجدَل بينَ نظامَي التَّمركُز/ المُطابَقة والتَّشتُّت/ الاختلاف، وبمَا هوَ جدَلٌ أُفُقيّ/ عموديّ بينَ النَّسَقِ الظَّاهِر، والنَّسَقِ المُضمَر، وُفقَ انبثاقِهِما التَّعدُّديّ المُتوزِّع في الوقتِ نفسِهِ أيضاً، بينَ دلالتَي الحُضور والغِياب.

ولعلَّ هذا الفَهم الجدَليّ للانزياح بوصفِهِ تأويلاً أُنطولوجيَّاً/ ثقافيَّاً ينتقلُ إلى مُقارَبةِ النُّصوص الإبداعيَّة انطلاقاً من صراعات أساليب الوُجود فيها، وما تنطوي عليهِ من أفعالٍ وأحداثٍ قابِلَةٍ للتَّفسير عبرَ طبَقاتٍ عدَّة ذاتيَّة فرديَّة وجمعيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة وسياسيَّة، تتجاوَزُ دلالةَ العلامة اللِّسانيَّة المُجرَّدة نسبيَّاً من أسئلةِ الحياة، ومن وقائعِها الكيانيَّة المُتوالِدة باستمرارٍ، ومن مَجازاتِها ورُموزِها والتباساتِها (المُرقَّدة)  بينَ الظَّاهِرِ والباطِنِ، وبمَا يطمَحُ منهجيَّاً إلى إنهاء الفصل الحدِّي القائِم بينَ اللُّغة والوُجود، وتجاوُزِ النَّظَر إلى الانزياح الأدبيّ بوصفِهِ فقط "عُنفاً مُنظَّماً يُرتكَبُ بحقِّ الكلام الاعتياديّ" حسبَ رومان جاكبسون؛ إنَّما بوصفِهِ، كمَا أعرِّفُهُ شخصيَّاً عُنفاً جدَليَّاً مُرَقَّداً يُرتكَبُ بحقِّ أساليبِ الوُجودِ الاعتياديَّة، ليكونَ عالَمُ النَّصّ الإبداعي فائضَ وُجودٍ في اصطلاحي، أو زيادةً في الوُجودِ وُفقَ هانز جورج غادامير، وهوَ التَّفسيرُ الذي أعتقدُ أنَّهُ يتحرَّكُ على نحْوٍ أوسَع مَعرفيَّاً ودلاليَّاً بينَ الوُجودِ اللُّغويّ في نصِّ العالَم، ولُغةِ الوُجود في عالَمِ النَّصّ.

...

ثانياً: تأسيسٌ في التَّلقِّي

(تأويلُ تصنيفاتِ عبد الفتَّاح كيليطو للقارئ باقتراحاتٍ جديدة: أساليبُ وُجودِ التَّلقِّي الأربعة في المَنهج الأُنطوثقافيّ)

أستحضِرُ، في هذا التَّأسيس، تصنيفاً لافتاً لمُستويات التَّلقِّي بينَ الظَّاهر والباطن قدَّمَهُ النَّاقد عبد الفتَّاح كيليطو في مقالتِهِ: "زعمُوا أنَّ: مُلاحظات حولَ كليلة ودمنة"2 عبد الفتَّاح كيليطو، "زعمُوا أنَّ: مُلاحظات حولَ كليلة ودمنة" مجلَّة الكرمل، العدد 8( 1 أبريل 1983)، ص 230237.، حيثُ يُميِّزُ بينَ "ثلاثِ صُورٍ للقارئ، كما يرسمُها كتاب كليلة"، هيَ:

"القارئُ السَّخيف الذي يتوقَّفُ عند السَّرد، عند "الهزل" و"اللَّهو"؛ أي عند الأدوات السَّرديَّة في حدِّ ذاتِها.

القارئُ الفطِن الذي يجتازُ مرحلة "اللَّهو" ليصل إلى الحكمة، ولكنَّهُ يتوقَّف عند هذا الشَّوط.

القارئُ العاقل الذي يستوعبُ الحكمة، ويُخضِع سلوكَهُ لأوامرها".

أُنطلِقُ من جهتِي، من هذا التَّصنيف الثُّلاثيّ، كي أُعمِّقَ المَنهج الأُنطوثقافيّ نظَريَّاً وإجرائيَّاً عبرَ الخُطواتِ الآتية:

أ. أقومُ، أوَّلاً، باستبدالِ هذهِ الصُّوَر الثَّلاثة التي قدَّمَها كيليطو للقارئ، بمَفهوم أُسلوب الوُجود.

ب. أقومُ، ثانياً، بتوسيع دلالَةِ كُلٍّ من هذهِ الصُّوَر/ أساليب الوُجود الثَّلاثة بتأصيلِ دلالاتِها النَّظَريَّة والإجرائيَّة، وهيَ إحدى مُستويات القراءة التي أُحاوِلُ تخليقَها في مَنهجي الأُنطوثقافيّ.

ج. ثُمَّ، أقومُ، أخيراً، بِإضافة مُستوىً رابعٍ لصُوَرِ أو لمُستوياتِ كيليطو الثَّلاثة، ليكونَ هذا المُستوى بدورِهِ أُسلوبَ وُجودٍ جديدٍ أقترحُهُ في منهجي تنظيريَّاً وتطبيقيَّاً.

... وهكذا؛ يكونُ لدينا أربعةُ طبقاتٍ افتراضيَّة مُرَقَّدة في التَّلقِّي، أصطلِحُ عليها بِأساليبُ وُجودِ التَّلقِّي الأربعة في المَنهج الأُنطوثقافيّ، وهيَ:

...

  1. أساليبُ وُجودِ التَّلقِّي التِّقنيّ: من القارئ السَّخيف إلى القارئ الاختزاليّ

(ما قبلَ المَعنى/ غُفليَّةُ ما قبلَ الكشف)

أدعو، هُنا، إلى نزع حكم القيمة الضِّمنيّ الذي قد تُشير إليهِ دلالةُ "القارئ السَّخيف" عند كيليطو، والاكتفاء بدلالة تلقِّي البُعد الحركيّ المُباشَر عندَ هذا القارئ تلقِّياً يقومُ على أساليبِ وُجودٍ وظيفيَّة تقنيَّة أو حسابيَّة، مُعمَّمة وسائدة في الغالب، وغُفليَّة سابِقة على المَعنى والكشف، حيثُ يطوي القارئُ التِّقنيُّ أُسلوبَ الوُجودِ في النَّصّ على أُسلوبِ فَهْمٍ اختزاليٍّ حسابيٍّ مُبتسَر.

  1. أساليبُ وُجودِ التَّلقِّي الخاصّ: من القارئ الفطِن إلى القارئ الفرديّ

(وعي المَعنى/ مُطابَقة كشف الأنا الشَّخصيَّة)

أدعو، هُنا، إلى فهمِ دلالة "الحكمة/ المَغزى" على نحْوٍ أبعد عند "القارئ الفطِن"؛ أي بوصفِها، تنطوي على دلالة فَهْمِ أسلوبِ الوُجود بمَا هوَ فهْمُ البُعد المَعنويّ الخاصّ المُباشَر؛ أي: بوصفِهِ وعيَ الذَّات بمُستواها الفرديّ (فعلُ الإدراك)، حيثُ يطوي القارئُ الشَّخصيُّ أُسلوبَ الوُجودِ في النَّصّ على (كشفِ) أُسلوبِ فَهْمٍ ذاتيٍّ (فرديٍّ مُباشَر).

  1. أساليبُ وُجودِ التَّلقِّي الجمعيّ: من القارئ العاقل إلى القارئ المُدرِك

(مَعنى الوعي أو مَعنى المَعنى/ مُطابَقة كشف الأنا العامَّة)

ينزاحُ، هُنا، أُسلوبُ الوُجودِ من مُستوى استيعابِ "الحكمة/ المَغزى" نظَريَّاً، إلى مُمارستِها عمَليَّاً حسبَ كيليطو، وهوَ ما أُؤوِّلُهُ أُنطوثقافيَّاً بوصفِهِ انتقالاً من فَهْمِ البُعد المَعنويّ المُباشَر لأُسلوبِ وُجودِ الذَّات الفرديَّة (فعلُ الإدراك)، إلى إزاحتِهِ نَحْوَ تخليقِ مَعنى الوعي/ مَعنى المَعنى بوصفِهِ فعاليَّةً وحدَثاً فاهِماً يعي أُسلوبَ وُجودِ الذَّات الجَمعيَّة (إدراكُ الفعل)، ذلكَ أنَّنا نحسبُ أنَّ الإدراكَ مهارةٌ أُسلوبيَّةٌ وُجوديَّةٌ تتجاوَزُ الوعيَ البَحت، حيثُ يطوي القارئُ الجمعيُّ أُسلوبَ الوُجودِ في النَّصّ على كشفِ أُسلوبِ فَهْمٍ ذاتيٍّ (جمعيٍّ عامّ).

._ أساليبُ وُجودِ التَّلقِّي الكُلِّيّ: القارئ ما بعدَ المُدرِك/ القارئ المُبتكِر

(ما فوقَ المَعنى والكشف/ الخَلْقُ والاختلاف)

لعلَّ أُسلوبَ وُجودِ القارئ الكُلِّيّ هوَ كيفيَّةُ فَهْمٍ تأملُ بتخليقِ أُسلوبِ وُجودٍ ابتكاريّ وإبداعيّ، وذلكَ بمُجاوَزَةِ أساليبِ فَهْمِ القارئيْن الواعي الفرديّ الخاصّ/ المُدرِك الجمعيّ العامّ نَحْوَ افتتاحِ أساليبِ وُجودِ ما فوقَ المَعنى؛ أي عبرَ أساليبِ وُجودٍ مُتفرِّدة تنبسِطُ بِطيِّ القارئِ الكُلِّيّ أُسلوبَ الوُجودِ في النَّصّ على خَلْقِ أُسلوبِ فَهْمٍ مُبتكَرٍ وجديدٍ واختلافيّ (من الاختلاف).

...

ثالثاً: في المُستوى التَّطبيقيّ

...

البيت المَدروس للشَّريف الرَّضيّ:

"وتلفَّتَتْ عيني فمُذْ خَفِيَتْ

عنِّي الطُّلولُ تلفَّتَ القلبُ"

...

قد يبدو أنَّ فَهْمَ هذا البيتِ شبهِ الواضحِ أو المُباشَرِ، أمراً يسيراً، ذلكَ أنَّهُ في مُتناوَلِ التَّحكُّمِ الدَّلاليِّ، وما من حاجةٍ إلى الكثير من الجُهد التَّفسيريّ أو التَّأويليّ كمَا يظنُّ مُعظَم القُرَّاء.

غيرَ أنَّ مثل هذهِ الشَّذرات الإبداعيَّة الطَّيِّعة ظاهريَّاً، والتي تُموِّهُ طبقاتِ مَعانيها عبرَ تسليمِ نفسِها بسُهولةٍ للمُتلقِّي من دون صُعوبات في التَّرويضِ الفنِّيّ والمَعرفيّ؛ هيَ ما ينطوي بعضُها، كما أزعمُ، على قدراتٍ تحريضيَّةٍ فائِقة لشَهوةِ الحفرِ، ولتفكيكِ المَسكوت عنهُ، ولاستنطاقِ غيرِ المُفكَّر فيه على مُستوى دائِرَةِ الخطاب الأوسَع.

أقومُ في الفقرات الآتية بتطبيقٍ افتراضيّ لأساليبِ الوُجود الأربعة المُفترَضة في التَّلقِّي على هذا البيت المُتجدِّد جَماليَّاً في اعتقادي، آخِذاً بعيْن النَّظَر الفرقَ الجنسيَّ بينَ التَّطبيق على السَّرد في مقالة كيليطو، والتَّطبيق على الشِّعر في مُقارَبتي التَّطبيقيَّة هذهِ، ومُشيراً أنَّ تقسيم التَّلقِّي أربعةَ أساليب وُجود هوَ تقسيمٌ نظَريٌّ إجرائيٌّ، حيثُ ينبغي الحذر من الاعتقاد اليقينيّ بوُجود فصْلٍ حدِّيٍّ تراتُبيٍّ حاسِمٍ ونهائيٍّ بينَ مُستويات التَّلقِّي، ذلكَ أنَّها أساليبُ وُجودٍ مُرقَّدةٍ عندَ كُلِّ انفتاحٍ، ومُتغيِّرَةٍ، نسبيَّاً، في كُلِّ مرَّةٍ يحدثُ فيها تفاعُل القراءة.

ولهذا، يبدو لي أنَّهُ من المُجدِي عمليَّاً اعتمادُ آليَّاتِ القيمة المُهيمِنة ومَفهومِها العائِدِ إلى رومان جاكبسون/ الشَّكلانيُّون الرُّوس، عندَ تطبيقِ هذا الاقتراح في إطار هذا المَنهج، وذلكَ في السَّعي إلى فَهْمِ أساليبِ الوُجود في العوالِم الإبداعيَّة، وأساليبِ تلقِّيها، بما هيَ جدَليَّات أُفقيَّة وعموديَّة تتحرَّكُ بلا هَوادَةٍ بينَ التَّمركُز/ المُطابَقة والتَّشتُّت/ الاختلاف، من جانبٍ أوَّل، وبينَ النَّسَقِ الظَّاهِر والنَّسَقِ المُضمَر، من جانبٍ ثانٍ، وُفقَ انبساطِ وُجودِهِما التَّعدُّديّ المُلتبِس بينَ دلالتَي الحُضور والغِياب، كما اقترحتُ في المَنهجِ الأُنطوثقافيّ من قبلُ.

...

أساليبُ وُجود التَّلقِّي الأربعة المُفترَضة (أو المُمكِنة والمُحتمَلة) في بيت الشَّريف الرَّضيّ:

...

  1. العُنوان المَنهجيّ المَرجعيّ: 

أساليبُ وُجودِ التَّلقِّي التِّقنيّ: من القارئ السَّخيف إلى القارئ الاختزاليّ

(ما قبلَ المَعنى/ غُفليَّةُ ما قبلَ الكشف)

العُنوان التَّطبيقيّ: مَركزيَّةُ تلفُّتِ العيْن

يرسمُ القارئُ الاختزاليُّ مَساراً حركيَّاً أو تقنيَّاً لأساليبِ وُجودِ هذا البيت، بدءاً من تلفُّتِ العيْن، مُروراً باختفاءِ الطُّلولِ بفعلِ الابتعادِ عنها، وانتهاءً بتلفُّتِ القلبِ الذي يفهَمُهُ في إطارٍ حسابيّ حرْفيٍّ أكثَر من فهمِهِ في إطارٍ مَجازيٍّ؛ أي ضمنَ مُستوىً دلاليٍّ وظيفيٍّ لا يتجاوَزُ حُدودَ الانفعال السَّطحيّ بالصُّورة عبرَ تلقِّي المَشهد بصَريَّاً، حيثُ يُواكِبُ هذا المُتلقِّي شدَّةَ تعلُّقِ الشَّريف الرَّضيّ بالطَّللِ، ومن كانَ فيهِ، وقد يُفاجَأُ بفكرةِ تلفُّتِ القلبِ، لكنْ بما هيَ فكرةٌ تبقى لديهِ على السَّطح الخارجيّ بوصفِها مُحاكاةً حركيَّةً غُفْليَّةً لوظيفَةِ أعضاء أُخرى في الجسم تصدَّى لمُمارَسَتِها هذا القلبُ المُتلفِّتُ.

وباختصار، يقومُ القارئُ الرِّياضيُّ التِّقنيُّ، هُنا، باختزالِ دلالةِ تلفُّتِ القلبِ، بطيِّها على دلالَةِ تلفُّتِ العيْن؛ أي بمُحاكاةِ القلبِ للعيْنِ حركيَّاً، وذلكَ بما لا يتجاوَزُ مَفهوم الرُّؤية البصَريَّة الغُفليَّة في أُسلوبِ الوُجود، وضمنَ حُدودِ المَعنى المُعجميِّ للحُضور الظَّاهِر في التَّلفُّتِ: "تلفَّتَ إلى الشَّيء: التفتَ إليهِ؛ أدارَ رأسَهُ يميناً أو شمالاً ناظِراً إليهِ، فالالتفاتُ: الدَّورانُ ذات اليمين أو ذات الشمال، وتَلَفَّتَ وَراءَهُ: اِلْتَفَتَ".

وهكذا، تبدو المَركزيَّة النَّسَقيَّة المُهيمِنة على أُسلوب وُجود التلقِّي التِّقنيّ في هذا المَشهد هيَ مَركزيَّةُ تلفُّتِ العيْن.

...

  1. العُنوان المَنهجيّ المَرجعيّ:

أساليبُ وُجودِ التَّلقِّي الخاصّ (من القارئ الفطِن إلى القارئ الفرديّ)

(وعي المَعنى/ مُطابَقة كشف الأنا الشَّخصيَّة)

العُنوان التَّطبيقيّ: مَركزيَّةُ تلفُّتِ القلب

ينتقِلُ أُسلوبُ وُجود التَّلقِّي، هُنا، من حالةِ الغُفليَّة إلى بُؤرَةِ وعي المَعنى النَّاهض على فعلِ إدراكٍ يُطابِقُ كشفَ الأنا الشَّخصيَّة في مَشهدِ البيت، ذلكَ أنَّ الكشفَ يتمُّ بفَهْمِ الذَّاتِ الفرديَّةِ لحركيَّةِ الحدَث بما هوَ انتقالٌ من مُستوى الرُّؤية البصَريَّة، إلى مُستوى الرُّؤيا القلبيَّة والبصيرَة، وهوَ الأمرُ الذي ينبسِطُ في أُسلوبِ وُجودٍ يتجاوَزُ التِّقنيَّةَ الحسابيَّةَ لحركةِ التَّلفُّتِ بينَ العيْن والقلب، إلى دلالةِ الالتفات؛ أي بوصفِ أُسلوب الوُجود هُنا انزياحاً من الحُضور الظَّاهِر في التَّلفُّت إلى الحُضور الظَّاهِر في الالتفات بما هوَ حُضورٌ لمُطابَقَةِ كشفِ الأنا الفرديَّة.

إنَّ الالتفاتَ في البلاغةِ العربيَّة هوَ: نقلُ الكلامِ من أسلوبِ مُخاطَبةٍ إلى آخَر، كالتَّحوُّلِ مثلاً من ضميرِ المُتكلِّمِ إلى المُخاطَبِ أو العكس، أو من أسلوب المُخاطَبِ إلى الغائبِ، أو... إلخ. وأُسلوبُ وُجودِ تلقِّي حُضور الأنا الفرديَّة في التفاتيَّةِ هذا البيت المَشهد/ الفعل الحدَث يكمنُ في اعتقادي في مُطابَقَةِ كشفِ مُشكلَةِ الحُبّ تحديداً، وذلكَ بما هيَ إشكاليَّة رؤيويَّة ذات ترميز شخصيّ عندَ المُتلقِّي الذي ينفعِلُ بهذا الرَّمز الخاصّ جَماليَّاً، فيتأثَّرُ -بناءً على تجربتِهِ الفرديَّة- بالحركيَّة القلِقة والهشَّة المُنبسِطة في مَشهدِ هذا البيت، بدءاً بتلفُّتِ العيْنِ الذي هوَ كناية عن التَّعلُّق بالطُّلولِ، ثُمَّ يتأثَّرُ أعمَق بالطُّلولِ وهيَ تختفي عنِ عيْنِ الشَّاعرِ المُتلفِّتة، لينفتحَ الحفرُ الدَّلاليّ الأقصَى للكنايةِ انفعاليَّاً ومَجازيَّاً في جَماليَّةِ تلفُّتِ القلبِ المُتألِّمِ هياماً وارتباطاً مُحكَماً وألَماً عاطفيَّاً، وهُنا ينبسِطُ أُسلوبُ كشفِ الحُضورِ الشَّخصيّ (كيانيَّاً) لذاتِ المُتلقِّي، والذي ينزاحُ من التَّلفُّتِ البصَريِّ إلى الالتفاتِ النَّفسيّ والوُجدانيّ بإسقاطِ حركيَّةِ البيت المَشهد/ الفعل الحدَث على أزمَتِهِ الفرديَّة بوصفِهِ إنساناً عاطفيَّاً، وقد يحدثُ تَماهٍ مع تجارِبِ الحُبِّ الشَّخصيَّة لهذا المُتلقِّي، أو ذاك.

وهكذا، تبدو المَركزيَّة النَّسَقيَّة المُهيمِنة على جَماليَّات أُسلوب وُجود التلقِّي الذَّاتيّ في هذا المَشهد هيَ مَركزيَّةُ تلفُّتِ القلب.

...

  1. العُنوان المَنهجيّ المَرجعيّ:

أساليبُ وُجودِ التَّلقِّي الجمعيّ

(من القارئ العاقل إلى القارئ المُدرِك)

(مَعنى الوعي أو مَعنى المَعنى/ مُطابَقة كشف الأنا العامّة)

العُنوان التَّطبيقيّ:

(مَركزيَّةُ تلفُّتِ الطَّلل)

ينتقِلُ أُسلوبُ وُجود التَّلقِّي، هُنا، من بُؤرةِ وعي المَعنى إلى بُؤرَةِ مَعنى الوعي أو مَعنى المَعنى، ومن كيفيَّات فعلِ الإدراك إلى كيفيَّات إدراكِ الفعل الذي يُطابِقُ كشفَ الأنا العامَّة في مَشهدِ البيت، ذلكَ أنَّ الكشفَ يتمُّ بفَهْمِ الذَّاتِ الفرديَّةِ لحركيَّةِ الحدَث بما هوَ انتقالٌ من مُستوى الرُّؤية البصَريَّة، إلى مُستوى الرُّؤيا القلبيَّة والبصيرَة، كمَا ذكرتُ في الأُسلوب الثَّاني السَّابق، لكنْ بوصفِهِ هُنا مُستوىً ثانٍ في أُسلوبِ وُجودِ الحُضور الظَّاهِر في الالتفات، وذلكَ بتجاوُزِ مُطابَقةِ كشف الأنا الفرديَّة، إلى مُطابَقَةِ كشفِ الأنا الجمعيَّة.

إنَّ أُسلوبَ وُجودِ تلقِّي حُضور الأنا الجمعيَّة في التفاتيَّةِ هذا البيت المَشهد/ الفعل الحدَث يكمنُ في اعتقادي في مُطابَقَةِ كشفِ مُشكلَةِ الهُوِيَّة تحديداً، وذلكَ بما هيَ إشكاليَّة رُؤيويَّة ذات ترميز عامّ عندَ المُتلقِّي الذي ينفعِلُ بهذا الرَّمز العامّ جَماليَّاً، فيتأثَّرُ -بناءً على تجربتِهِ الجمعيَّة- بالحركيَّة القلِقة والهشَّة المُنبسِطة في مَشهدِ هذا البيت، والنَّاهِضَة على كنايتَي تلفُّتِ العيْن وتلفُّتِ القلب، بمَا هُما مُؤشِّرانِ دلاليَّانِ في أُسلوبِ الوُجودِ يُوصِلانِ إلى رمزيَّةٍ أعمَق انفعاليَّاً ومَجازيَّاً، تكمنُ فيما أدعوهُ هُنا بـتلفُّتِ الطَّلَل.

تبدو جَماليَّةُ تلفُّتِ الطَّلَلِ مُتحكِّمَةً بكيفيَّاتِ أُسلوبِ التَّلقِّي الجمعيّ، حيثُ ينبسِطُ أُسلوبُ كشفِ الحُضورِ العامّ كيانيَّاً لذاتِ المُتلقِّي، والذي ينزاحُ من التَّلفُّتِ البصَريِّ إلى الالتفاتِ النَّفسيّ والوُجدانيّ المُشترَكِ، بإسقاطِ حركيَّةِ البيت المَشهد/ الفعل الحدَث على أزمَةِ هُوِيَّتِهِ الجمعيَّةِ بوصفِهِ إنساناً مُنتمياً إلى جماعةٍ أو بيئةٍ أو بلدٍ يُعاني من خطَرٍ يُهدِّدُ البُعدَ المَعيشيَّ أو البيئيَّ أو القبَليَّ أو القوميَّ أو الثَّقافيَّ أو الحضاريَّ، وقد يحدثُ تَماهٍ مع تجارِبِ الصِّراعِ الهُوِيَّاتيّ لهذا المُتلقِّي، أو ذاكَ، ولنا في العقلِ الجمعيّ العربيّ، وفي صلتِهِ القاسيةِ مع ذاكرَةِ الأطلالِ والتِّرحالِ ومَخاطِرِ البيئةِ على كيانِ القبيلةِ أو على الكيان الإثنيّ مُتَّكأٌ عميقٌ لتوجُّهاتِ الحُضور الظَّاهِر في الالتفات هُنا.

وهكذا، تبدو المَركزيَّة النَّسَقيَّة المُهيمِنة على جَماليَّات أُسلوب وُجود التلقِّي الجمعيّ في هذا المَشهد هيَ مَركزيَّةُ تلفُّتِ الطَّلل.

...

  1. العُنوان المَنهجيّ المَرجعيّ: 

أساليبُ وُجودِ التَّلقِّي الكُلِّيّ

(القارئ ما بعدَ المُدرِك/ القارئ المُبتكِر)

(ما فوقَ المَعنى/ الخَلْقُ والاختلاف)

_ العُنوان التَّطبيقيّ:

(تشتُّتُ الالتفات)

ينتقِلُ أُسلوبُ وُجود التَّلقِّي، هُنا، من بُؤرتَي وعي المَعنى ومَعنى الوعي أو مَعنى المَعنى النَّاهضتيْن على فعلِ الإدراك وإدراكِ الفعل بما هُما مُطابَقَتا كشفٍ للأنا الشَّخصيَّة الخاصَّة والأنا الجمعيَّة العامَّة في مَشهدِ البيت، إلى مُستوى ما بعدَ المُدرَكِ، وذلكَ بوصفِهِ مُستوى مُجاوَزَةٍ باتِّجاهِ ما فوقَ المَعنى؛ المُنفتِحِ في مُهيمِناتِ أُسلوبِ وُجودٍ مُبتكَرٍ وخلَّاقٍ ومُختلِف.

من المُفترَضِ لهذا الفضاء من التَّلقِّي أنْ ينبسِطُ في صَيرورَةِ الأبعادِ الكُلِّيَّةِ، مُنزاحاً عن أُسلوبَي وُجودِ الكشفِ، نحْوَ أُسلوبِ وُجودِ خَلْقِ الأنا الكُلِّيَّة؛ أي بمُحاوَلَةِ انفتاحِ الفَهْمِ عبرَ الحُضورِ المُضمَرِ في الغِياب، بدلاً من الحُضور الظَّاهِر في الالتفات.

وهُنا، يتمُّ تلقِّي البيت المَشهد/ الفعل الحدَث عبرَ انزياحِ أساليبِ وُجودِ التَّلفُّتِ الثُّلاثيِّ تلفُّتِ العيْن وتلفُّتِ القلب وتلفُّتِ الطَّلل من مَركزيَّاتِها المُطابِقة، إلى جَماليَّاتِ انفتاحِها الحُرّ المُختلِف والمُغايِر والخلَّاق.

إنَّ أُسلوبَ وُجودِ تشتُّتِ الالتفات في هذا المُستوى من التَّلقِّي يعنِي تخفُّفاً، قدرَ المُستطاعِ، من مُسَبَّقاتِ القراءة والفَّهم والتَّأويل، وتشييداً مُمكِناً أو مُحتمَلاً لنَصٍّ ثانٍ مُبتكَرٍ عبرَ استنطاقِ الحُضورِ المُضمَرِ في الغِياب، وذلكَ بوصفِ هذا الاستنطاق انفكاكاً من طيِّ التَّلقِّي على مُطابَقاتٍ مركزيَّة فرديَّة أو جمعيَّة الرَّمزان الخاصّ والعامّ، باتِّجاهِ الارتماءِ في رمز الرَّمز/ التَّرميز الكُلِّيّ.

وهكذا، ينبسِطُ أُسلوبُ وُجودِ التَّلقِّي في هذا المُستوى انطلاقاً من فهْمِ حركيَّة المَشهد بينَ التَّلفُّتِ والالتفاتِ فَهْمَاً يتجاوَزُ كناياتِ الانفعال الفرديّ أو الانفعال الجمعيّ في حركيَّاتِ تلفُّتِ العيْنِ والقلبِ والطَّلَلِ المُتمركِزَة بينَ مُشكلتَي الحُبّ والهُوِيَّة، نحْوَ فتْحِ أُفُقٍ كيانيٍّ إنسانيٍّ جديدٍ، تنتقِلُ مُهيمناتُهُ  للتَّصدِّي لأسئلَةٍ كُلِّيَّةٍ انطلاقاً من مُشكلة الوُجود، حيثُ يقومُ هذا الأُسلوب بإسقاطِ الحركيَّةِ القلِقة والهشَّة المُنبسِطة في هذا البيت المَشهد/ الفعل الحدَث على أزمةِ الذَّات الوُجوديَّة والأُنطولوجيَّة بما تنطوي عليهِ هذهِ الأزمة من إشكاليَّةِ تشتُّتٍ وغِيابٍ وتغييبٍ، ومن عوامِلِ تباعُدٍ وتشظٍّ وإفناءٍ تستجلِبُ أسئلةَ الحياة والموت والمَصير، وتفتتِحُ جَماليَّاتِ مَخضِ المَجهولِ بما هوَ اختبارٌ حدْسيٌّ وإبداعيٌّ ومَعرفيٌّ لبِنى الغِيابِ المُنتشِرَة.

ورُبَّما، منَ المُمكِنِ ومنَ المُحتمَلِ، أنْ يستطيعَ المُتلقِّي الكُلِّيّ أنْ يتعمَّقَ أكثَرَ في إعادَةِ تشييدِ أُسلوبِ وُجودِ تلقٍّ لحركيَّةِ هذا البيت المَشهد/ الفعل الحدَث، بما هيَ حركيَّةُ قلَقٍ وزيَغانٍ وفُقدانِ استقرارٍ وعدمِ أمانٍ؛ أي: قد يتمكَّنُ هذا المُتلقِّي الكُلِّيّ من فتْحِ مُشكلةِ الوُجود/ فجْوَةِ الوُجود على تنقيحٍ جَماليٍّ ومَعرفيٍّ مُغايِرٍ لِمُشكلتَي الحُبّ والهُوِيَّة، وعلى إعادةِ استنطاقٍ لهُما عبرَ مُهيمناتِ أسئلةٍ تراكُبيَّةٍ ترتبِطُ بمُقارَبَةِ مَفاهيمِ العدم والكينونة والحُرِّيَّة، فيؤوبُ أُسلوبُ وُجودِ التَّلقِّي إليهِما من جهَةٍ تشتُّتيَّةٍ اختلافيَّةٍ كي يُفتِّتَ حواريَّاً مَركزيَّتَهُما من الدَّاخِل، ويُعيدَ تشييدَ سُؤالَي الحُبّ والهُوِيَّة وُجوديَّاً وأُنطولوجيَّاً كُلِّيَّاً، بما هو تشييدٌ اختلافيٌّ باحثٌ عن رُؤىً جديدةٍ ومُبتكَرة وخلَّاقة.

وأودُّ أنْ أقترِحَ في هذا الإطار، أو بالأحرى: أودُّ انْ أختبِرَ مثالاً عن ابتكارِ أو تخليقِ أُسلوبِ وُجودِ تلقٍّ كُلِّيٍّ (مُمكِنٍ أو مُحتمَلٍ) في هذا البيت:

تُعيدُ الحركيَّةُ القلِقة والهشَّة لالبيت المَشهد/ الفعل الحدَث، بما هيَ حركيَّةُ مُشكلةِ الوُجودِ المُنبسِطةُ في مُنفتَحِ الحُضورِ المُضمَرِ في الغِياب، تخليقَ مُشكلتَي الحُبّ والهُوِيَّة بناءً على التَّضادّ المُتزامِن بينَ الحركة المادِّيَّة والحركة النَّفسيَّة في هذا البيت؛ أي:

كُلَّما ابتعدَ الشَّاعرُ في المَسافةِ عنِ الطَّللِ، وتشتَّتتْ كينونتُهُ تلفُّتُ العيْنِ، فاختفاءُ الطَّللِ، فتلفُّتُ القلبِ، اقترَبَ منهُ في المَشاعرِ والعواطفِ والانفعالاتِ المُتأجِّجةِ إلى حُدودِ التَّمركُزِ عليهِ وتوهُّمِ التَّطابُقِ معهُ.

بمَعنى أنَّهُ كُلَّما تصعَّدَ قلَقُ فجْوَةِ الوُجودِ والمَصيرِ والتَّباعُدِ والفَناءِ، بما هيَ إشكاليَّاتُ تشظٍّ وغِيابٍ مُضمَرٍ، حضَرَ العُنف الجدَليّ المُرقَّد للانزياح عبرَ سُؤالَي الحُبّ والهُوِيَّة بوصفِهما حُضورَ أُسلوبَي وُجودٍ مُعوِّضيْنِ كيانيَّاً عبرَ توهُّمِ التَّطابُقِ معهُما، أو بوصفِهما أُسلوبَي توازنٍ بديلٍ وردَّ فعلٍ مُواجهٍ للطَّبيعة البِنيويَّة للوُجودِ في العالَم عبرَ مُحاوَلَةِ التَّمركُز.

ولعلَّ ما أدعوهُ في هذا المَشهدِ بِالاستيفاء البلاغيّ الوُجوديّ حركيَّاً عبرَ التَّضادّ المُتزامِن بينَ حركيتَي المُستوييْن المادِّيّ الحسابيّ والمعنويّ النَّفسيّ، يُذكِّرُني بحركيَّةٍ مُشابِهةٍ في قَفلَةِ قصيدةِ القتل الشَّهيرة للشَّاعر محمَّد الماغوط، التي يقولُ فيها: "أنا راحلٌ، وقلبي راجعٌ مع دُخانِ القطار".

أخيراً، وليسَ آخِراً.. 

أتمنَّى أنْ أكونَ قد سجَّلْتُ مُحاوَلَةً مُقنِعةً وإضافيَّةً في مَسارِ تشييدِ منهج التَّأويل الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ للانزياح (المَنهَج الأُنطوثقافيّ)، مُؤكِّداً مرَّةً أُخرى، أنَّ أُفُقَ هذهِ التَّجرِبةِ (التَّجريبيَّ) مَفتوحٌ باستمرارٍ على المُراجَعةِ والتَّنقيحِ والتَّعديلِ والتَّوسُّعِ والاستدراكِ، حتَّى بعدَ النَّشر القريب المُزمَع لهذا المَنهج في كتابٍ مُستقلٍّ وُفقَ ما أُخطِّطُ لهُ وما أرجوه.

 

الهوامش:

  • 1
    المُرَقَّد هو المُصطلَح الذي نحتُّهُ، واقترحْتُ اعتمادَهُ في اللُّغة العربيَّة للدَّلالَةِ على مَفهومَي (المُرَكَّب) و(المُعقَّد) في آنٍ معاً، حيثُ لا يوجدُ مُصطلَحٌ يدلُّ على حُضورِ هاتيْن الصِّفتيْن، أو على وُجودِ هذيْن المَفهوميْن في ظاهِرَةٍ واحدة؛ إذ ليسَ كُلُّ مُعَقَّدٍ هوَ مُرَكَّبٌ، والعكسُ صحيح. يُنظَر: مازن أكثم سليمان، المُرَقَّدُ - اقتراحُ مُصطلَحٍ في النَّقدِ والفلسفَةِ - مُهدَىً إلى الفيلسوف التُّونسيّ الدُّكتور فتحي المسكينيّ (موقع ميسلون للثَّقافة والتَّرجمة والنَّشر، 12 آذار/ مارس 2023). ويُنظَر: مُلتقى العُروبيِّين - منبر أحرار العُروبة، 15 نيسان/ أبريل 2023. ويُنظَر: موقع مجلَّة الرَّافد الإلكترونيَّة، 1 أيَّار/ مايو 2023.
  • 2
    عبد الفتَّاح كيليطو، "زعمُوا أنَّ: مُلاحظات حولَ كليلة ودمنة" مجلَّة الكرمل، العدد 8( 1 أبريل 1983)، ص 230237.

هوامش

موضوعات

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع