هوامش

ثوان وسنون

The Gate of the Great Umayyad Mosque, Damascus, Gustav Bauernfeind, 1890

عدي الزعبي

كاتب من سوريا

شباب من الرقة، يسألون بخفر، "أين الجسر؟". لا يقولون جسر الرئيس. أدلهم، وأرحّب بهم. يقولون الأسعار نار في الشام. سائق التاكسي يستمع إلى أم كلثوم، "كان لك معايا، أجمل حكاية، في العمر كلو". يبدو سعيداً، حتى مع معرفته أن السنين مرت، "زي الثواني"، ولن تعود...

للكاتب/ة

يقع ضريح الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي الأندلسي على جبل قاسيون. أنهى الشيخ ترحاله في دمشق، مسكن الأنبياء ومستقرهم. زار طيفُ الشيخ السلطانَ سليم الأول في منامه، السلطان الوحيد الذي زار دمشق، فبنى له ضريحاً يليق به، ضريحاً صغيراً، ككل زوايا ومدارس وجوامع دمشق، يناسبها وتناسبه.

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

07/01/2025

تصوير: اسماء الغول

عدي الزعبي

كاتب من سوريا

عدي الزعبي

عصافير تزقزق، وعمال من الأبنية المجاورة يدندنون ألحاناً شعبية، ورصاص قريب، لا نعرف مصدره أو سببه. شمسٌ ساطعة، بعد أيام برد قارس. أتحرك في سريري، السرير الذي لم يتغير منذ التسعينيات، وأمامه المكتبة التي تركتُها ورائي عندما هربتُ، والمرايا على الخزانة ما زالت تراقبني. دقائق قليلة، قبل أن تستكين الروح وتقنع أننا في المنزل القديم. أجرجر نفسي، غير مصدّق. صورتي في المرآة لا تعرفني، وأنا لا أذكر ذلك الشاب فيها تماماً. أمي تعدّ القهوة، لنثرثر قليلاً، قبل أن أبدأ مشواري للتعرّف على مدينتي. كل خطوة كأنها في الماضي، كأن الزمن لم يمر، كأنني لستُ أنا: أشيب، متعب، في الثالثة والأربعين، أبٌ لطفل لا يتكلم العربية. أين أذهب؟ في ساحة الأمويين، ينتشر بائعو المازوت والبنزين، كما ينتشرون على كل الطرقات المؤدية إلى دمشق، وفي ساحاتها الكبرى والصغرى. مشكلة سوريا الأولى الوقود. والناس يرددون ذلك: بعد أن يتوفر الوقود، سنحظى على الكهرباء، وتنخفض الأسعار، وتعود المواصلات، ويدفؤون بيوتهم، ويقودون سياراتهم، ويشترون خبزاً أرخص من أفران تعمل بكامل طاقتها. البلد كلها تعيش على إيقاع التقشف الحاد، وتنتظر من "القائد أحمد" رفع العقوبات. 

أتجه من الأمويين إلى جسر (الرئيس)، تعلوه لافتتان: جسر الحرية، وجسر الساروت. الزحمة خفيفة. صبايا محجبات يضحكن. شاب مع علم الثورة يغطي ظهره. قادمون من إدلب يضحكون بصخب. علم الثورة في كل مكان تحت الجسر. الناس متعبة، يساومون الباعة الجوالين. الأسعار رخيصة جداً، عندما يحوّلها المرء إلى اليورو أو الدولار. السيارات الحديثة من الرقة أو إدلب. دبابات النظام ما زالت متناثرة، وسيارات تابعة للجيش مكسّرة على الطرقات. باصٌ محترق، فوق الجسر، فيه طفلان يدخنان. يقولان إنهما من إنخل، من قرى حوران. أسأله عن عمره. يكذب، يقول 14 سنة. ثم يشتمني، طارداً إياي من باصه. أنزل. مئات الشحاذين، معظمهم أطفال، من كل أنحاء سوريا. هنا تتجلى الوحدة الوطنية في أقسى صورها. بقايا قليلة، رغم كل محاولات إزالة ما علق بنا: "قائدنا إلى الأبد"، على واحدة من مؤسسات الدولة. علم البعث على أخرى. كأن ذلك العهد لا يريد أن يتلاشى. ولمن عاش طفولته ومراهقته فيها، لا شيء يثير السخرية في تلك الشعارات. صرافون في الشوارع، في كل زاوية. دولار وليرة تركي بشكل رئيس. مسلحو الهيئة يظهرون ويختفون. الكهرباء حديث الناس الأول؛ الكهرباء، وبشار. شيء أكبر من الاحتقار، أعمق. أتجه نحو مقهى الهافانا. لم أره منذ خمسة عشرة سنة. لا أدخل. أدور حول تمثال يوسف العظمة. نجا من سخرية القدر، وبقي واقفاً صامداً في قلب دمشق، التي مات على أبوابها. فندق الشام، فقد بهاءه. قيل لي الطبقات الغنية حوّلت أنظارها نحو أماكن أخرى. لا أعرف أين. شيءٌ لا يشبه الفرحة بالضبط. شيءٌ من عدم التصديق، من الطيران في المكان. "الأدالبة" وشباب الهيئة مرتبكون، والشوام وسكان الشام مرتبكون. أسلّم على المسلّحين واحداً واحداً، في الشوارع وعلى نقاط التفتيش وأمام المراكز الحكومية التي يرابطون فيها لحمايتها. معظمهم شباب في العشرينيات. مهذبون جداً. سعادتهم تطغى على وجوههم، من كلمات شكر بسيطة: "يعطيكم العافية يا شباب، نوّرتوا الشام". محلات المجوهرات أخفت المجوهرات من الواجهات. شحاذون نبلاء، على ما يقول ألبير قصيري: نساءٌ راقيات ورجالٌ محترمون، يقتربون منك ويخاطبونك بشموخ، طالبين بعض المال، والدمع في مآقيهم. لا خطة واضحة للمستقبل، والكل يعرف ذلك. ضبط الأمن، وطمأنة الخارج كي تُرفع العقوبات. فقط لا غير. استعدنا البلد. أو شيءٌ من هذا القبيل. وصلتُ متأخراً، بعد احتفالات جمعة النصر. تبدي البلد إذن شيئاً أقل من تلك الرغبة بالرقص والاحتفاء، شيئاً أبسط، شيئاً تعيشه، بدون الكابوس. الكابوس لم يغادر بعد. ما زال حديث الناس، موضع استغرابهم، قرفهم: كيف عشنا معه؟ ولماذا؟ شيءٌ من الراحة، القليل جداً منها، بدأ يتسرب إلى النفوس. ربما، هذا ما تعنيه الحرية في المعاش اليومي العادي. أمر أمام وزارة الثقافة، التي لا وجود لها في الحكومة الانتقالية، ولا لكل عملي البسيط المتواضع المرتبك في القصص القصيرة والمقالات الأدبية والتأملات الحالمة في معنى ظهور تمثيل البشر والحيوانات في فنون العصور الفاطمية والمملوكية والأيوبية، على العاج والخشب والزجاج والبوابات والحيطان. 

التفاؤل الحذر يختلط بتردّي الأوضاع المادية، وتأخر رواتب الموظفين. "الخارج" و"الداخل" مصطلحات تعود إلى التداول. تلوّث الهواء ورائحة المازوت. صور المفقودين على الحيطان. بعضها يثير الهلع: "سُمع أنه في صيدنايا". لا يعرفون عنه شيئاً آخر. صورٌ لمفقودين خرجوا من صيدنايا، ولم يُعرف لهم أهل. أنصاف-مجانين، لا يتذكرون أسماءهم. شباب الهيئة الملثمون يتجمعون لدقائق، ثم يختفون. لا أتذكر الطرقات، وجدتُ نفسي قرب مدرستي الابتدائية. المرة الأولى التي يرجف فيها قلبي. أقف أمامها، متلهفاً كي تجيبني: حتى الحرية لم تساعدني؛ ما زلتُ وحيداً، ولم ألتق بالكثير من الأصدقاء والأهل في مدينتي. هنا قلب دمشق -التي أشرف الفرنسيون بمساعدة معماريين إيطاليين على تخطيطها خارج المدينة القديمة- يسرقني. أعرف أنني منحازٌ لها، ولست موضوعياً. قررتُ أن أترك نفسي تغرق تماماً في كل المشاعر الرومانسية. ولكن المشاعر الرومانسية وقناعتي التي لا تتزعزع بأن دمشق أرقّ مدن العالم، نسفتها الغصة. الغصة؟ أو شيءٌ يقنص القلب، كموتٍ يتجدد. زرنا جوبر. كلها على الأرض. الإرث الحقيقي لسوريا الأسد، ولمن دعمها، أو سكتَ، أو انتظرَ، وللرماديين، وللمؤيدين. يتشلّع قلبي بين جوبر و"أبو رمانة". أدخل حديقة "السبكي". كتبتُ عنها قصةً، قبل أشهرٍ فقط، أقارنها بالحديقة الحجرية اليابانية في مالمو، القصة التي ستكون عنوان المجموعة القادمة: "أحجار اللعب". وأحجار جوبر تغطي الأفق والمعنى: كزلزال لا يتوقف. تبعد جوبر أقل من كيلومتر واحد عن ساحة العباسيين، مدماك دمشق ومفتاحها الثاني. أما مدينتي نفسها، دمشق، فلم تتعرض للقصف. ما زالت طازجة، كما تركتها؛ ولكن رثة، كغرفة جلوسٍ مهجورة، تراكم فيها الغبار والزمن والشجن. أقف على باب الحديقة. طفلٌ يبكي. وآخر يبيع المحارم. خلفي، طابور أمام محل "سامسونج". عروض خاصة، ليوم واحد. أنظر حولي. زحمة شديدة. أسال عن العرض، يخبرونني عنه، بالدولار. سيارة كبيرة، "فور ويلز"، تقف أمامي فجأة. مسلحون فيها، بذقون طويلة. ينتابني الرعب، الرعب من المخابرات، من الماضي، من كل ما عشتُه هنا. ينزل منها شاب من إدلب. "السلام عليكم". يعتذر بصدق. لم يرني على الشارع، وأنا تائه كسائح. يسأل عن أحد المطاعم. لا أعرف شيئاً في المنطقة. لا أتذكر الشعلان. نتبادل الكلام عن ألمانيا وإدلب. أقبّله على الخد، وأمشي إلى حديقة "المدفع"، كي أشرب قهوة سادة سريعة. عشرات الشباب على الكراسي والمقاعد يدردشون بكسل. هذه المرة، الوحدة تتجذّر في داخلي: لم تعرفني الشام. أمشي في شارع "الحمرا"، ثم تقودني خطاي إلى "الروضة". يكبر تأنيب الضمير. في جوبر والغوطة الشرقية فقط يتجلّى معنى سوريا الكامل. ولكنني متعلق بالمدينة التي نجتْ، مدينتي التي لا تتجلّى لي. أتذكر برلين، وأحنّ إلى البيت الذي يعيش فيه ابني وزوجتي. كل فرحة مغلّفة بما لا يمكن فهمه. لذلك، الموسيقا الحقّة تثير الحزن، حتى الموسيقا المرحة، كما يؤكد شوبنهاور. أبتعد عن مقهى الروضة. أخشى أن ألتقي بالناس، وقلبي لا يعقِل الحقائق اليوم. أتركهم، وأقرر أن أفي بنذري، بزيارة ضريح الصوفي الأعظم، قطب الإسلام الواحد الأوحد.

يقع ضريح الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي الأندلسي على جبل قاسيون. أنهى الشيخ ترحاله في دمشق، مسكن الأنبياء ومستقرهم. زار طيفُ الشيخ السلطانَ سليم الأول في منامه، السلطان الوحيد الذي زار دمشق، فبنى له ضريحاً يليق به، ضريحاً صغيراً، ككل زوايا ومدارس وجوامع دمشق، يناسبها وتناسبه. وقد تحوّلت دمشق إلى مركز للحجاج القادمين من آسيا والمشرق، ودللها العثمانيون، واشتُهرت بمحمل الحج الشامي، الذي لا يوازيه إلا محمل الحج المصري من القاهرة. لم تكن العمارة العثمانية قد اتخذت طابعها الجديد على يد سنان باشا، فبقي مسجداً بصفوف العواميد كالأموي وليس مسجد القبة الكبيرة بعواميده القليلة، والمأذنة مملوكية مثمنة، بطبقات متعددة، قصيرة، وليست كقلم الرصاص. يصلي الناس للشيخ، ويدعونه، نساءً ورجالاً وأطفالاً، بابتسامات واثقة. عائلة من آسيا الوسطى، ولكن لم أفهم هل أتوا مع "القائد أحمد"، أم من أولئك الذين استوطنوا "شام شريف" من قبل. مسلحون داخل حرم الجامع. أحدهم يستمع إلى الخطبة. الضريح نظيف، وصغير، ومُعتنى به بشدة. المسلح الآخر يلعب على الموبايل، ويدور حول البحرة. البحرة الصغيرة في الجوامع تقرّب كل الآلهة من القلوب، كأنها تمحي الحدود بين البيوت والمقاهي والمساجد، بخفتها وهدوئها وخريرها المحبب. خرجتُ وروحي معلّقة بالبارودة. الشابان بمنتهى التهذيب واللطف، من حرستا، التي مُسح معظمها في القصف الأسدي والروسي، على مر عقد. لافتة ترحب بالتحرير، قدمها أهل الصالحية، على مدخل الجامع. أمشي، في الحارات الضيقة، التي أعدّوا لها باصات أصغر من غيرها. الفقر أضعاف ما تركتُه. المرة الأخيرة التي زرتُ فيها الشيخ، كنت طفلاً، مع جدتي المسيحية. كنتُ أيضاً مرتبكاً، وعلاقاتي الاجتماعية متوترة مع أقراني. ولكنها عرفتْ كيف تريني طرق الحق، ولطالما أحبّت حارات الشيخ محي الدين. تتبضّع من هنا، ثم تزوره لنسلّم عليه، لنعود وروحينا أقل انهماكاً بالحاضر، وأكثر سماويةً بقربنا من قاسيون. الهواء خانق، والشمس ساطعة، على الرغم من البرد القارس. نزلتُ إلى العفيف. المدينة فارغة. موتورات الأدالبة والحوارنة تملأ الشوارع. ضجيج لا يتوقف. أتجه نحو مدرسة "دار السلام". شباب من الرقة، يسألون بخفر، "أين الجسر؟". لا يقولون جسر الرئيس. أدلهم، وأرحّب بهم. يقولون الأسعار نار في الشام. سائق التاكسي يستمع إلى أم كلثوم، "كان لك معايا، أجمل حكاية، في العمر كلو". يبدو سعيداً، حتى مع معرفته أن السنين مرت، "زي الثواني"، ولن تعود...

الكاتب: عدي الزعبي

هوامش

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع