في عالم تتشكّل فيه السرديات حول الحروب من خلال وسائل الإعلام السائدة والمصالح السياسية، تظهر الصحافة المصورة كأداة قوية تقدم رؤية خامة وغير خاضعة للرقابة حول معاناة البشر. يُعتبر جو ساكو وآرت شبيغلمان من أبرز الشخصيات التي استخدمت السرد المصور لكشف الصراعات السياسية، الصدمات التاريخية، ودورات القمع المتكررة. ليست أعمالهما مجرد إبداعات فنية، بل مواقف سياسية واضحة تدفع القارئ إلى مواجهة حقائق غير مريحة.
يُعتبر آرت شبيغلمان من الرواد في استخدام الكوميكس لمعالجة القضايا التاريخية العميقة، حيث نجح في الارتقاء بالرسوم المصورة إلى مستوى الأدب الجاد. يُعد عمله الأشهر ماوس (Maus)، الحائز على جائزة بوليتزر، شهادة استثنائية على معاناة والده في معسكر أوشفيتز، مستخدمًا رمزية جريئة (اليهود كفئران، والنازيون كقطط). ولم تكن الرواية مجرد توثيق للهولوكوست، بل تناولت أيضًا إرث الاضطهاد وتأثيره العابر للأجيال.
أما جو ساكو فهو من رواد الصحافة المصورة، حيث يمزج في أعماله بين التوثيق الصحفي والسرد البصري، مقدمًا روايات تكشف معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، كما في "فلسطين" (Palestine) وهي رواية مصورة غير خيالية توثّق تجربته في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الفترة بين كانون الأول 1991 وكانون الثاني 1992 حيث اعتمد في عمله على الصحافة المصورة لتقديم صورة حقيقية لمعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، دامجًا بين السياق التاريخي والشهادات الشخصية لنقل واقعهم اليومي.
أما عمله هوامش في غزة (Footnotes in Gaza) فهي رواية مصورة صحفية، نُشرت عام 2009، وتوثّق المجازر التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في خان يونس ورفح خلال أزمة السويس عام 1956، حيث قُتل وفقًا لإحصاءات الأمم المتحدة 275 فلسطينيًا في خان يونس و111 في رفح . يعتمد ساكو على مقابلات مباشرة مع فلسطينيين في تلك المناطق، ويربط بين الأحداث التاريخية ووقائع معاصرة مثل هدم المنازل ومقتل الناشطة راشيل كوري، مستخدمًا السرد البصري والتوثيق الصحفي لنقل تأثير الاحتلال بواقعية. يتميز أسلوب ساكو بالغوص الميداني في الأحداث، إذ يسافر إلى مناطق النزاع، يجري مقابلات مباشرة، ثم يعيد صياغة تجارب من التقاهم بأسلوب بصري دقيق. منحته أعماله مكانة مرموقة كصوت يكشف زوايا مسكوت عنها، غالبًا ما تُهمَّش أو تُشوَّه في الإعلام التقليدي.
يلتقي المبدعان على صفحة الغارديان في مقولة راهنة ذات صلة بالحرب على غزة اليوم. يعكس عنوان الكوميكس المشترك لشبيغلمان وساكو المنشور في صحيفة الغارديان بتاريخ 14.02.2025، "أبدًا لن يتكرر.. ويتكرر... ويتكرر.. " سخرية مريرة من تكرار المآسي الإنسانية. إذ أن عبارة " أبدًا لن يتكرر "، التي ارتبطت تاريخيًا بمنع حدوث إبادة جماعية أخرى بعد الهولوكوست، يتم استخدامها هنا للإشارة إلى أن التاريخ يعيد نفسه، ولكن بأدوار متبدلة. يفتح هذا التساؤل الجدلي الباب أمام مفهوم تكرار التاريخ (The Recurrence of History) لجورج سانتايانا صاحب مقولة " أولئك الذين لا يتذكرون الماضي محكوم عليهم بتكراره" ، التي تؤكد أن الصراعات والفظائع الجماعية تعيد نفسها في أنماط دورية، خاصة عندما يتم توظيف المعاناة التاريخية لتبرير القمع الجديد.
يقول شبيغلمان في الكوميكس المنشور:" الرعب من حجم الفظائع… ثم الرعب من حجم رد إسرائيل!"، مستخدمًا صياغة متوازنة تعكس إدانته لهجوم حماس دون القبول باستخدامه مبررًا للرد الإسرائيلي المدمر وهو مشهد يعكس مفهوم "التماثل الأخلاقي" (Moral Equivalence Theory)، الذي يرفض السرديات الثنائية التي تصوّر أحد الأطراف كخير مطلق والآخر كشر مطلق. من خلال هذا الطرح، يرفض شبيغلمان الرؤية التبسيطية للصراع، مؤكدًا أن العنف يؤدي إلى مزيد من العنف في حلقة مفرغة، مما يشكّل انتقادًا واضحًا للخطابات الإعلامية السائدة التي تغذي الاستقطاب بدلًا من معالجة الجذور العميقة للأزمة.
وفي أحد أكثر المشاهد رمزية في هذا الكوميكس، يظهر بنيامين نتنياهو واقفًا فوق كومة من الجماجم، مرتديًا بدلة ملطخة بالدماء، في إشارة إلى أن استراتيجيته لم تقتصر على الردع العسكري، بل وصلت إلى مستوى الإبادة. يقول ساكو:
"إستراتيجية نتنياهو لم تكن مجرد انتقام، بل كانت إبادة."
يُبرز هذا المشهد فلسفيًا مفهوم القوة المفرطة كما حلله فريدريك نيتشه، الذي رأى أن القوة الحقيقية ليست في الاستخدام المباشر للعنف، بل في القدرة على ضبطه. في المشهد لا يبدو نتنياهو قائدًا قويًا، بل شخصية محكومة بهوس القمع والانتقام، مما يعكس إفلاسًا سياسيًا بدلًا من سيطرة حقيقية.
وفي ختام الحوار، يُطرح السؤال:
"إذن، هل أنت يهودي يكره نفسه؟"
فيرد شبيغلمان بسخرية:
"لا، أنا ملحد يكره نفسه!"
هذا المشهد، في رأيي، يكشف كيف تُواجَه الأصوات اليهودية الناقدة لإسرائيل باتهامات معاداة الذات، كوسيلة لإسكاتها ونزع الشرعية عن نقدها. يمكن فهم هذا النهج من خلال منظور ميشيل فوكو حول إنتاج الهوية كأداة للسلطة، حيث يُستخدم مصطلح "اليهودي الذي يكره نفسه" كآلية للضبط الاجتماعي والسياسي تمنع النقد الداخلي. ومع ذلك، يوظّف شبيغلمان السخرية لتفكيك هذا الخطاب القمعي، رافضًا التصنيفات الجامدة التي تختزل الهوية في قوالب أيديولوجية مغلقة. بهذا، يقدم نموذجًا لنقد الذات القائم على المسؤولية الأخلاقية، بدلًا من الامتثال للمفاهيم المفروضة من قبل السلطة والمجتمع.
يشكّل هذا العمل المشترك بين ساكو وشبيغلمان نقدًا لاذعًا للنفاق السياسي، وتكرار المآسي التاريخية، وغياب المساءلة في أوقات الحرب. لا يسعى الكوميكس إلى تقديم إجابات جاهزة، بل يدفع القارئ لمواجهة الأسئلة الأكثر إلحاحًا: هل يمكن إدانة الجرائم عندما تُرتكب ضدنا، ثم تبريرها عندما نقترفها نحن؟ وهل يمكن لذكرى المعاناة أن تكون تحذيرًا من الظلم، بدلًا من أن تتحول إلى مبرر له؟