"يبقى الشعر، على مرّ العصور، تلك المادّة المشحونة بأسئلة الإنسان المنطلقة من ذاته والمشغولة باللغة والعالم"، يقول الشاعر الفلسطيني علي قادري في حوار أجريته معه. غير أن هذه الأسئلة، في ديوانه الماء والنقصان (2024)، لا تُطرح من منبر التأمّل المجرّد، بل من موقع الفقد والتمزّق، حيث النقص ليس عارضًا بل شرطًا وجوديًا ومعرفيًا، وحيث اللغة لا تُنتج المعنى إلا من داخل تعثّر المعنى.
وفي قلب هذا النقص، تتشكّل ذات شعرية مأزومة، تكتب لتُبقي الجرح مفتوحًا، ولتقاوم به محو الهويّة. ومن هذا الأفق، يغدو "الانتماء الفلسطينيّ أرقى أشكال الأممية والكونية الإبداعية"، يصرّح قادري في الحوار نفسه، وتتّخذ القصيدة موقعًا غير محايد أمام سؤال العدالة. فهنا، يتحوّل الماء إلى استعارة لتفلّت الهوية، ومرآة يتشكّل فيها المعنى من هشاشته لا من اكتماله.
في ديوان الماء والنقصان (دار راية، 2024)، لا يظهر الماء رمزًا مألوفًا أو استعارة مستهلكة، بل قيمة وجودية متحوّلة، كجذر ينبت من النقص ويمتدّ في فراغ الهوية. هنا، لا يتدفّق الماء باتجاه الخلاص، بل يُستدعى كأثر للفقد، وكمجال يعيد مساءلة الذات في هشاشتها، وجسدها في قابليته للانمحاء. تستدعي هذه الرؤية طيفًا من التصورات الشعرية والفلسفية التي تعاملت مع الماء كمجال لتحوّل المعنى وزعزعة الهوية، من نهر ليثي الذي يطهّر الذاكرة في الكوميديا الإلهية لدانتي، إلى نهر الحياة عند بليك، إلى تمثيل الماء لتقلّب الحقيقة عند والاس ستيفنز، حيث "الحقيقة تُشبه النهر الذي يُغيّر ضفافه كلّما مرّ عليه الزمن". وفي هذا السياق، يتعامل ديوان قادري مع الماء لا كعنصر زخرفي أو استعاري، بل كبنية وجودية متغيّرة، كمبدأ يخلخل استقرار الهوية، ويُعيد مساءلة الذات والذاكرة والغياب. رؤية تتقاطع مع التصوّر الهيرقليطي للوجود كتدفّق لا يثبت، حيث لا يكون الكائن هو ذاته في لحظتين، تمامًا كما لا يمكن عبور النهر مرتين.
تطالعنا القصيدة الأولى، "فصل الخوف العادي"، وفيها تتكشّف التجربة الوجودية بوصفها مواجهة مع الخوف، لا كحالة عابرة بل كفصل دائم من الحياة: "تيقّنت أنّ الدّنيا / لا تحملُ إلا فصلا واحدا / هو فصل الخوف". لا يظهر الخوف هنا كعرض، بل كبنية ثابتة في جسد الوجود، كحقيقة سفلية تظلّ بعد انكشاف سائر الأوهام. وفي مواضع أخرى من الديوان، يتكرّس حضور الماء لا كعنصر تطهيري أو خلاص نهائي، بل كوسيط للارتجاع الداخلي، ولتأمّل الذات في قلقها وتشوّشها. يقول الشاعر: "حين يعود الماءُ إلى منبعه / وتعودُ الفراشةُ إلى يرقتها / ... / ربّما / يعودُ قلبي خفّاقًا بالحبّ وأسرار البحث". في هذا المقطع، تستدعي الذات فكرة العودة إلى لحظة أصلية، ما قبل الخسارة والانكسار؛ حالة من النقاء المجرّد، حيث لم تتورّط بعدُ بالمعرفة أو الجرح. غير أن هذا الرجوع يظلّ مشروطًا، معلقًا على "ربّما"، التي تقوّض اليقين، وتحوّل الحنين ذاته إلى شعور هشّ، متردّد، لا يبلغ اكتماله.
هذا التوق إلى العودة لا يتحقق، بل يعيد الذات إلى نقطة الصدمة؛ ففي قصيدة "أحلامي الخائفة"، يتحوّل الماء إلى طقس عبور، لكنه لا يغسل الجرح، بل يؤطّره ويجعله جزءًا من تشكّل الكينونة: "بمزيدٍ منَ الماء / لتجاربَ تعمّدني بالعافية / أثر الصّدمة". الولادة هنا لا تنفصل عن الجرح، بل تُعاد صياغتها كاستمرار للصدمة، لا كنقطة تجاوز لها.
ويتواصل هذا المسار التفكيكي في مقاطع أخرى، حيث حتى الرموز الأكثر صلابة وثباتًا، كالحجارة، لا تسلم من الهشاشة. فيقول: "الحجارةُ التي على شكلها الأول / تنصاعُ لدموع الأركيولوجيّ والصّيادين". هكذا تنهار صورة الرسوخ التقليدي، ويظهر أن ما نعدّه ثابتًا، يمكن أن ينحني تحت وطأة العاطفة. فالصلابة لم تعد صفة جوهرية، بل حالة قابلة للتفكّك أمام الأثر الشعوري.

هكذا، يُبنى الديوان على تفكيك الثوابت، حيث الماء لا يطهّر، بل يكشف التشوّش، والحجر لا يثبّت، بل يخضع لبكاء الأركيولوجي والصياد. كل محاولة للرجوع تتحوّل إلى معاينة جديدة للخسارة، وكل تمثيل للصلابة يُقوّض أمام قلق المعنى.
من هذا التصدّع، تنبثق البنية الزمنية للديوان: لا يسير الزمن فيه بخطّ كرونولوجي مستقيم، بل يتموّج بين الحاضر والذاكرة، كما لو أن الذات لا تُقيم في زمن بعينه، بل تتقطّع بين أطياف من اللحظات والانفصالات. لا توجد صورة واحدة للذات، بل تشظٍّ لا يكفّ عن إعلان غربته:
"لستُ أناي في الحلم / لستُ أرضي / ولا رداءَ جسدي المثخن بالهرمونات التّعيسة".
نحن هنا أمام اغتراب مضاعف، لا عن العالم الخارجي فحسب، بل عن الجسد، عن الاسم، عن الحلم ذاته. اغتراب يتغذّى من إدراك دائم للنقص، لا بوصفه خللًا، بل كشرط ضروريّ للمعنى.
"كنتُ أبحثُ / عن ظلّ الوردةِ الدّافئ / فوجدْتُ مائي / وحنيني ناقصًا". وهكذا يظهر الحنين، لا كقوّة راجعة إلى الماضي، بل كأثر متبقٍّ، كنداء لما لا يمكن استعادته، لما لم يكتمل قطّ.
وتتعمّق هذه الرؤية في مقاطع الحب، حيث لا يكون الآخر ملاذًا، بل امتدادًا آخر للتفتّت. فالعلاقة العاطفية، بدل أن تمنح الذات شكلًا جديدًا من الاكتمال، تُعيد إنتاج الجرح بلغة الماء نفسها: "نزلَتْ شفتاكِ الملتهبتان / إلى نهري / وأحزاني / ولفَفْتُ ماءَكِ وأشواقَكِ / بثوبِ العذاب"، فالعاطفة تُكتب هنا من موقع التصدّع، لا من الالتحام؛ حيث لا شفاء في التقرّب، بل تجلٍّ آخر للألم المتبادل. لا خلاص، بل تداخل للمياه، حيث يتحوّل الحب إلى مجرى جديد للخذلان.
بهذا المعنى، لا يقدّم الماء والنقصان شعرًا عن موضوعات، بل عن توتّرات بنيوية في الوعي: بين الحضور والغياب، التذكّر والنسيان، الاكتمال والتفتّت. النصوص لا تُقفل على معنى، بل تنفتح على مجرى جديد في كل قراءة. هي ليست دعوة إلى الانتهاء، بل إلى التماهي مع ما لا يكتمل.
