كتبها ألبرتو مانغويل خصيصاً للمجلة ، في٥/٣/٢٠٢٥.
في قمة عربية طارئة عُقدت مؤخرًا في القاهرة، وضع القادة العرب خطة لإعادة إعمار غزة، مع التأكيد على عدم تهجير الفلسطينيين الباقين فيها على قيد الحياة. وتضمنت الخطة تشكيل لجنة إدارية تتولى إدارة القطاع مؤقتًا، على أن يُنقل الحكم لاحقًا إلى القيادة الفلسطينية المعترف بها دوليًا في الضفة الغربية. واعتُبر هذا المقترح خطوة أولى نحو تحقيق حلم طال انتظاره: إعادة توحيد الدولة الفلسطينية المنقسمة، وهو الحلم الذي طالما راود الفلسطينيين في الوطن والشتات.
لكن يبدو أن هذا الاقتراح لم يأخذ في الاعتبار واحدة من أهم المؤسسات الفلسطينية، التي وصفها مديرها، عيسى قراقع، بأنها "مشروع دولة، بل أكبر من الدولة نفسها، لأنها تجسد الذاكرة الفلسطينية العميقة والممتدة عبر تاريخ فلسطين الطويل": المكتبة الوطنية الفلسطينية.
المكتبات الوطنية، سواء كانت أسطورية كمكتبة الإسكندرية، أو واقعية ومتواضعة مثل المكتبة الوطنية الأوكرانية "فيرنادسكي"، هي قبل كل شيء مبانٍ رمزية. وكما كتب عيسى قراقع بعبارة بليغة: "الأمة التي لا تمتلك مكتبة وطنية، لا وجود لها." فهذه المكتبات تمثّل جوهر هوية قرّائها سواء كانوا ملوكًا ذوي طموح أو ضحايا صامدين، وتمنحهم مرآة لفهم ذاكرتهم الثقافية والسياسية، ولغتهم وأدبهم، وأسباب وجودهم والأساطير التي تشكّل وعيهم الجمعي.
أما المكتبات العادية، سواء كانت عامة أو خاصة، فهي عوالم محددة بمحتوياتها المختارة واستخداماتها الانتقائية. في المقابل، تُجسّد المكتبة الوطنية فضاءً شاملاً يحتوي على كل هذه العوالم ويمنحها البقاء. فالمكتبة الخاصة قد تُروى من منظور فردي، بينما تشكّل المكتبة الوطنية جوابًا جماعيًا على لعنة برج بابل؛ تحوّل فوضى اللغات التي أراد الله بها معاقبة الطموح البشري إلى نظام إنساني راقٍ، وإلى وسيلة للتفاهم والحوار.
رأى الفلاسفة الرواقيون في اليونان القديمة، ومن تبعهم من شُرّاح العصور الوسطى، أن الكون كائن حيّ نابض، يتكوّن من جسد وروح. وانطلاقًا من هذا التصوّر، فإن الإنسان ليس إلا صورة مصغّرة عن هذا الكون الشاسع والمبهم، فيما يُعدّ الكون ذاته تجسيدًا مضخّمًا للإنسان.
آمن هؤلاء المفكرون بأن الروح البشرية، كونها جزءًا من الروح الكونية، هي بالنسبة للجسد البشري مثلما الروح الكونية بالنسبة للكون، وأن الجزء العقلي من هذه الروح يعمل داخل كل فرد كما يعمل العقل الكوني في مجمل الكون. والأهم من ذلك، أنهم اعتقدوا بأن الكون يؤثر في الإنسان كما يؤثر الإنسان في الكون. فإذا كان الكون كله جسدًا عضويًا واحدًا يمتلك الحياة والحركة والروح، فإن المكتبة يمكن اعتبارها مستودعًا لكلتا الروحين، الكونية والبشرية.
وهذا ما قصده بورخيس عندما اقترح أن مصطلحي الكون والمكتبة ليسا سوى وجهين لمفهوم واحد.
قلتُ إنّ المكتبة الوطنية، مجازيًا، تُجسّد هوية قرّائها. وكما قال محمود درويش بأنّ المجاز عن فلسطين أقوى من فلسطين على أرض الواقع. وهذا لا يشير فقط إلى ما يؤمن به هؤلاء القرّاء عن أنفسهم، بل أيضًا إلى ما يختارون تذكّره من تجربتهم الماضية.
فالمكتبة، كما يوضح ريتشارد أوفيندن، مدير مكتبة بودليان، هي فضاء للأدلّة؛ لا تكتفي بتوثيق الواقع، بل تكشف أيضًا ما نُعرض عنه، ما نختار أن ننساه، أو نمحوه من الذاكرة الجمعية. فكل مكتبة، بطبيعتها، قائمة في ظلّ شكلٍ من أشكال الرقابة: سواءً بسبب إقصاء متعمّد أو ضرورات قاهرة ناتجة عن شُحّ الموارد أو ضيق المساحة أو خشية السلطة.
ومع ذلك، حتى في حضور الرقابة، تظلّ المكتبة الوطنية رمزًا للتطلّع إلى ما يمكن أن يكون عليه العالم في أفضل صوره، أو إلى ما قد نندم على ما ضاع منا إلى الأبد.
أدرك الإنسان، منذ فجر البشرية، أنه لا يستطيع البقاء منفردًا. ومع ذلك، لا يزال الفرد يُفتَن مرارًا بوهم الانعزال، فيغفل عمّا يجمعه بغيره من بني جنسه، وما يمكّنه من الصمود في وجه الأخطار التي تتهدّده.
لقد مُنحنا جميعًا إمكانية الإيمان، الأمل، والمحبة، وقبل كل شيء الكاريتاس، تلك المحبّة الفاعلة التي تُضفي المعنى على كلّ فضيلةٍ سواها. والتاريخ، في مآسيه الكبرى، أثبت مرارًا، ورغم الصيحات العالية للطغاة المتعطشين للدماء وأصحاب اليمين المنفلت أن الأنانية ليست فضيلة، وأن من منفعته على حساب الآخرين إنما يحكم على نفسه بالهلاك.
تحمل المكتبة بين رفوفها هاتين الإمكانيتين المتناقضتين: الأولى تحت شعار رامبو: "الأنا هو الآخر". والثانية، تحت صرخة الفاشية الإسبانية: "يحيا الموت".
في كتابه "السيد ومبعوثه "(2009) ، يجادل الطبيب النفسي إيان ماكغيلكريست بأن نصفي الدماغ البشري يمكن النظر إليهما بوصفهما يمثلان وظيفتين مختلفتين: المنطق والإبداع. النصف الأيسر يتعامل مع التفاصيل، بينما يركّز النصف الأيمن على الصورة الكلية. هذان النمطان من الإدراك لا يتعارضان، بل يمنح كلٌّ منهما الأفضلية لنمط معيّن من الفهم.
يراقب النصف الأيمن المحيط العام، ويهتم بالعواقب طويلة المدى لأفعالنا. أما النصف الأيسر فيركّز على التقاط فريسة واحدة، أو بلوغ هدف مباشر. وإذا تُرك المجتمع خاضعًا بالكامل لهيمنة النصف الأيسر، فسينزع إلى تجاهل التعاطف، وإهمال البيئة، والتعامي عن نتائج الأفعال الأنانية المتمركزة في اللحظة الراهنة.
قد يرى التلموديّ في النصف الأيسر تمثيلًا للعالَم الصغير، وفي النصف الأيمن صورةً للعالَم الكبير؛ والصراع بين هذين القطبين، في البيولوجيا كما في الميتافيزيقا، صراع متشابه.
يشير تاريخنا إلى أن النصف الأيسر بات مهيمنًا منذ الثورة الصناعية على الأقل، وأننا انعزلنا في قواقعنا، بعيدًا عن الآخرين وعن العالَم.
ومع ذلك، تواصل مكتباتنا تذكيرنا بأن التوازن بين النصفين جوهري. ما إذا كنّا نصغي لهذا التذكير، فتلك مسألة أخرى.
في سومر القديمة، كان يُنظر إلى الأحداث الأرضيّة للسياسة والدين على أنها انعكاسات لما يجري في السماء. ما يحدث على الأرض له ما يقابله في عالم الآلهة، ولا يُفهم إلا في ضوئه. سلوك الملك، مثلًا، كان يُرى في حركة الكواكب، وكانت أسرار الآلهة تُكتشف في أحشاء حيوانٍ يُقدَّم قربانًا.
في واحدة من أقدم الملاحم التي وصلتنا، يُروى أن سكّان مدينة أوروك عاشوا تحت حكم ملك شاب متسلّط يُدعى جلجامش، اشتهر بظلمه وقسوته. كان يستخفّ بالمعرفة، ويهوى المصارعة، ويُجبر الرجال على مصارعته "حتى وإن كان لديهم ما هو أهمّ"، ويستمتع بإذلال النساء، حتى العرائس منهنّ. فدعا أهلُ أوروك الآلهةَ أن تجد لهم مخرجًا. لكنهم لم يطلبوا موت الملك، لأنهم أدركوا أن المجتمع السليم يجب أن يتعافى دون أن يلجأ إلى القتل.
استجابت الآلهة بإرسال رجل بريّ يُدعى أنكيدو ليصارع الملك. وفي هذا الصراع الجسدي بين الحضارة الفاسدة والطبيعة البريئة، خرج الرجلان وقد تغيّرا. في تاريخ البشرية، يظهر جلجامش وأنكيدو بأسماء مختلفة، لكن الصراع نفسه يتكرّر. يجب على جلجامش أن يتعلّم كيف يحكم بالعدل، وعلى أنكيدو أن يتعلّم قوانين المجتمع. ولا بدّ من تكرار هذه الرحلة مرة بعد مرة.
لا تقوم المجتمعات إلا على أسس العدالة والرحمة. ويجب علينا أن نعيد تذكير أنفسنا بهما باستمرار، حتى لا نضلّ الطريق باسم "التقدّم". وكما كتب غلبرت كيث تشيسترتون ساخرًا: "من الواضح أنه لا أمان في مجتمعٍ تُعتبر فيه مقولة رئيس المحكمة بأن القتل خطأ مقولةً مبتكرة ومبهرة". ولكي يحمي المجتمع نفسه من نفسه، علينا أن نعلّق هذه البديهيات على كل باب، ونضعها على كل رف.
لا يبدو أن تجارب البشرية تنتهي إلى نتيجة حاسمة. يعود الميكروكوزم الإنساني مرارًا وتكرارًا إلى حالٍ من الظلم المتعمّد والطموح الأناني، يركّز على ما يريده الفرد لنفسه وحده، ويقابله دومًا الماكروكوزم بعواقب هذه الأفعال في محاولة لإعادة التوازن.
في ملحمة جلجامش، يتجسّد هذا التوازن في موت أنكيدو، رمز الطبيعة. أما نحن، فنواجه تحذيرات متكررة من انقراضٍ محتمل للحياة البشرية على الأرض. كان رعايا جلجامش يصلّون للآلهة طلبًا للخلاص. وربما نحن، عوض الصلوات، نحتاج إلى شيء آخر: أفعال صغيرة من المقاومة، متكررة وعنيدة.
أفعال صغيرة من المقاومة، لا تجيز مرور الكوارث المتعمّدة في صمت. رفض بسيط للخضوع في لحظات الظلم. انسحابات متواضعة من المشاركة في أعمال الخراب المتعمّد. هذه بعض الاستراتيجيات التي قد تتيح لنا، ربما، فرصة للبقاء.
في الأعراف اليهودية، يعتمد خلاص البشرية على ستة وثلاثين شخصًا من "الأبرار الخفيّين"، يُعرفون باسم "لاميد- فوفنيك" (الأبرار الخفيّون الستة والثلاثون)، لا يعرف أحدهم الآخر، ويقوم على وجودهم مصير العالم. أما في الإسلام، فيرتفع هذا العدد إلى أربعين. فقد سمع الخليفة عثمان بن عفان والده يقول إن عدد الأبرار أربعون. فسأله: "أأربعون رجلا؟"، فأجابه والده ألا يقول رجالا، وإنّما بشر، لأن بين هؤلاء أيضًا يوجد نساء.
قد يكون أحد هؤلاء الأبرار الأقل ظهورًا بيننا، لكنّ التعرّف عليهم يتطلّب منّا فضيلة المحبة، أو "الكاريتاس"—قدرتنا على التماهي مع الآخر.
الأدب الذي جمعناه عبر العصور على رفوف مكتباتنا، بكل ما فيه من غموض ثري ولا نهائي، قادر أن يعلّمنا التعاطف مع شايلوك كما مع ماكبث، الشفقة على بريام كما على آخيل، الحبّ لأنتيغونا كما لهكوبا. يخبرنا، كما في الأوديسة، أن كلّ حياة هي رحلة، وكما في الإلياذة، أن كلّ حياة هي معركة، وأننا جميعًا منفيّون وكادحون.
يسمح لنا، مثل بارتلبي، أن نرفض أن نكون شركاء في بيروقراطية عبثية أو أنظمة ظالمة، ويمنحنا الحق أن نقول علنًا: "أؤثر ألّا أفعل." لكن خطاب هذا الزمن هو نقيض الأدب. لا يحتمل غموضًا، ولا يطرح أسئلة مفتوحة تخلق حوارًا. ينقض مبدأ الكاريتاس، معلنًا لا أهمية الآخر، أو، ما هو أسوأ، إنكار وجوده. يردّد صدى عبارة روما: "يجب تدمير قرطاج." يمارس الإبادة، ويمحو ثقافات تعتبر "غريبة"، ويسجن الكتّاب والفنّانين، ويحرق الكتب.
وكما يعرف أي قارئ، فإن هذا الواقع ليس حكرًا على زمننا. ففي عام 213 قبل الميلاد، أمر الإمبراطور الصيني تشين شي هوانغ بإحراق كتب كونفوشيوس، وأعدم 460 من علماء الكونفوشية حرقًا. وفي عام 1258، أضرم الأمير المغولي هولاكو خان النار في مكتبة بيت الحكمة أثناء حصاره لبغداد. وفي عام 1562، أمر الأسقف الكاثوليكي دييغو دي لاندا بتدمير مدوّنات حضارة المايا في يوكاتان. أما في نيويورك في القرن التاسع عشر، فقد دمّر أنطوني كومستوك، مؤسّس "جمعية مكافحة الرذيلة" عام 1873، نحو خمسة عشر طنًا من الكتب التي اعتبرها فاسدة. وفي عام 1933، جمع النازيون شاحنات محمّلة بالكتب المصنّفة كـ"غير ألمانية"، وألقوها في نيران ساحة بيبيلبلاتس في برلين. وحتى في قرننا هذا، لا تنقصنا أمثلة.
في شباط عام 2025، داهمت الشرطة الإسرائيلية "المكتبة العلميّة" في القدس الشرقية، وهي فضاءٌ معروف الحوار بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يرتاده الدبلوماسيون الأجانب، والكتّاب الزائرون، والقرّاء اليوميون. وقد تم وضع بائعَي الكتب، محمود منى وأحمد منى، قيد الإقامة الجبرية، ومُنعا من العودة إلى مكتبتهم لمدة خمسة عشر يومًا. سواء كانت مكتبة أو محلّ كتب، فإنّ الاعتداء على مكانٍ يحتضن الكلمة المكتوبة هو جريمة ضد الإنسانية، ويُضاف إلى القائمة الطويلة والمؤسفة من أعمال العنف المرتكبة ضد الكلمة.
ومع ذلك، لا تحدث هذه الأفعال في الظل. ثمة دائمًا من يشهد عليها، وسيتقدّم في النهاية "ملائكة التوثيق" ليشهدوا على هذا الفعل المشين. صوتٌ يرفع نفسه بالاحتجاج، بلاغٌ قانونيّ فردي، مظاهرة شعبية تقف في وجه الجريمة، لافتة شجاعة يرفعها شخص واحد بصمت، كلها دلائل على أن "العالَم الصغير" قادر هو أيضًا على التأثير في حركة "العالَم الكبير" المهيمن.

كما هو الحال مع جماعة "لاميد-فوفنيك" (Lamed-vovniks)، قد لا نعرف يومًا اسم المرأة، ولا ديانتها، ولا جنسيتها، تلك المرأة التي وقفت تتظاهر أمام المكتبة المُداهَمة في القدس، لكن صورة وجودها وحدها تكفي لتؤكّد أن المقاومة، مهما بدت ضئيلة، تظلّ دائمًا خيارًا ممكنًا في وجه الظلم.
إنّ هذه الصورة -صورة المحتجّة- جوهرية، ويجب عرضها أمام جميع القرّاء، ليشاهدوها، وليجدوا فيها ما يكفي من الأمل.
لأنني، بدافعٍ من الخرافة أو الإيمان الرمزي، أؤمن أن الأشياء الصغيرة -كفردٍ واحد يقف في وجه الطغيان- يمكن أن تتحوّل إلى رمز، إلى مجاز، إلى شارةٍ مرفوعة في وجه الموجة الجارفة من الدمار التي تهبّ على العالم من جديد.
علينا أن نتذكّر أن النصف الأيسر من أدمغتنا، وإن كان مهووسًا بالتفاصيل ومصبّ اهتمامه اصطياد الغنيمة، إلا أنه يستطيع أيضًا أن يرصد العيوب في النموذج المجتمعي الذي أنشأته أنانيتنا. ومن خلال ذلك، يمكن له أن يساعد الكُلّ- أي ذلك "الكون الكبير" المصاب بجشع لا نهاية له وعنف أعمى- على أن يتعافى مرة أخرى، وأن يوفّر إطارًا أكثر صحة لحياتنا على هذه الأرض.
مثل كلمةٍ مضيئة في كتابٍ ينتظر بصبرٍ على رفوف المكتبة الوطنية الفلسطينية، متربّصة بقارئها الحقيقي، فإن هذه الصورة تُظهر لنا، بدقّة، قوّة الميكروكوزم المتخيَّل حين يعكس الماكروكوزم المنشود، المتخيَّل أيضًا، الذي يحتويه.