لم تكن تظاهرة أفلام الثورة السورية التي أعلنت عنها وزارة الثقافة السورية واستكملتها المؤسسة العامة للسينما في دور السينما المتوزعة على المدن السورية، مجرد احتفال فني، بل فعل استعادة للزمن والذاكرة بعد عقودٍ من الصمت القسري والاحتكار لصالح جهاز مخابرات نظام الأسد الذي طمس معالم السينما الحرة . فأن يُعرض فيلم في دمشق أو درعا أو إدلب بعد ديسمبر 2024، لا يعني فقط عودة الحياة إلى الصالات، بل عودة الخيال الجماعي إلى المشهد السوري نفسه؛ إذ إنها المرة الأولى منذ نصف قرن تقريبًا التي يلتقي فيها السينمائيون السوريون دون أن يمرّوا عبر بوابة الرقابة، أو أن ينتظروا موافقة من مؤسسة عامة للسينما كانت يومًا ذراعًا ثقافية للأمن لا للفن.
تحوّلت الكاميرا التي كانت تُراقَب إلى عينٍ تراقب، وتكتب تاريخًا جديدًا بالصورة لا بالبيان. لم تكن تظاهرة أفلام الثورة السورية حدثًا ثقافيًا عابرًا، بل إعلانًا رمزيًا عن ولادة وعي بصري جديد في بلدٍ يحاول أن يرى نفسه خارج المرايا القديمة التي صاغتها السلطة لعقود، إذ شكّلت العروض مناخاً ثقافيًا ثوريًا مجتمعيًا جديدًا على البلاد أكثر من مجرد أعمال سينمائية؛ وكانت شهادات بصرية على جرح جماعي، لم يصدّق مخرجوها أنهم اليوم على أرض سوريا وقصصهم وعدساتهم عادة إلى دمشق بعد أن جابت شاشات المنافي؛ في محاولة لجعل الصورة أداة مساءلة للتاريخ والسياسة والذات.
هذه السينما التي وُلدت من رحم الألم لا من مؤسسات الدولة، تمثل فعل مقاومة رمزية ضد النسيان، وسعيًا لبناء سردية سورية جديدة تُروى من الداخل.؛ فإقامة التظاهرة في دار الأوبرا وصالات الكندي والساحات الرئيسية في المدن السورية والمتاحف القديمة حملت دلالة على إعادة بناء الجغرافيا الثقافية للبلاد، وكسر المركزية التي طالما اختزلت الثقافة في العاصمة. ومع توسيع العروض إلى محافظات أخرى، تحولت السينما من نشاط نخبوي إلى حركة اجتماعية وفكرية. يمكن القول اليوم إن التظاهرة عن تحوّل جوهري في معنى الفن نفسه، إذ انتقلت من وسيلة للهروب إلى أداة للمواجهة وإعادة التشكيل، ومن صناعة خاضعة للمؤسسة إلى مشروع وطني مستقل يعيد تعريفها. هكذا تبدو السينما اليوم امتدادًا للثورة ومشروعًا لاستعادة الذات السورية التي خرجت من بين الركام وهي تحمل الكاميرا بدل البندقية، وتبحث في الضوء عن معنى جديد للحياة والحرية.
السينما تحت القبضة الأمنية
قبل سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، كانت السينما السورية أداة من أدوات السلطة وليست فضاءً حرًّا للإبداع؛ فمنذ تأسيس المؤسسة العامة للسينما في الستينيات، تحولت إلى جهازٍ بيروقراطي يخدم رواية النظام عن فكرة الوطن المستقر والقيادة الراعية للفنون والثقافة، فصارت الكاميرا تعيد إنتاج الواقع كما تريده السلطة لا كما هو. كانت الشاشة تعكس صورة الفلاح السعيد والجندي المثالي و العائلة السعيدة رغم "الحصار الاقتصادي المفروض من قوى الامبريالية"، بينما تُقصي من الذاكرة القرى المدمّرة والمعتقلين والمنافي.
أما المخرجون الذين حاولوا التمرّد، فقد لجأوا إلى الرمز والمجاز لتجنّب الاصطدام المباشر بالرقابة، في حين أصبحت المهرجانات وسيلة لتكريس الولاء بدل مكافأة الإبداع؛ إذ كان التمويل مضمونًا، لكن الحرية معدومة؛ والإنتاج محسوبًا، لكن الروح غائبة. حتى التجارب الجريئة التي سُمح بها كانت تُقدَّم كواجهة تجميلية أمام الخارج لا كتحوّل حقيقي. وهكذا بقيت السينما، حتى ديسمبر 2024، حبيسة البروباغندا، تُنتج وهم الاستقرار بينما يغلي الواقع تحت السطح؛ مرآة مكسورة لوطن محجوب، ينتظر عدسة جديدة تعيد ترتيب الضوء.
في المجمل، كانت السينما السورية الرسمية أداةً لتثبيت سردية الأسد السياسية أكثر مما كانت مساحةً فنية حرة إذ تحوّلت الشاشة إلى منبرٍ دعائي يُعيد إنتاج صورة النظام كمنقذٍ ومخلّص، ويحوّل الحرب إلى ملحمة بطولية يختفي فيها الإنسان العادي ليحلّ مكانه الجندي المخلّص والقائد الحامي؛ من أمثال عصام زهر الدين وسهيل الحسن وغيرهم. كانت الأفلام تُنتَج داخل المؤسسة العامة للسينما وتُعرض بتوجيه رسمي، لتكرّس خطاب "الدولة المنتصرة على الإرهاب"، وتعيد صياغة الذاكرة الجمعية من منظور السلطة وحدها. من أبرز تلك الأعمال فيلم "أبطال الحامية" الذي يوثّق حصار دير الزور بوصفه ملحمة وطنية للجيش العربي السوري. ركّز الفيلم على "بطولات الجنود" في مواجهة "قوى الإرهاب"، وعلى "تعاون المواطنين" مع الجيش، في محاولة لتجسيد صورة الانسجام بين الشعب والقيادة. كما أبرز الفيلم "الأهمية الاستراتيجية لمطار دير الزور العسكري" واعتبر صموده رمزًا لإرادة الدولة في استعادة كل شبر من الأرض السورية.
أما فيلم " رجل الثورة" فقد قدّم سردية معاكسة تمامًا للواقع الصحفي، إذ صوّر الصحفي الأجنبي بوصفه شريكًا للجماعات المسلحة، مستغلًا الحرب لتحقيق طموحاته الشخصية، في محاولة لتقويض مصداقية الصحافة العالمية وتبرير رواية النظام عن "تآمر الإعلام الخارجي". في المقابل، حاول فيلم "الاعتراف" أن يقدّم معالجة درامية تبدو أكثر "إنسانية"، لكنها بقيت في حدود السرد الرسمي ذاته، إذ ربط بين ما يسميه النظام الأسدي وموالوه "الأزمة السورية" و"الإرهاب"، وتناول جوانب المعيشة والأزمة الاقتصادية من منظورٍ بطولي يركّز على قدرة السوريين برعاية الدولة على الصمود والتصدي ومقاومة التحديات. أما فيلم "ردّ القضاء" فقد أعاد صياغة أحداث سجن حلب بطريقة بطولية خالصة، تُظهر فكرة "نضال الجيش" في مواجهة "قوى الشر"، لينتهي بمشهد فك الحصار بوصفه نصرًا عسكريًا ومعنويًا للدولة.
تلك الأفلام، مجتمعة، شكّلت الوجه السينمائي للبروباغندا في السنوات الأخيرة من حكم الأسد، إذ أُنتجت بلغة تمجّد الجيش والقيادة وتُفرغ المأساة من بعدها الإنساني؛ وكانت تُعيد تدوير الحدث السوري داخل قوالب بطولية جاهزة، حيث تتحوّل الحرب إلى استعراضٍ للوفاء الوطني، والموت إلى واجبٍ مقدّس، والدمار إلى خلفية درامية تُستخدم لتلميع صورة النظام. كانت تلك السينما، في جوهرها، سينما الإنكار، تُخفي الجرح تحت لافتة الانتصار، وتُنتج الوهم بدل الحقيقة، حتى جاء سقوط النظام ليكشف أن الصورة الرسمية لم تكن سوى مرآة مشروخة لواقعٍ مُغَيَّب.
ولادة السينما الحرة
مع سقوط نظام الأسد، لم ينهَر جهاز سياسي فحسب، بل سقطت معه أثقل القيود الرمزية في التاريخ الثقافي السوري المتمثلة بقبضة الدولة على الصورة والمهد واللغة والخطاب؛ فقد تهاوت منظومة الإنتاج المركزي التي احتكرت لسنوات الكاميرا والتمويل والمهرجانات، ليتفجّر فجأة فضاء جديد عنوانه البسيط والمعبّر "كلّ السوريون يصوّرون". هنا، تحولت الكاميرا من أداة مراقبة إلى أداة تحرّر، ومن وسيلة للتزييف إلى وسيلة للنجاة؛ ففي سوريا المحرّرة من شوالها حتى جنوبها، خرج المخرجون من صمتهم الطويل إلى العلن، وعاد من عاد من المنافي ولم ينتظروا تصاريح أو موافقات أو لجان رقابة؛ وكانوا يعرفون أن الثورة لا تحتاج إلى ترخيص كي تُصوَّر. تحوّلت البيوت إلى استوديوهات صغيرة، والشوارع إلى مواقع تصوير، والساحات إلى شاشات عرض مؤقتة، في مشهدٍ استعاد المعنى الأول للسينما على أن تكون في قلب الحياة، لا على هامشها. لم يعد الفيلم يُصنع داخل الجدران الرسمية والأمنية، بل في الهواء الطلق، بين الناس، حيث تُكتب الحكاية وتُروى في اللحظة نفسها؛ وحتى الأفلام التي صوّرت أثناء الثورة السورية وشاركت في مهرجانات عالمية ، عادت اليوم بلا رقابة وبلا محظور إلى الأرض السورية، صاحبتها.
تحولات الثيمات
بعد سقوط النظام، لم تعد السينما السورية تكتب عن "الوطن" كما أرادته السلطة، بل عن الناس الذين صنعوا الوطن الحقيقي بأجسادهم وذاكرتهم وموتهم اليومي؛ وتحوّل الوعي السينمائي من تمجيد البطولة إلى تأمل الهشاشة؛ ومن تصوير "المقاتل المثالي" إلى ملاحقة وجوه النساء الحرائر الثائرات والمعذبات خلال 14 عام من التنكيل، والناجين، والمهاجرين، وأطفال المخيمات الذين صاروا الأبطال الجدد للواقع السوري. في هذه الأفلام، لم تعد البطولة في حمل السلاح، بل في النجاة، والبقاء، والقدرة على الحلم، والكتابة من داخل الألم.
يبدو أن السينما السورية الجديدة بدأت تتخلى عن خطاب الانتصار والخلاص الجمعي، لتدخل زمنًا إنسانيًا مفتوحًا على الأسئلة والمتابعة؛ إذ إن الثورة، في هذه المرحلة، لم تعد حدثًا سياسيًا، بل ذاكرة شخصية وجماعية، تمتزج فيها السيرة الفردية بالحكاية الوطنية، والحقيقة بالتأمل، واليومي بالأسطوري. رموز مثل البحر، والنافذة، والضوء، والحدود تكررت في أغلب الأعمال كاستعارات بصرية للبحث عن الأفق المفقود؛ والحرية التي تلوح من بعيد ولا تُمسك. هنا يمتزج الوثائقي بالروائي في أسلوب هجين يكسر حدود النوع السينمائي نفسه، لأن الواقع السوري بات بدوره واقعًا هجينًا؛ على اعتبار أنه لا بداية له ولا نهاية، بل حياة معلّقة بين زمن ما قبل السقوط وما بعده، بين الذاكرة والصدمة، بين الفقد وإعادة التكوين.
هذا الأسلوب الجديد لم يكن خيارًا فنيًا فحسب، بل ضرورة وجودية لأي مخرج، لأن أي محاولة اخراجية لتقسيم العالم إلى "حقيقي" و"تمثيلي" أصبحت بلا معنى في بلدٍ يعيش على خط التماس بين الحياة والمجاز.
توزّعت العروض في معظم المحافظات السورية بين صالات دراما، وسينما الكندي في دمشق ودمر، والمتحف الوطني، ومدينة المعارض القديمة في العاصمة دمشق، وفي المراكز الثقافية والسينمائية في المدن خارج العاصمة؛ في توزيع جغرافي رمزي يعكس عودة الحياة الثقافية إلى الفضاء العام ورغبة المنظمين في كسر المركزية الثقافية القديمة التي كانت تحصر الفعل الفني في العاصمة.
تنوّعت الأفلام المشاركة بين الروائي والوثائقي، بين الإنساني والسياسي، بين التجريب والذاكرة، فكان فيلم الافتتاح "نزوح" للمخرجة سؤدد كعدان (103 دقائق) أقرب إلى مرثية للبيت السوري المهدّم وللطفولة المعلّقة في زمن الحرب، بينما قدّمت أفلام مثل "إلى سما" و"هذا البحر لي" و"العودة إلى حمص" ثلاثية بصرية عن الذاكرة والنجاة والأمل، صنعتها كاميرات لا تبحث عن البطولة، بل عن المعنى. في المقابل، برزت أعمال ذات بعد وطني مباشر مثل "قضية الغرباء" و"سوريا نشيد الأحرار" و"حلم الطفولة"، وأخرى تجريبية مثل "لبن المسِّيج" و"فقدان" و"سكيت الرجل القوي" التي تكشف كيف يحاول المخرجون الشباب قراءة الذات السورية من الداخل باستخدام أدوات جديدة في السرد والتصوير والمونتاج.
بهذا الشكل، لم تكن التظاهرة مجرد مهرجان أفلام، بل تجسيدًا لثورة جمالية وفكرية تتجاوز الشاشات إلى معنى أوسع: أن تتحوّل السينما من أداة دعاية إلى أداة معرفة، ومن خطاب سلطوي إلى تجربة إنسانية حرة؛ إذ إنها اللحظة التي اكتشفت فيها السينما السورية أن الضعف نفسه يمكن أن يكون قوة، وأن الهشاشة، حين تُروى بصدق، قد تصبح شكلًا جديدًا من البطولة.
قبل عام 2024، كانت الجغرافيا السورية خريطة من المحظورات أكثر منها وطنًا. المحافظات كانت مناطق مغلقة، والطرق بين المدن نقاط تفتيش طويلة، والعدسة لا تتحرك إلا بإذن أمني يحدّد ما يُصوَّر وما يُمحى؛ فكانت الكاميرا تُعامل كتهديد، والمخرج كمتسلّل محتمل، والشارع كمشهدٍ ممنوع من الظهور. لكن اليوم انفتح الفضاء السوري على نفسه، وتحوّلت الحدود الداخلية إلى جسور رمزية بين المخرجين والمصورين، وصارت الكاميرا تمرّ بحرية من إدلب إلى درعا، كأنها تستعيد جسد البلاد الممزّق بالضوء. أُنتجت أفلام مشتركة بين مناطق كانت حتى الأمس القريب تفصلها المتاريس، وكأن السينما أعادت توحيد ما فرّقته الحرب، ليس بالسياسة، بل بالصورة.
هذا التحرّر في التنقل لم يكن مجرد إنجاز لوجستي، بل تحوّل في المعنى، إذ صار الطريق نفسه جزءًا من الفيلم، والعبور بين المحافظات فعلًا من أفعال الحرية. لم تعد الجغرافيا عائقًا للإبداع، بل موضوعًا له؛ فالطريق التي كانت تمرّ بها الدبابات صارت تمرّ بها الكاميرات، والمواقع التي شهدت القصف تحوّلت إلى فضاءات للعرض والذاكرة. أُعيد افتتاح دور السينما في حلب ودمشق، بمبادرات شبابية وأهلية جمعت متطوعين وفنانين أعادوا تنظيف الصالات القديمة وترميم المقاعد المحترقة. تحوّلت هذه الفضاءات إلى ساحات لقاء حيّة، حيث يجتمع الناس لمشاهدة أفلام صنعتها أياديهم، ويكتشفون أن الشاشة لم تعد منبرًا للدعاية، بل ساحة للحوار والمصالحة. في هذا المشهد الجديد، لم تعد السينما تملك جدرانها، بل تملك فضاءها؛ وأصبحت البلاد كلّها موقع تصوير واحد، يمتد من البحر إلى الصحراء، من الحارة إلى الساحة، من الحلم إلى الذاكرة. وهكذا صارت حرية التنقل في الجغرافيا امتدادًا طبيعيًا لحرية الرؤية في الصورة؛ فكلاهما يعيدان للبلاد معناها الحقيقي: أن تكون مفتوحة، وأن تُرى.
حوار مع مخرج "هذا البحر لي"
في زاوية مهمة من التظاهرة، كان للمخرج السوري محمود حسن رؤية خاصة حول عودة السينما السورية للسوريين ولواقعهم المعاش؛ إذ أنه يرى من المبكر الحديث عن "سينما سورية" بالمعنى الشامل، فوجود أفلام سورية لا يعني بالضرورة وجود سينما ذات هوية متكاملة. الهوية السينمائية تحتاج إلى تراكم سياقات إنتاجية وفكرية وثقافية متصلة، وهو ما غاب طويلًا بفعل النظام الأسدي الذي تمسّك بالفيلم كمنتج، وجرّد السينما من معناها كحالة وسياق وهوية. ومن وجهة نظره، فالسوريين، جمهورًا وصنّاعًا، مازالوا يسعون للانتقال من تجربة "الفيلم السوري" إلى فضاء "السينما السورية"، مستندين إلى مكتسب الحرية لإعادة تعريف المفاهيم الأصيلة لهذه الصناعة، من المنتج إلى التجريب. هذه التظاهرة السينمائية قد تكون الشرارة الأولى لتحرير الفن من عقلية النظام القديمة، ولفتح النقاش حول سؤال الهوية والموقع والدور؛ فيحتفل السوريون بالتحرر، لكنهم يدركون في الوقت ذاته حجم المسؤولية الملقاة عليهم لإعادة صياغة علاقتهم بكل ما يحيط بهم من فضاءات. فالتحرر الحقيقي يبدأ من طرح الأسئلة الصحيحة: كيف يمكن للسينما أن تعبر عن الحرية دون أن تكون خطابًا سياسيًا؟ كيف تستعيد ذاكرتها وجمهورها بوقار، دون وصاية فكرية؟ إنه حلم مؤجل، لكنه لن يتحقق ما لم يتحرر من أدوات الاستبداد، ويبتكر لغته وخطابه الجديد.
وبصفته مهاجرًا ولاجئًا، حمل معه، كما كثير من السوريين ، صورة سوريا التي يتمناها، لا تلك التي تركها وراءه؛ كان يدرك أنه إن ترك ذاكرته تغرق في وحل الوحشية الأسدية فسيخسر ذاته، لذلك تمسّك بما هو جميل في الإنسان السوري، ذاك الرافض لدور البطل والمُكره على دور الضحية. بالنسبة له، سوريا ليست حجارة ولا مدنًا مصطنعة، بل الإنسان السوري بكل تناقضاته ومزاياه وخيباته. من وجهة نظره، فإن الصراع في جوهره ليس سياسيًا فحسب، بل نفسيًا يعتمل داخل الشخصية السورية نفسها. ومن هذا المنطلق، تصبح السينما فعل تأمل في الذاكرة لا أداة أيديولوجية، دورها أن تكشف الإنسان لا أن تحاكمه. فالأفلام العظيمة، كما يؤمن، هي تلك التي تمنحنا في كل مشاهدة قراءة جديدة للذاكرة ولذواتنا.
يرى حسن أن السينما فعل فني وأخلاقي تراكمي، لا يمكن فصلها عن الاشتباك المجتمعي والسياسي في سوريا؛ ويعتبر أن إطلاق المؤسسة العامة للسينما لهذه التظاهرة يمثل خطوة أولى نحو إعادة وصل ما انقطع بين المؤسسة والمجتمع، بعد عقودٍ من القطيعة التي جعلتها كيانًا سلطويًا منفصلًا عن الناس، اختزلت الفن في مهرجانات شكلية واحتفالات برجوازية.
اليوم، ومع استعادة السوريين لهذه المؤسسة، يأمل أن يتحول دورها إلى منصة مفتوحة تدعم التنوع، وتشجع التجريب، وتحرر السينما من الصبغة الحكومية نحو فضاء أوسع من الإبداع والتعدد. فالسينما - كما يؤكد حسن - مشروع جماعي، كبير وصغير، تجاري وفني في آنٍ، وهي قادرة على أن تكون مرآةً لسوريا الجديدة، العطشى إلى الضوء واللغة والفرادة. ويشير إلى أنه لمس هذا التحول بنفسه في تجربته الأولى مع المؤسسة، حيث وجد فيها روحًا إيجابية وسعيًا صادقًا لإحياء الذاكرة البصرية السورية. ويبقى الرهان _برأيه _ على أن يتحد السينمائيون السوريون لخلق مجتمع سينمائي جديد، يحرر الخيال السوري من ثقافة التلفزيون التي كبّلته لعقود، ويمنح الذاكرة الجمعية حقها في أن تُرى وتُروى من جديد.
السينما بوصفها عدالةً بصرية
تُعيد تظاهرة أفلام الثورة السورية تعريف معنى السينما، لا باعتبارها صناعةً أو ترفًا ثقافيًا، بل بوصفها أداةً للعدالة الرمزية؛ فتمنح الذاكرة حقها، وتنصف ما حاول الطغيان محوه من الوعي الجمعي. في بلدٍ نُهب فيه التاريخ واحتُكر فيه السرد، أصبحت الكاميرا محكمةً رمزية تعيد التحقيق في الوقائع، لا لتدين أحدًا، بل لتمنح الشهود حق الكلام، وتعيد توزيع الضوء على من عاشوا طويلًا في الظل. لم تعد السينما السورية مجرّد وسيلة للتعبير، بل مسارًا لإعادة بناء الوعي الوطني وصياغة هوية بلدٍ يبحث عن صورته خارج الأرشيف الرسمي الذي شوّه ملامحه لعقود؛ فكل فيلم يولد اليوم هو محاولة لرسم ملامح وطنٍ جديد لا يُختزل في الخريطة السياسية، بل في ذاكرة الناجين وشهاداتهم التي تملأ الشاشات الصغيرة قبل الكبيرة.
وربما لا تملك هذه السينما استوديوهات ضخمة أو مؤسسات إنتاج مستقرة، لكنها تملك ما لم تملكه من قبل: الحرية. حرية النظر بلا إذن، وحرية السؤال بلا خوف، وحرية تحويل الجرح إلى جمال، والمأساة إلى معرفة. ومن رحم هذه الحرية تولد ملامح ما يمكننا تسميته بـ"السينما السورية الثانية" أو سينما ما بعد الدولة الأسدية المخابراتية، وسينما ما بعد الخوف، وما بعد الكذب؛ سينما لا تبحث عن الشرعية في المهرجانات أو المؤسسات، بل في صدق التجربة وعمق الشهادة، وتنتمي إلى الناس الذين تصوّر بيوتهم المهدّمة وأحلامهم المؤجلة وذاكرتهم التي قاومت الإبادة.
لقد أثبت المخرجون السوريون خلال الثورة وما بعدها أن السينما ليست ترفًا، بل فعل مقاومة؛ فمن كاميرات الهواتف إلى العدسات الاحترافية، وثّقوا المجازر والمخيمات ورحلات اللجوء والاغتراب والأمل والألم وأيام التحرير وحياة ما بعد الحرب، فتحوّلوا إلى مؤرّخين للضوء، يكتبون تاريخًا بصريًا لبلادٍ غابت عنها مؤسسات الدولة والإعلام الرسمي؛ فأصبحت هذه الأفلام وثائق زمنية تحفظ مشاهد لم تعد موجودة إلا في الذاكرة، وتُقدَّم بوصفها شهاداتٍ إنسانية لا يمكن محوها من التاريخ. هؤلاء المخرجون لا يصنعون سينما عن الثورة ، بل سينما هي الثورة نفسها، وسينما تُمارس العدالة البصرية بفتح العيون لا بإصدار الأحكام، وتُعيد لسوريا وجهها الإنساني المفقود، لتكتب تاريخها من جديد لا بالحبر، بل بالضوء
