الحياة تحت الرأسمالية هي تجربة رعب، ولا يوجد دليل أفضل عليها من كارل ماركس

قراءة ماركس في الهالوين (ترجمة)

"The Nightmare" (1781) – Henry Fuseli

01/11/2025

تصوير: اسماء الغول

رمان الثقافية

مجلة ثقافية فلسطينية

رمان الثقافية

كتبها مارك ستيفن ونشرتها "جاكوبين" في ٣١/١٠/٢٠٢٥.

كما هو حال الخصم الذي يبدو كلي القدرة في أي فيلم رعب، فإن الرأسمالية ليست مرعبة فحسب، بل إن رعبها يكمن أيضاً في استحالة إيقافها.
يقول كريس هارمن في كتابه عن "الرأسمالية الزومبية":

إعلان

«إن العالم المنفلت هو النظام الاقتصادي كما وصفه ماركس، إنه وحش فرانكشتاين الذي أفلت من سيطرة الإنسان، إنه مصاص الدماء الذي يمتص دماء الأجساد الحيّة التي يتغذى عليها».

وهذا التشخيص يدعونا إلى السؤال الكبير: كيف نتموضع سياسياً داخل دينامية اجتماعية جوهرها الرعب ذاته؟
هذا سؤال تناوله كارل ماركس نفسه، إذ تغمر كتاباته الصور والمجازات المستمدة من القوطيّات (Gothic)، وهو سؤال يستحق أن نعيد طرحه في مناسبة عيد الهالوين.

إعلان

يقول ماركس:

«إن رأس المال هو عمل ميت، لا يعيش إلا بامتصاص العمل الحي كما يفعل مصاص الدماء، ويعيش أكثر كلما امتص عملاً أكثر. الزمن الذي يعمل فيه العامل هو الزمن الذي يستهلك فيه الرأسمالي قوة العمل التي اشتراها منه».

أو كما يكتب في صياغة أكثر فظاعة:

«إن رأس المال الممنوح مقابل قوة العمل يتحول إلى حاجات ضرورية، من خلال استهلاكها يُعاد إنتاج عضلات وأعصاب وعظام وأدمغة العمال الموجودين، ويُنجَب عمال جدد».

هاتان الجملتان، المأخوذتان من الكتاب الوحيد الذي أنجز ماركس نشره بنفسه، تبدوان أقرب إلى أسلوب ماري شيلي منه إلى عمل في الاقتصاد السياسي، إذ تستحضر مصاصي الدماء والوحوش غير الميتة والأجساد الممزقة.

وقد قُرئ كل من «دراكولا» و«فرانكشتاين» على أنهما روايتان عن الرأسمالية.
فمصاص الدماء هو، بطبيعة الحال، رأسماليّ مهووس بالتوسع الإمبريالي:

«كان على وجهه المنتفخ ابتسامة ساخرة كادت تفقدني صوابي. هذا هو الكائن الذي أساعده على الانتقال إلى لندن، حيث قد يُشبع، بين ملايينها المتدفقة، شهوته للدم عبر قرون مقبلة، ويخلق دائرة متسعة أبداً من أنصاف الشياطين الذين يتغذّون على العاجزين. لقد جنّ جنوني لمجرد التفكير بالأمر. سيطرت عليّ رغبة مرعبة في تخليص العالم من هذا الوحش».

أما وحش فرانكشتاين فهو، على العكس، تجسيد زومبيّ للانتقام البروليتاري:

«كان الجميع، ما عداي، ينعمون بالراحة أو بالمتعة؛ وأنا، كالشيطان الأكبر، كنت أحمل جحيماً في داخلي، وإذ وجدت نفسي بلا تعاطف من أحد، رغبت في اقتلاع الأشجار، ونشر الخراب والدمار حولي، ثم الجلوس للاستمتاع بالخراب».

لكن، بخلاف روايات ستوكر وشيلي، فإن تصوير ماركس للرأسمالية ليس مجرد عمل قوطي، بل هو استباق مبكّر لسينما الرعب الحديثة.
وإن كانت هذه الصور تفتقر إلى الحس الأخلاقي الذي شاركه روائيو القرن التاسع عشر، فإنها تعوّض ذلك بعقلانية باردة.

إن رعب ماركس مطلق ولا فكاك منه. فعندما يؤكد أن الرأسمالية هي نمط الإنتاج الذي «يقطر من رأسه حتى قدميه، من كل مسامه، دماً وقذارة»، فإنه يلتزم، ككاتب موهوب وأستاذ في الأسلوب، بتجسيد هذا الرعب تحديداً.

وفي موضع آخر من "رأس المال"، حين تعود صورة مصاص الدماء، ينتقل التركيز من المفترس البرجوازي إلى العامل المستغَلّ، وتحديداً إلى جسده الممحُوّ:

«يجب الاعتراف بأن عاملنا يخرج من عملية الإنتاج على غير الصورة التي دخل بها. ففي السوق وقف مالكاً لسلعته "قوة العمل" وجهاً لوجه أمام مالكي السلع الآخرين، تاجر في مقابل تاجر. والعقد الذي باع به للرأسمالي قوة عمله أثبت، بالأسود على الأبيض، أنه تصرّف بحرية في نفسه. لكن ما إن أُبرم الاتفاق حتى اكتُشف أنه لم يكن "عاملاً حرّاً"، وأن الزمن الذي هو حرّ في بيع قوة عمله خلاله، هو نفسه الزمن الذي يُجبر على بيعها فيه، وأن مصاص الدماء لن يتركه "ما دام في جسده عضلة أو عصب أو قطرة دم يمكن استغلالها"».

يظهر مصاص الدماء متأخراً دائماً، بعد فوات الأوان، حين يتضح أن واجهة القوانين والعقود ليست سوى ميثاق فاوستيّ شرير لا مفر منه إلا بموت أحد الطرفين.

ومن المهم أسلوبياً أن نلاحظ أن الاقتباس الأخير يعود إلى فريدريك إنجلز، إذ يؤكد اقتباسه أن جوهر رأس المال العضويّ هو ذاته دم العامل المسلوب، لبّه الحيّ.

ومع أن ماركس كثيراً ما يستخدم صوراً قوطيّة واضحة - من مصاصي الدماء إلى المستذئبين والأشباح والحفّارين، فإننا نرى هنا أن وصفه لرأس المال يكتسب ذوقاً في أحشاء الإنسان نفسها، إذ تمضغ جمله الأنسجة والعظام:

«يمكن القول إن القيمة الفائضة تقوم على أساس طبيعي، لكن هذا جائز فقط بالمعنى العام جداً، أي أنه لا يوجد عائق طبيعي مطلق يمنع إنساناً من أن يُلقي عبء العمل الضروري لوجوده على غيره، تماماً كما لا توجد عوائق طبيعية لا يمكن تجاوزها تمنع إنساناً من أكل لحم إنسان آخر».

اللوحة كاملة.

إذ يعلم ماركس أن التراكم الرأسمالي جريمة أقرب ما تكون إلى أكل لحوم البشر.
ففي علاقة الأجر لا نكون ذواتاً بشرية بل طاقات للعمل فقط، ما يعني أننا نقدّم أعضاءنا العضلية والعصبية والدماغية للخدمة، ونستهلك أعضاء أصدقائنا وأقاربنا بل وأناساً لا نعرفهم.

إن هذه الأوصاف القوطية ليست للزينة فحسب، بل تمسّ جوهر الحياة تحت الرأسمالية.
إنها تذكّرنا كيف تُشوّه الأجساد والعقول لتُصبح سلعاً.
حرفياً، يمكننا أن نفكر في التشوّهات والإصابات والوفيات الناتجة عن ظروف العمل الشاقة في كل مستوى من مستويات الصناعة الرأسمالية، من الصدمات العصبية إلى النوبات القلبية، وصولاً إلى الكسور والأطراف المبتورة والموت الجماعي.
ومجازياً، فإن كل دقيقة وساعة نقضيها في العمل المأجور هي دقيقة وساعة تُربط فيها أجسادنا بآلة ضخمة لا تحيا إلا بتصريف جوهر حياتنا.

الحياة تحت الرأسمالية هي تجربة الرعب بعينها - تمييعٌ لا رجعة فيه للجوهر الإنساني واستهلاكٌ نَهِم للموتى.
وكما في مصير ضحايا أفلام الرعب، الذين تُباد أجسادهم حتى يصعب التعرف عليها وغالباً ما تُلتهم من قبل بشرٍ آخرين، فإن عملنا حين يخضع لقيمة التبادل يصبح تحوّله نهائياً لا رجعة فيه.
يقول الشاعر كيستون سذرلاند في مقال مقزّز ببراعة عن مصطلحات ماركس:

«كل ما هو لحم يذوب في العظم، والعكس صحيح؛ ولا جهد من الفحص أو الإرادة أو الخيال الأخلاقي، مهما بلغ تحليله أو عمقه، قادر على عكس العملية الصناعية لذلك التحلّل».

ويمكن تلخيص الدرس هكذا: نحن جميعاً نعيش في القصة المرعبة نفسها، ويجب أن يثير ذلك فينا أقصى درجات الاشمئزاز.
لكن، حتى إن كنا لا نستطيع التراجع عمّا حدث، فقد يكون هذا الاشمئزاز نفسه حافزاً على الثورة.
وربما هذا ما كان ماركس يحاول أن يعلّمنا إياه طوال الوقت من خلال نسخته الفريدة من رعب القوطية.

هوامش

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع