رحل عن عالمنا أمس المفكر صادق جلال العظم بعدما قضى أيامه الأخيرة في أحد مشافي برلين. بفقدانه الموجع سيخسر الفكر العربي، أحد أبرز ممثليه. كيف لا وهو ذو العقل الفلسفي الجسور والضمير الأخلاقي الحي، الذي أمضى جلّ عمره أستاذًا جامعيًا، مدرسًا للفلسفة في جامعات عربية وعالمية كثيرة، والذي يُعدُّ أنموذجًا للمثقف السوري الحر. فقد تحلى منذ مطالع شبابه بالجرأة، وثار على المألوف والسائد، ولم يهادن سلطة البعث التي حكمت – ومازالت تحكم – سورية على مدار خمسة عقود، وشكل علامة فارقة في الثقافة العربية، وفي تنمية الثقافة النقدية، والتأسيس لثورة فكرية في الوطن العربي لاسيما في المشرق منه، والذي أعطى موقفًا صريحًا وواضحًا من الربيع العربي عمومًا، والثورة السورية على الخصوص منذ البدايات، دون اشتراط أو تلعثم، فلا ادّعاءات نخبويّة، ولا تقسيم للمجتمع إلى “نخبة” و”عامة”، كما اعتاد مثقفو جيله على الفعل.
والعظم، بلا شك من أهمّ مفكري التنوير والعلمانية والتمدن والحداثة والمقاربة النقدية للتراث في وطننا العربي، منذ أن ألقى في العام 1969 حجَرًا ضخمًا في بركة “فكر” العرب والمسلمين الساكنة، حين أصدر كتابه “نقد الفكر الديني”، الذي هز كيان الأوساط الثقافية والدينية والجامعية، وأحاله الى المحاكمات فسُجن ثم بُرّئ، وأثار ردود أفعال ساخنة متباينة في أوساط الشباب العربي سنتذاك.
ورغم كل الصعاب التي واجهها في حياته وفي مسيرته العلمية، فقد واصل العظم رحلته المتمردة بفكره النقدي التنويري، وكتاباته وأطروحاته اللاتقليدية لقضايا فكرية وثقافية وسياسية واجتماعية في مجتمع ذي حساسية بالغة تجاه الدين والدولة، والتي بدأها منذ أواخر ستينات القرن الماضي.
“النقد الذاتي بعد الهزيمة”، و”نقد الفكر الديني”، و”ذهنية التحريم”، و”دفاعًا عن المادّية والتاريخ”، إنها عناوين بعض كتب صادق جلال العظم، الذي اعتاد إثارة الجدال والنقاش حول مواقفه والأسئلة الإشكالية التي يثيرها بطرقه أبوابًا محظورة في عالم الفكر والثقافة والاجتماع والسياسة
الواقع السوري الراهن و“العلوية السياسية“
“النقد الذاتي بعد الهزيمة”، و”نقد الفكر الديني”، و”ذهنية التحريم”، و”دفاعًا عن المادّية والتاريخ”، إنها عناوين بعض كتب صادق جلال العظم، الذي اعتاد إثارة الجدال والنقاش حول مواقفه والأسئلة الإشكالية التي يثيرها بطرقه أبوابًا محظورة في عالم الفكر والثقافة والاجتماع والسياسة.
ولقد أثارت مقولته وطروحاته حول “العلوية السياسية” جدالًا واسعًا ونقاشًا صاخبًا، خاصة بين النخب السياسية الفكرية السورية وبالدرجة الأولى المعارضة منها. إلا أنه واجه كل هذا الجدال والنقاش بحكمة وعقلانية، فنراه يقول في حوار أجرته معه محطة (DW عربية) الألمانية في آب/أغسطس من العام الماضي، “أرحب بالنقاش الواسع والجدال الصاخب اللذين نتجا عن مقولة (العلوية السياسية). إن فتح باب النقاش والسجال حول هذه المسائل على مصراعيه ضروري ومفيد للثورة السورية ولسورية عمومًا. فالغرض من طرحها هو التقاط جانب هام وحاسم من الواقع السوري الراهن على مستوى التجريد الذهني. هذا مطلوب لأني لاحظت أن المناقشات العلنية للثورة السورية تأبى التطرق إلى مشكلات الطائفية والمذهبية والإثنية والأكثرية والأقلية، خوفًا من صب الزيت على النار. في حين أن أحاديث الجلسات الخاصة والمناقشات المغلقة لا تدور إلا حول هذه المواضيع”. وتابع قائلًا: “أما الواقع المطلوب التقاطه فيمكن تحديده عبر التجربة الذهنية التالية: هل بإمكانك أن تتصور سيادة الوضع التالي في مصر: رئيس الجمهورية قبطي إلى الأبد، قائد الجيش قبطي إلى الأبد، أُمراء ضباط القوات المسلحة في غالبيتهم أقباط وإلى الأبد، رؤساء الفروع الأمنية والشرطة وقوات حفظ النظام أقباط كلهم وإلى الأبد، المناصب الحساسة والعليا وصاحبة القرار في مفاصل الدولة كلها بيد نخب من الأقلية القبطية؟ هل بإمكانك أن تتصور كذلك، احتكار هذه المناصب والوظائف كلها في تركيا مثلًا من جانب نخب كردية أو علوية حصرًا وإلى الأبد؟ هذا الوضع غير القابل للتصور في مصر وتركيا هو القائم في سورية منذ عقود طويلة. هذا هو المعنى الأول للعلوية السياسية وهذا هو السبب في استحالة استمرارها مهما كرر رموزها عبارة (إلى الأبد) وحاولوا تكريس طقوسها”.
انشغل بالهمّ الفلسطيني ومنعه عرفات من الكتابة
يتحدّر العظم المولود في دمشق عام 1934، من عائلة أرستقراطية دمشقية عريقة ذات جذور عثمانية وفروع تركية. درس الفلسفة في “الجامعة الأميركية” في بيروت، وبعدها تابع دراسته الأكاديمية في “جامعة ييل” الأميركية بأطروحة عن “كانط”. درّس الفلسفة في جامعات عديدة، بدمشق وبيروت وعمّان وهامبورغ وأمستردام وبرنستون. وقد قضى حياته متنقلًا من جبهة فكرية إلى أخرى، وخاض معارك نقدية مختلفة بسبب كتاباته. أثناء عمله أستاذًا في الجامعة الأميركية في بيروت، رفضت الإدارة تجديد عقده سنة 1968، وفُصل بسبب انزعاجها من كتاباته، وتوقيعه عريضة تطالب بانسحاب الجيش الأميركي من فيتنام. بعدها، ذهب إلى عمّان ودرّس في الجامعة الأردنية، لكن سرعان ما وُضع اسمه على قائمة الممنوعين من دخول البلد، ووُضع هو نفسه في أول طائرة متوجهة إلى بيروت، بسبب عمله مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
في بيروت، ازداد انشغال العظم بالهمّ الفلسطيني، فعمل باحثًا في «مركز الأبحاث الفلسطيني» وأصدر كتاب “دراسات نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية”، فأثار غضب القيادة الفلسطينية، وتلقى تهديدات جديّة، وفُصل من «مركز الأبحاث» بأمر من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ومُنع من الكتابة في مجلة “شؤون فلسطينية” إلا أن المفكر الفلسطيني الراحل أنيس صايغ، رئيس التحرير وقتذاك، تدبّر مسألة استمراره في المجلة باسم مستعار. وفي ثمانينيات القرن العشرين، عاد إلى جامعة دمشق أستاذًا في قسم الفلسفة. دُعي للتدريس في “جامعة برنستون” خمس سنوات، وعاد مجددًا للتدريس إلى دمشق، فشغل منصب رئيس قسم الفلسفة في “جامعة دمشق” حتى تقاعده سنة 1999، ليتفرّغ بعدها للكتابة.
صدر للعظم، الذي انتقل إلى ألمانيا بعد بداية الحراك الثوري في سورية، العديد من الأبحاث والكتب، من أبرزها: «النقد الذاتي بعد الهزيمة» 1968؛ «نقد الفكر الديني» 1969؛ «دراسات يسارية حول القضية الفلسطينية» 1970؛ «دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية» 1973؛ «الصهيونية والصراع الطبقي» 1975؛ «سياسة كارتر ومنظرو الحقبة السعودية» 1977؛ «زيارة السادات وبؤس السلام العادل» 1978؛ «الاستشراق والاستشراق معكوسًا» 1981؛ «دفاعًا عن المادّية والتاريخ» 1990؛ «ذهنية التحريم، سلمان رشدي وحقيقة الأدب» 1994. وفي العام 2008 صدر له كتاب بالفرنسية بعنوان «هذه المحرّمات التي تسكننا»، احتوى مقالات ودراسات حديثة، مسبوقة بحوار طويل أجراه الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر، ونشر بالعربية في كتاب بعنوان «حوار بلا ضفاف» عام 1998.
كرّم العظم في أكثر من مناسبة خلال مسيرته، وكان آخرها منحه “معهد غوته” جائزته “ميدالية غوته” للعام 2015، وذلك تقديرًا لأعماله ومساهماته الفكرية ودفاعه عن قيم الديمقراطية وسيادة القانون وحرية الفكر والتعبير وحقوق الإنسان. وقال يومها العظم: “شرف كبير لي، وفخر أكبر أن تكرمني الجمهورية الاتحادية الألمانية بهذا الوسام، وأن تقترب خاتمة فاعليتي في الحياة الثقافية العربية على وقع الاحتفال بتقليدي ميدالية غوته”.