هوامش

ورد أحمر

Bouquet of Flowers، Gustave Courbet، 1862

عدي الزعبي

كاتب من سوريا

والآن؟ هل أزف الوقت كي نتابع ما استفتحناه مع غياث مطر؟ أم سنسعى إلى تعديل جذري على ما نريد، ونفعل، ونأمل؟ أم نعود إلى الماضي لفهمه، إلى التاريخ، بعيونٍ مفتوحة لا تخشى الحق؟ أم نعمل مطمئنين، بكسل وخفّة، لبناء نجرّبه بهدوء؟

للكاتب/ة

ما الذي يجب أن نشعر به؟ ارتباكٌ لا نعرف مصدره. كالقبلة الأولى: أهذا ما يطفئ الشهوة، أم يلهبها؟ كالعودة من جنازة، عندما تدرك أن ما انتهى لم ينته، أو ما لا ينتهي انتهى. كأبوين يقتادان ابنهما الوحيد إلى المدرسة لأول مرة، ويعودان بمزيج من الزهو والشجن: ماذا الآن؟

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

13/12/2024

تصوير: اسماء الغول

عدي الزعبي

كاتب من سوريا

عدي الزعبي

لو استطعتُ أن أقيم 

حيث يقيم إسرافيل، وهو في مقامي،

لربما لم يكن ليغنّي 

لحناً فانياً بكل هذه العذوبة؛ 

ولربما علتْ نغمةٌ أكثر جسارةً من هذه،

عبر قيثارتي في السماء.

                        إدجار آلان بو. إسرافيل

 

بعد أيام قليلة، يشعر المرء براحةٍ وديعة عجيبة. أدندن مع فيروز، "وبنت بتقعُد سِهيانِة، تنطُر تَ يجِيها ضيوف". أعود إلى الحلويات العربية، "المدلوقة" و"الكنافة النابلسية" و"حلاوة الجبن"، رغم تأنيب الضمير والكرش الصغير. ألعب الشطرنج مع ابني، مطيحاً بكل قواعد اللعبة الصارمة، كيفما حلا لنا. أفكر في قراءة ما لم أقرأه: بعض أعمال الجاحظ المعتزلي، الناطق باسم العباسيين لمواجهة الشيعة والأمويين. أقرأ مقالات جون برجر القصيرة عن الرسامين الغربيين، عائداً إلى ديغا، رسّامي المفضّل، الذي كُتب على قبره: "كان يحب الرسم كثيراً". ألم تقم الثورة كي نستطيع أن نرسم، ونغني، ونصلي، ونتسلى، ونتصوف، ونعبث، ونحزن، ونأكل، وننعزل، ونرقص، كما يريد كل منا، على طريقته؟ 

ما زال كل شيء يغلي، والبعض يحاول نسيان الخوف، وآخرون يعيشون على إيقاعه، المتوهم أو الحقيقي. سجون، وهاربون، وتعذيب، ومفقودون، وتهديدات، وتطمينات، وخيانات، وإشاعات، وآمال. اختفى الهارب، تاركاً صوره وتماثيله وسراديبه ورعبه منا لنا. أكبر هجوم جوي في تاريخ البلد، ينفذه عدوّ يصرّ على أن يبقى العدو. لا أغانٍ جديدة في الأجواء، ولا حاضر نحيل إليه: الماضي، بكل عنفه وعفنه، يسحقنا كلياً؛ والمستقبل خلف غيمٍ أخضر ثقيل قريبٍ إلى القلوب. لا أحلام شخصية، ولا ذكريات خاصة: كل شيء عمومي، كالكهرباء والماء والإنترنت. 

ما الذي نفعله، بعد النهاية؟ ألم ينته ذلك الذي كان كابوساً؟ أم أنها بداية؟ ما الذي سنشعر به؟ ما الذي يجب أن نشعر به؟ السعادة؟ كلا، ما زال الجرح طرياً ينزف، والعائدون من الموت يمشون بيننا كملائكة مكسورة الأجنحة. الأمل؟ بالطبع لا، كان الأمل أن يأتي هذا اليوم، لا ما يعقبه. الفخر؟ أعوذ بالله! الفخر للشهداء، ونحن نجونا، بمصادفاتٍ لا يد لنا فيها. الحزن؟ أيحزن من أنار الله دربه، ورفع عنه وزره؟ القلق؟ ألا يجوز لنا أن نعيش ساعتين بدونه، بعد أكثر من عقدٍ عقدناه على أعناقنا ليل نهار؟ الحيرة؟ ألا تكفينا حيرتنا الشخصية في معنى الحياة، والموت، والفن، والحب، والطفولة، والشيخوخة؟ أليست هذه الأيام القليلة، هي الأكثر وضوحاً، وتناقضاً مع الحيرة؟ الطمأنينة والأمن؟ أنردد ونؤكد، ناسين مشاعرنا، باسمين ذاهلين، بتشكك لا يناسب الموقف: "من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن"؟

ما الذي يجب أن نشعر به؟ ارتباكٌ لا نعرف مصدره. كالقبلة الأولى: أهذا ما يطفئ الشهوة، أم يلهبها؟ كالعودة من جنازة، عندما تدرك أن ما انتهى لم ينته، أو ما لا ينتهي انتهى.  كأبوين يقتادان ابنهما الوحيد إلى المدرسة لأول مرة، ويعودان بمزيج من الزهو والشجن: ماذا الآن؟ ككأس شاي برَدَ في انتظاره الطويل: هل أشربه، أم أعدّ كوباً آخر؟ كلحظات تسليم ورقة الامتحان: هل أراجع الإجابات مرة أخيرة، أم أنني استنفدتُ كل الاحتمالات؟ ككذبة بيضاء على العائلة: لا نريد أن نراكم اليوم، ولا أن نجرح مشاعركم بصدقنا. كسهرةٍ مع معارف ثقيلي الظل. كتسليم مخطوط صغير للنشر استهلك منك أعصابك المسكينة وسنين طويلة. ارتباكٌ لا نعرف مصدره. ارتباكٌ حلوٌ كخريفٍ متردد. 

كان غوستاف كوربيه اشتراكياً ملتزماً، وسُجِن بسبب اشتراكه في ثورة الكومونة. أما كلود مونيه فعاش حياته الطويلة بدون أن يلتفت إلى السياسة، كأنه لم ير البلد التي كانت تغلي على إيقاع صاخب لم يعنه فيها إلا مناظرها الطبيعية الخلابة، التي أعاد تعريفها، فاتحاً الدرب لتدريب العين على رؤية مختلفة للطبيعة والفن؛ وإدغار ديغا، القطب المديني للانطباعية، الذي لم تستهوه الطبيعة بل الناس، فقد بدأ حياته يميل إلى اليسار والكومونة، وانتهى يمينياً قومياً: لم يعكس فنه لا هذا ولا ذاك!

هذا ما أريد أن أكتب عنه، وأريد فهمه: العالم السحري الواقعي للانطباعيين الفرنسيين. ألم أنتظر كل هذا الزمن، كي أتفرّغ لهم؟ ثم؟ لماذا أنتظر أكثر؟ ألم أكن أتخيل، يومياً، قبل نهاية الأبد، أن معنى الحياة يتجسد في قهوة صباحية، وانسجام روحاني مع فنون لا تقول كل شيء، عن عالم نحاول فهمه، ولا ننجح دوماً؟ أم أن الأحلام المؤجلة ستظلّ مؤجلة؟ ألم يقف الزمن كل تلك المدة، كي ينتظر صعودنا، مرة أخرى، في قطاراته التي لا تنتظر؟ أم أننا نحن من ترجّل؟ ولكن، كيف يصعد المرء، الآن، بعد كل هذا؟ القطارات سريعة، وأرجلنا ضعيفة، وجيوبنا فارغة، وقلوبنا محطمة، ونفوسنا مرهقة، والمحطات بعيدة، قصية؛ دروبها مرئية، جلية، كالريح الخفية المحسوسة على الأجساد المرتعشة. 

والآن؟ هل أزف الوقت كي نتابع ما استفتحناه مع غياث مطر؟ أم سنسعى إلى تعديل جذري على ما نريد، ونفعل، ونأمل؟ أم نعود إلى الماضي لفهمه، إلى التاريخ، بعيونٍ مفتوحة لا تخشى الحق؟ أم نعمل مطمئنين، بكسل وخفّة، لبناء نجرّبه بهدوء؟ أم نسرع لنلحق ما فاتنا، وما لا يمكن اللحاق به- العمر الفائت المهدور؟ هل حان الوقت كي نخفف من غلواء البسالة الثورية، وفورات الأدرينالين الذكورية، والفتوحات الدينية، والصرامة العلمانية، والخوف الغريزي من الاختفاء القسري؟ ربما، بعد كل ما حصل، بدلاً من أمجاد الأناشيد الوطنية، تلك التي تثير جنون العسكر، وهلعهم، وحماستهم، يجب أن نكتفي بأنشودة بسيطة، سهلة، لطيفة، تخفف عنا عبء الحياة، نفتتح بها الصباحات الحنونة والبرامج الوطنية والإذاعات المتصارعة: 

"أشوف حبيبي ع الطريق يتمخطر

العين سودة ... والخديد ورد أحمر

طلبت وصله، قال حاضر لما نسهر

والله إن ما جاني

لاني رايحة ولا جاية

والنبي يمّا..."

الكاتب: عدي الزعبي

هوامش

موضوعات

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع