كثير من أهل الوَبَر، أي البدو، حين يمدّون الطعام أمام الضيوف يقولون: “تفضلوا يا الربع.. انطحوا الزاد”. الرَّبْع في الأصل هو الموضع الذي يُنْزَلُ فيه زمنَ الرَّبيع، ثم صار اسماً للأهل والأقارب والجيران المقيمين فيه. وفعل النطح هنا صحيح أنه مستمدّ من نطاح الكِباش والتيوس، إلا أنه ذو دلالة إيجابية، تنطوي على معنى الكرم والدعوة إلى الأكل بقوة وحماس، وليس كما يظن أهل المَدَر، أي المدن والأرياف.
* * *
سألني: أليس فعل مَجَقَ فصيحاً؟
قلت: لا.
قال: واشتقاقاته مَجْق وتمجيق ومجقة وماجق وممجوق؟!
قلت: كل كلمة فيها جيم وقاف هي ليست عربية، بل دخيلة أو مُعَرَّبة.
قال: حتى المنجنيق؟
قلت: وحتى جقمَ وانجقمَ وتجقَّم وجاقم ومجقوم ومجاقمة، وكذلك الجقُّ والجَقَل والبقجة والجوقة والجقجقة، والمجاقرة، هذا ناهيك عن الجردَق والجردقة والجرندق، والأجوق، والجوق، والقبج كما ذَكَرَ العلَّامة أبو منصور الجواليقي، وبالمناسبة الجواليق أيضاً غير عربية، ومعناها أكياس الخيش، وهي جمع مفرده جُوَالِق أو شُوَالِق، وفي منطقتنا يحذفون القاف من آخرها ويقولون “شوال” بشين واضحة، وأحياناً بطريقة تدمج الشين والجيم.
* * *
الزمانُ هو الحِينُ بالنسبة للمكان، والمكان هو الحيثُ بالنسبة للزمان، إذ كلٌّ منهما جَدَلُ الآخر، أعني توأمهُ اللدود، ونحن فيهما لا بينهما، نتحاينُ ونتحايثُ بكل ما يقتضيان من البداهة والرهافة والجريان واكتناه الوقائع والتوقعات والمواعيد والمقامات.
أَجَلْ.. الحين والحيث جناحا الزمان والمكان، وفي صيغة أخرى نهراهما اللذان يصبان في شطّ الوجود.
الزمن أمر آخر، وربما هو عالةٌ على الزمان كما على المكان، غير أنَّ له ما يشاء من الدلال، حتى لكأنَّ الزمانَ أبوه، والمكانَ أُمُّه.
أمَّا الوقتُ فليس سوى فداحةِ ومناحةِ آبائه وأجداده وابنِهم الضالّ والعاقّ والمارِق والمأمول.
* * *
أول فيلم “سيلما” شاهدته كنت في الصف السادس الابتدائي أوائل ستينيات القرن العشرين. هكذا كنا نقلب النون لاماً، فنقول سيلما بدلاً من سينما.
حين كبرت عرفت أن هناك قبائل وجماعات يقلبون اللام نوناً، فيقولون اسماعين وجبرين وعزرائين بدلاً من اسماعيل وجبريل وعزرائيل، وهناك من إذا نطقوا كلمة تضم نونين قلبوا إحداهما لاماً، فيقولون علوان بدلاً من عنوان، وفنجال بدلاً من فنجان، وهناك من يقلبون الهمزة عيناً والقاف كافاً والضاد ظاء، ولم يكن أحد يجد في ذلك غضاضة. سيادة لهجة دون غيرها أو أكثر من غيرها كانت تحصيل حاصل لمدى قوة وتأثير ونفوذ الناطقين بها، وبالتالي وزنهم على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والجغرافي، وذلك بالطبع إضافة إلى العدد الذي يستطيعون تجييشه من فرسانهم وفرسان حلفائهم.
* * *
تاريخياً كان السوريون وغيرهم، حين يرد اسم “تدمر”، يأخذهم الخيال إلى مملكة “زنوبيا” الشهيرة، وحضارتها العريقة، التي تأسست في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد.
غير أن مفارقةً مطعونةً ومشلشلة بالدماء، تكوَّمت في طرقات ومفارق سوريا منذ مطالع الثمانينيات من القرن العشرين، ما جعل كلمة “تدمر” تدق كنواقيس وتنعب كغربان في الأعماق، وهي تذهب بالخيال إلى ذلك السجن الصحراوي الرهيب المعروف باسم “سجن تدمر العسكري”، وما يعنيه من محاكم ميدانية عسكرية، وعمليات قتل انتقامي، وجولات يومية من التعذيب الوحشي المنظَّم، وتوسيع خارطة المقابر الجماعية.
أمضيت في هذا السجن السنوات الخمس الأولى من اعتقالي بانقطاع تام عن العالم الخارجي.
بالمناسبة فإن اسم “تدمر” في اللغة الآرامية يعني “المعجزة”.
في الواقع هي إحدى معجزات الحضارة في تاريخنا القديم، وإحدى “المعجزات” الوحشية الدامية للاستبداد في تاريخ سوريا المعاصر.
* * *
وتاريخياً أيضاً كان السوريون وغيرهم، كلما ورد اسم بلدة “صيدنايا” القريبة من دمشق، ذهب بهم الخيال إلى “دير سيدة صيدنايا” الذي بني في عام 547 ميلادية، وإلى كنيستها الشهيرة التي تحتفظ بواحدة من الأيقونات الأصلية الأربع لمريم العذراء، التي رُسِمت بيد الرسول لوقا المبشر.
تسمية “صيدنايا” آرامية الأصل، وتعني “صيد الغزالة “.
صيدنايا هذه بدءاً من عام 1987 صارت تعني “سجن صيدنايا العسكري”، وقد أمضيت فيه آخر تسع سنوات من اعتقالي.
* * *
كان جارنا يثق بأني أشطر الأولاد في اللغة. ولهذا كان كثيراً ما يسألني وأحياناً يختبرني.
في إحدى زيارات هذا الجار لوالدي، ناداني ليقول: يا ابن أخي.. هل نقول توبةً نصوحة أم نصوحا؟
وهل “نصوحا” بالألِف العصا، أم بالألف البطة”؟
قلت: هي “توبة نصوح”، وبالتالي فإن الألِف البطة “المقصورة” ليست منها.
قال: ههنا حطّنا الجمَّال. أليست “نصوح” للمذكر، ونصوحة للمؤنث.
قلت: الصفات التي على هذا الإيقاع “نصوح، صبور، شكور، عجوز، غيور، حنون، غفور” يتساوى فيها المذكر والمؤنث. ولكن هل تعرف لماذا نقول عن الحبلى أنها حامل وليس حاملة؟
قال: اَلله ينوِّر عليك هات نوِّرنا.
قلت: لأن الحَبَل خاص بالأناث وليس بالذكور، وحين نقول فلانة حامل فلا أحد سيذهب ذهنه إلى أن كلمة “حامل” مذكرة ويجب أن تخصّ الذكر، ولكن إذا قلنا فلانة “حاملة” فذلك لا يعنى أنها حبلى، بل يعني أنها حاملة أغراضاً.
التفت الجار إلى أبي وكأنه كسب رهاناً: قلت لك يا صاحبي.. اللغة بحر وابنك هذا سبَّاح اَلله يحميه.
* * *
يُروى والعهدة على الراوي أن الصاحب ابن عبّاد، وزير أمير البويهيين، كتبَ رسالةً إلى قاضي بلدة “قُم”، فبدأها بالقول: أيها الوالي بقُم.. وحين بحث عن عبارة تالية ذات سجع مناسب، فإن أوّل ما قفز إلى ذهنه كان فعل الأمر “قُم”، فأكمل الرسالة بقوله: قد عزلناك فقم.
ويُحكى أن القاضي يومها قال: والله ما من جرم أو سبب لعزلي سوى السجع ملعون الوالدين.
“ملعون الوالدين” إضافة من بنات أو حفيدات أفكاري أنا، وليست من كتب التاريخ والتراث “قدّس الله سرَّهما”.
أفكر بيني وبين نفسي وبينكم، أن هذه القصة إن لم تكن حقيقية، فإنها نتاج خيال ادعاها تعويضاً عن رغبة في تحقّقها، الأمر الذي يعني أن الخيال ابن الواقع أو رغبة فيه أو تدريب عليه.
ولكي نجلو الأمر ونجتليه أكثر دعونا نفترض أن رسالة الصاحب بن عبّاد كانت موجهة إلى قاضٍ بنجد مثلاً، فأي مصير يمكن أن يرسمه السجع لذلك القاضي؟
أحد الاحتمالات وربما أقربها متناولاً أن يكتب ابن عبّاد:
أيها القاضي بنجد.. لك منّا كل مجد
ويمكننا أن نلهو بهذه اللعبة طويلاً ونحن نرسم مصائر ما كانت لتخطر على بال من قبيل:
أيها القاضي بمصر.. سوف نجزيك بقصر
أيها القاضي بجوبا.. أنت مخـلوع وُجوبـا
وهكذا إلى آخر ما تستطيع محنةُ السجع في جميع المقامات والمجالات.