لبنان وفلسطين: نحو «سينما ثالثة» تُحرر الإنسان

Sur le tournage du Bateau de l’exil, 1982. Collection d’artiste-Nessim Ricardou / modifié

شفيق طبارة

ناقد من لبنان

مثّلت حقبة الحرب الأهلية اللبنانية، التعاون الأكبر والوثيق بين صناع الأفلام الفلسطينيين واللبنانيين. كان العديد من صناع الأفلام الفلسطينيين ـ أمثال مصطفى أبو علي، وهاني جوهرية ـ يقيمون في بيروت، وعملوا عن كثب مع المثقفين والفنانين اللبنانيين.

للكاتب/ة

لبنان وفلسطين، لم يكونا بعيدين عن روح «السينما الثالثة»، خصوصاً بين السبعينيات والثمانينيات. تميزت السينما اللبنانية والفلسطينية أثناء الحرب الأهلية اللبنانية بإحساس عميق بالخسارة والتشرد والنضال السياسي.

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

31/12/2024

تصوير: اسماء الغول

شفيق طبارة

ناقد من لبنان

شفيق طبارة

ناقد سينمائي، يكتب في عدة صحف ومجلات عربية، يغطي سنويا عدداً من المهرجانات السينمائية العربية والعالمية. عمل كمدير فني لمهرجان "نورينت" في سويسرا. ويعمل مستشاراً فنياً لعدد من شركات الإنتاج العربية والعالمية. أصبح هذا العام مصوت دولي لجوائز الغولدن غلوب.

يعدّ بيان «نحو سينما ثالثة»، الذي كتبه المخرجان الارجنتينيان فيرناندو سولاناس وأوكتافيو جيتينو، ونُشر في مجلة «القارات الثلاث» عام 1969، أحد أكثر النصوص المعروفة والمذكورة في السينما السياسية والاجتماعية في حقبتي الستينيات والسبعينيات، وأفضل وثيقة لـ«مجموعة أفلام التحرير»، التي توسعت بشكل كبير في بلدان عدم الانحياز ودول العالم الثالث. حدّد المخرجون يومها مبادئ توجّههم السينمائي، انطلاقاً من أنّ السينما الثالثة هي السينما التي تعترف بالنضال بجميع أشكاله الثقافية والعلمية والفنية، وتعتبره أضخم تجلّيات العصر، وأيضاً أداة لتحرير الإنسان كنقطة انطلاق لتفكيك الثقافة الاستعمارية الخارجية، والداخلية الفاسدة المهيمنة.

لبنان وفلسطين، لم يكونا بعيدين عن روح «السينما الثالثة»، خصوصاً بين السبعينيات والثمانينيات. تميزت السينما اللبنانية والفلسطينية أثناء الحرب الأهلية اللبنانية بإحساس عميق بالخسارة والتشرد والنضال السياسي. وبينما ركّز صنّاع الأفلام اللبنانيون على توثيق حربهم الأهلية وتأثيرها على المجتمع اللبناني، استخدم صنّاع الأفلام الفلسطينيون في لبنان السينما لتسليط الضوء على محنة اللاجئين الفلسطينيين والنضال الفلسطيني الأوسع من أجل التحرير. كانت السينما اللبنانية والفلسطينية متشابكتين بشكل عميق، فأصبح لبنان، خصوصاً بيروت، عاصمةً ثقافية وسياسية للمثقفين وصناع الأفلام الفلسطينيين. أوجدت الحرب الأهلية أرضاً خصبة للتعاون والتلقيح المتبادل بين صناع الأفلام من الدولتين. شاركت كلتا المجموعتين في موضوعات متشابهة عن الحرب والنزوح والهوية، وغالباً ما عكست سينما الدولتين فهماً متبادلاً لتعقيدات الصراع.

لكن قبل الوصول إلى هذه الفترة، عاشت كلتا الدولتين، خصوصاً لبنان، حالة سينمائية مختلفة. بعد الحرب العالمية الأولى، كان لبنان تحت الانتداب الفرنسي، ولعبت الإدارة الاستعمارية الفرنسية دوراً حاسماً في تشكيل المشهد الثقافي، بما في ذاك تطوير السينما. جلب التأثير الثقافي الفرنسي الأفلام الأوروبية إلى لبنان، حيث عرضت العديد من دور السينما الأفلام الفرنسية، ونشرات الأخبار، والدعاية. وفي حين لم تكن السينما اللبنانية متورطة بشكل مباشر في جهود الدعاية العالمية في زمن الحرب، فقد عملت كمركز ثقافي لاستهلاك الأفلام في العالم العربي. أصبحت دور السينما في بيروت أماكن شهيرة لعرض الأفلام من أوروبا والولايات المتحدة ومصر. وخلال الحرب العالمية الثانية، بينما كان لبنان لا يزال تحت حكم الانتداب الفرنسي، سيطر نظام فيشي (الذي تعاون مع ألمانيا النازية) في البداية على المنطقة. خلال هذه الفترة، استُخدمت دور السينما في لبنان لعرض الدعاية الفرنسية والمتحالفة مع المحور. لكن بعدما سيطرت القوات البريطانية والفرنسية الحرة على لبنان عام 1941، تغيّر محتوى السينما. فقد عُرضت الأفلام البريطانية والأميركية التي تروج لقضية الحلفاء بشكل أكثر تكراراً، مما عكس التغيرات الجيوسياسية الجارية.

لجأ الجمهور اللبناني، مثله الجماهير في أجزاء أخرى من العالم، إلى السينما كشكل من أشكال الهروب من الواقع خلال الحروب. وفرت الأفلام المستوردة – الأوروبية والأميركية على حد سواء – هروباً من حقائق الحياة تحت الحكم الاستعماري وضغوط الصراع العالمي. وشهدت هذه الفترة اهتماماً متزايداً بأفلام هوليوود، التي بدأت تؤثر على الذوق اللبناني. شهد لبنان ازدهاراً ثقافياً بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً بعد الاستقلال عام 1943. ونمت صناعة السينما مع تحول لبنان إلى مركز ثقافي وفكري في الشرق الأوسط خلال الخمسينيات والستينيات. بيروت الكوزموبوليتانية، أصبحت مركزاً للفنانين والمثقفين وصناع الأفلام. وبفضل استقرارها السياسي النسبي وبنيتها التحتية الحديثة، فقد جذبت شركات إنتاج الأفلام، وأنشئت العديد من الشركات مثل «Baaklini Film Production» وشركة «الأرز»، و«استديو بعلبك»، التي ساعدت في دعم الصناعة المحلية. أثرت السينما الفرنسية والمصرية والأميركية بشكل كبير على صنّاع الأفلام اللبنانيين. خلق هذا المزيج من الأساليب جمالية سينمائية لبنانية مميزة، كانت غالباً أخف وزناً وأكثر تجارية من الأفلام ذات الوعي الاجتماعي السائدة في الدول المجاورة مثل مصر وسوريا. في تلك الفترة، اشتهر مخرجون أمثال جورج قاعي، وجورج نصر، وجوزيف فهدة، وميشال هارون. أنتجت هذه الشركات أفلاماً كانت غالباً كوميدية رومانسية أو غنائية أو ميلودرامية، عكس الأذواق الشعبية السائدة في ذلك الوقت، مع موضوعات متكررة تتعلق بالحب والأسرة والهجرة، مما يعكس القضايا والانشغالات المجتمعية الخاصة بتلك الحقبة. كان هناك أيضاً انبهار بجمال المناظر الطبيعية في لبنان.

وعلى الرغم من ازدهار السينما اللبنانية في ذلك الوقت، إلا أن السبعينات كانت بمثابة بداية الانحدار بسبب عدم الاستقرار السياسي المتزايد. أدى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975 إلى تدمير البلاد وصناعة السينما. فر العديد من صناع الأفلام والممثلين من البلاد، وتوقف إنتاج الأفلام تقريباً خلال سنوات الحرب. ولكن في الوقت نفسه، أنتج صناع الأفلام اللبنانيون عدداً من الأعمال المهمة، التي غالباً ما استكشفت موضوعات الهوية والصراع والنزوح والثمن النفسي للحرب. أصبحت الحرب الأهلية نفسها موضوعاً مركزياً في العديد من الأفلام، وشكلت السرد والجماليات وظروف الإنتاج. على الرغم من تدمير البنية التحتية، والمصاعب الاقتصادية، والرقابة والانقسام السياسي والطائفي، شكلت الحرب الأهلية بشكل أساسي محتوى الأفلام المنتجة خلال هذه الفترة، وتصارع العديد من صناع الأفلام أمثال مارون بغدادي، وجوسلين صعب، ورندة الشهال على أسئلة مثل الهوية الوطنية، والطائفية، والمنفى والنزوح، والبقاء والصدمة والشباب. كما لعبت الأفلام الوثائقية دوراً حاسماً خلال الحرب، حيث استخدم صناع الأفلام السينما لالتقاط حقيقة الصراع، وغالباً ما كانت هذه الأفلام الوثائقية بمثابة شكل من أشكال المقاومة، وحملت توقيع مخرجين أمثال جان شمعون ومي مصري وكريستان غازي وغيرهم ووثقت تدمير لبنان وتأثيره على شعبه. بحلول الوقت التي انتهت فيه الحرب الاهلية عام 1990، كان صناع الأفلام يتصارعون مع عواقب الصراع. استكشفت سينما ما بعد الحرب موضوعات المصالحة والصدمة المتبقية من الحرب والجهود المبذولة لإعادة بناء الهوية الوطنية. غالباً ما صوّرت تلك الأفلام سرديات مجزأة، عكست المجتمع المكسور والمنقسم الذي أصبح عليه لبنان، واكتسب مخرجون أمثال نادين لبكي وزياد دويري وغسان سلهب اعترافاً دولياً بأفلامهم.

مثّلت حقبة الحرب الأهلية اللبنانية، التعاون الأكبر والوثيق بين صناع الأفلام الفلسطينيين واللبنانيين. كان العديد من صناع الأفلام الفلسطينيين ـ أمثال مصطفى أبو علي، وهاني جوهرية ـ يقيمون في بيروت، وعملوا عن كثب مع المثقفين والفنانين اللبنانيين. لم تعكس السينما الفلسطينية وقتها النضال من أجل التحرير فحسب، بل صورت أيضاً دور الفلسطينيين في الحرب الاهلية، وخصوصاً في ما يتعلق بالدور الفلسطيني في الصراع والغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، والمجازر التي وقعت في المخيمات الفلسطينية. قبل هذه الفترة، قبل عام 1948، كانت السينما الفلسطينية في مهدها. كانت ثقافة السينما في المنطقة لا تزال في طور النمو تحت حكم الانتداب البريطاني (1920-1948)، والبنية الأساسية لصناعة السينما الفلسطينية المحلية محدودة. ومع ذلك، شهدت تلك الحقبة مساهمات ملحوظة للسينما في فلسطين. كانت السينما في فلسطين تركز إلى حد كبير على عروض الأفلام بدلاً من الإنتاج المحلي. وكانت المدن الفلسطينية مثل القدس ويافا وحيفا مراكز حضرية نابضة بالحياة تشتمل على دور سينمائية تعرض أفلاماً من مصر وهوليوود وأوروبا. وكانت الأفلام المصرية، خصوصاً المسرحيات الموسيقية والميلودرامية، تحظى بشعبية كبيرة. سُجّلت هناك محاولات مبكرة لإنتاج الأفلام المحلية. أنتج بعض صناع الأفلام والمصورين، خصوصاً أولئك ذوي الميول القومية، أفلاماً قصيرة وأفلاماً إخبارية وأفلاماً وثائقية. أنتج أحد أوائل صناع الأفلام الفلسطينيين، إبراهيم حسن سرحان، فيلماً في عام 1935 عن مؤتمر وطني فلسطيني، وهو أحد السجلات القليلة للحركات السياسية في مرحلة ما قبل النكبة.

ينقسم تاريخ السينما الفلسطينية إلى أربعة: الأول في فترة الانتداب البريطاني، والثاني بين النكبة والنكسة ويسمى «عصر الصمت»، والثالث بين عامي 1968 و1982 وقد شهد ما يسمى «سينما الثورة الفلسطينية». أما المرحلة الرابعة فهي ما تعيشه اليوم. لم يتم توثيق أحداث النكبة وما تلاها بشكل جيد أو ملموس أو مصور، بل نقلت بطريقة شفهية التواريخ والشهادات الشخصية. وهناك تفسيرات عدة لذلك. فقبل أي شيء، كانت غالبية الفلسطينيين آنذاك من المزارعين والفلاحين المرتبطين بالأرض بطريقة عضوية، ولم يروا حاجة أو سبباً لتوثيق ما يحدث، لأنهم ببساطة ينتمون إلى الأرض التي هي ملكهم. بعد النكبة، عانى معظم الفلسطينيين من الصدمة، وصعوبة التعامل مع الحقائق، فلم يتم تسجيل أي فيلم فلسطيني بين عامي 1948 و1967، ولذلك سميت هذه المرحلة «عصر الصمت». بدأت سينما الثورة الفلسطينية على يد سلافة جاد الله التي نجحت، بفضل علاقاتها مع قيادات «فتح»، وبمشاركة مصطفى أبو علي وهاني جوهرية، في تأسيس قسم التصوير الفوتوغرافي التابع لحركة «فتح» في عمان. وشهد عام 1968 إنتاج أول فيلم، هو «لا للحل السلمي» من إخراج أبو علي، تناول الرفض الشعبي لمشروع روجرز. في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات، قصد العديد من صانعي الأفلام الفلسطينيين والعالميين من كل أنحاء العالم الأردن ولبنان قريباً من أنشطة النضال الفلسطيني. وعمل معظمهم على وثائقيات عن النضال وأهدافه السياسية. في تلك الفترة، قرر أبو علي، إلى جانب عدد من المخرجين الفلسطينيين، إنشاء «أرشيف الفيلم الفلسطيني» بهدف إعادة خلق التاريخ الفلسطيني وتوحيد جهود صانعي الأفلام الفلسطينيين ومنح السينما الفلسطينية اعترافاً ومكانة أفضل، ووُضع الأرشيف في معهد الأفلام في بيروت الغربية. في تلك الفترة من عمر سينما الثورة الفلسطينية، نُفِّذت أفلام مثل «حرب الأيام الأربعة» (1973)، «كفر شوبا» (1975)، «الحرب في لبنان» (1977) لسمير نمر، و«ليس لهم وجود» (1974)، و«فلسطين في العين» (1977) لمصطفى أبو علي، و«لأن الجذور لا تموت» (1977) لنبيهة لطفي، و«أنشودة الأحرار» (1978) لجان شمعون.

عادت السينما الفلسطينية إلى الظهور تدريجاً، متأثرة بشكل عميق بموضوعات النزوح والهوية والمقاومة والشوق إلى البلاد. استخدم صناع الأفلام الفلسطينيون، الذين غالباً ما يعملون في المنفى، السينما كأداة للتعبير عن الهوية الوطنية وتوثيق النضال الفلسطيني والحفاظ على الذاكرة. وفي ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، صعدت سينما المقاومة، وظهرت صناعة الأفلام الثورية. انضم العديد من صناع الأفلام إلى حركات التحرير الفلسطينية أو كانوا جزءاً منها، وركز عملهم على النضالات المناهضة للاستعمار والمقاومة والتجربة الفلسطينية في المنفى. وفي عام 1968، أنشأت منظمة التحرير الفلسطينية «مؤسسة السينما الفلسطينية»، التي تهدف إلى إنتاج أفلام من شأنها تثقيف الجماهير الدولية حول النضال الفلسطيني وبناء التضامن مع قضية تقرير المصير الفلسطيني. وثق صناع الأفلام المرتبطين بهذه الحركة حياة الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين ومقاتلي المقاومة، والمعروفين أيضاً بالفدائيين. 

من المقاومة الجماعية إلى القصص الشخصية، في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، بدأت السينما الفلسطينية بالتحول من التركيز فقط على المقاومة الجماعية إلى استكشاف قصص أكثر شخصية عن النزوح والمنفى والهوية. بدأ صناع الأفلام الخوض في التجارب الفردية والعائلية، مع الاستمرار في عكس النطاق الأوسع للقضية الفلسطينية. تعكس السينما الفلسطينية قبل النكبة وبعدها، التحولات التاريخية والاجتماعية والسياسية العميقة التي عاشها الفلسطينيون. تمثل النكبة نقطة تحول في التاريخ الفلسطيني، حيث شكلت الهوية الوطنية والذاكرة والنضال الجماعي من أجل الدولة. هذا الانفصال متأصل بعمق في تطور السينما الفلسطينية، فانعكس على موضوعاتها وجمالياتها والدور الذي تلعبه في الثقافة والمقاومة الفلسطينية.

الكاتب: شفيق طبارة

هوامش

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع