"ما انحرِمش منّك" لهجة مصرية. "ما بنحرم منك" لهجات عربية متعددة. "ما بحترمك" لهجة شامية. هي ثلاث صِيَغ لنفس المعنى، إلا أن اللهجة الشامية تثير اللبس والخلط ما بين الحرمان والاحترام، غير أن سياقات الكلام تمدُّ لنا دائماً حبل النجاة.
* * *
في بعض اللهجات يقال "مِن هالجال، ومن الجال المقابل"، أي من هذا الجانب، ومن الجانب المقابل. الكلمة فصيحة، والفعل هو جال يجول، أي طاف يطوف أو تحرَّكَ يتحرَّك في جنباتها أو جوانبها، ومن هنا كان اشتقاق "حظر التجوال"، أي منع الذهاب في أي اتجاه أو إلى أي جانب. إن تتبُّعي للعديد من الكلمات العامية واكتشافي أنها فصيحة، جعلني أدرك أهمية العامية وقدرتها على إنقاذ مئات بل آلاف المفردات من الموت والاندثار ومن هجرِالمثقفين لها ظناً منهم أنها عامية.
* * *
سألني إن كانت لفظة شمعدان، أي حامل الشموع، بفتح العين أم بكسرها أم بضمها.
أجبته أنها كلها سالكة. حمِدَ الرجل ربه على نعمة العربية وغناها. قلت: الكلمة غير عربية، ولهذا نطقها أجدادنا بفتح العين وضمِّها وكسرها. وإذا افترضنا أن "الشمع" لفظة عربية، فلفظة "دان" في آخرها ليست عربية. "دان" بالفارسية مثلاً، تعني الوعاء أو المكان.
ولكن من رحابات وفضائل العربية أنها مطواعة لو طاوعناها.
* * *
إيشا رجل آشوري سوري، لجأ إلى السويد أواسط تسعينيات القرن العشرين، وبعد قرابة ثلاث سنوات رفضت السويد منحه اللجوء وأعادته إلى سوريا، لينتهي به المطاف عندنا في سجن صيدنايا العسكري.
عينا إيشا تشعان ذكاء، وسلوكه يقطر لطفاً ودفئاً ومحبة.
كنا نستمتع بغنائه وسرعة بداهته في اقتناص النكتة والمفارقة.
أنا وإيشا زيت على زيتون كما يقال. لم نختلف طوال حبستنا سوى حين نفى وجود أي جذور أو تقاطعات، بين العربية والآشورية.
طلبتُ منه أن يملي عليّ كلمات إحدى الأغاني الآشورية، فأملى الأغنية التي يندر أن تمر ليلة بدون أن يغنيها ويطلق العنان لحزنه: "يا ظالم دورا كْما ظلملُخ آللي".
قلت: إذا استطعتُ أن أشرح لك معانيها، فهل ستعترف على رؤوس الأشهاد بأن هناك "علاقات وتواطؤات مشبوهة" بين العربية والآشورية؟
وافق إيشا، فبدأتُ الشرح:
يقول الشطر الأول "يا ظالم" وهي نفسها بالعربية.
قال: صحيح.
قلت: "يا ظالم دورا" تتعلق بالحديث عن الدورة الزمنية، والقصد هنا "ظالم يا زمن يا دوّار".
قال: ما زلت في دائرة المعنى.. أكمِل.
قلت: "كْمَا ظْلمْلُخ" يقابلها في العربية "كَم ظلمت"، و "ألّي" يقابلها "إليّ أو لي"، وهكذا يكون المعنى "أيها الزمن الظالم كم ظلمتني".
قال إيشا بطريقته الساخرة: يا شباب.. أنا قليل ذمة ومدان ومسلِّم بما يقوله لغويّكم، بل إني مقتنع بنسبة تسعة وتسعين في المئة وكسور، ولا علاقة لهذه النسبة، لا من قريب ولا من بعيد، بتلك النسبة التي يفوز بها طغاتكم في جميع الانتخابات التي تأخذ شكل الاستفتاءات.
* * *
هو لا يرتاح لأفكاري وقناعاتي، ولهذا بدا لي ممتعضاً ومضطراً وهو يسألني إن كانت لفظة شمعدان، أي حامل الشموع، بفتح العين أم بكسرها أم بضمها، فأجبته أنها كلها سالكة.
حمِدَ الرجل ربه على نعمة العربية ورحابتها. قلت: الكلمة غير عربية، ولهذا نطقها العرب مكسورة ومضمومة ومفتوحة العين. وإذا افترضنا أن "الشمع" لفظة عربية، فلفظة "دان" في آخرها ليست عربية. "دان" بالفارسية مثلاً، تعني الوعاء أو المكان.
بقيت عيناه جاحظتان إلى أن سمعني أقول:
ومن رحابات وفضائل العربية أنها مطواعة لو طاوعناها.
* * *
السبَّابة هي الإصبع التي تلي الإبهام. هكذا سمّاها أجدادنا لأنها كانت تُستخدَم غالباً أثناء السبّ والمخاصمة والتهديد. حاول بعض الفقهاء
تسميتها "المُسَبِّحة"، أي التي تقوم بفعل التسبيح، غير أن الحياة والواقع والوقائع ظلَّت متمترسة وراء السبَّابة.
بالمناسبة أكثر اللغات الأوروبية تسميها "المشيرة" أي الإصبع التي تشير.
* * *
يقال "أثار حفيظته". الحفيظة هي الحميّة والغضب. ويُخيَّل إليّ أن الحمية والغضب يكونان محفوظين في المحفظة العميقة من النفس، بل في جيبها الأعمق الذي اسمه الحفيظة. إنهما هاجعان في النفس هناك إلى أن يحدث ما يثيرهما ويخرجهما من ذلك الجيب إلى السطح، أي يخرجهما من المحفوظ والمكنون إلى المعلن.
* * *
العجوز كلمة مؤنثة حصراً، وتعني المرأة المُسِنَّة. لم ترد بالتذكير أبداً لا في القرآن ولا في أشعار العرب القدماء، وبالتالي فإن قولنا "رجل عجوز" هو استخدام حديث يقابله في الفصحى "شيخ" وفي العامية ختيار. من يقبل تحديث سيارته وكومبيوتره وموبايله وخبراته، فمن تحصيل الحاصل أن يقبل تحديث اللغة.
* * *
من يعتقد أن التنورة مؤنث التنور أكثر سذاجة ممن يعتقد أن الثورة مؤنث الثور، وأن الجامعة مؤنث الجامع، وأن الأناة مؤنث الأنا، وأن الوداعة مؤنث الوداع، وأن السريرة مؤنث السرير.
يا أخي لفظة التنورة أصلاً غير عربية، وكذلك لفظة التنور غير عربية. صحيح أنها وردت في القرآن مرتين، لكن اختلف المفسرون في معناها.
حياة العرب لم تعرف التنور إلا لاحقاً. كان خبزهم على الوطيس، أو على الصاج كما هو الحال حتى الآن لدى بعض سكان البوادي.