بعدما عاد إلى كويكبه، مُخلفا الأرض وصاحبه الطيار الفرنسي الذي اضطر لإنهاء حكاية حكايته بتذييل مقتضب أشار فيه إلى اختفائه، لاحظ الأمير الصغير أن نموا يعتري أعضاء جسده، فانتقل إلى كويكب أرحب، يتسع لتمدد بدنه، واستطالة قامته، فوصل إلى أرض البراكين، التي بها وردة واحدة، ونهر وبحر وبحيرة، وثلاثة براكين، لكنه وجد أيضا بها شعبا مسالما ينتظر من ينظم أموره، ويحكمه، ولم يُحلم الأمير الصغير أبدا أن يصبح ملكا.
لكن جرى تتويجه بسرعة، وصار الأمير الصغير، ملكا في عالم الكبار، وإذا به يصادف معضلة بعد أيام من تتويجه، ومن هنا تبدأ أحداث هذا الفصل المحذوف من قصة الأمير الصغير ذو المصير غير المعروف.
بعدما جلس على عرشه، جاء إلى بهو قصره رجل عادي يحلم أن يصبح قائدا لفرقة مرتزقة تحمي أرض البراكين، وكان سؤال الملك المُتوج للتو، له: ألدى أرض البراكين أعداء؟
وكانت من أحلام الرجل العادي أن يخضع أرض البراكين.. أن يكسرها.. أن تكون له وحده.. أن يمشي عاريا في شوارعها.. أن ينكح نساءها، وأن يجعل مبانيها على شكل قباب، وتحت كل قبة منها يضع صورة له، وأن يكون رجل أرض البراكين الوحيد.. والباقي خصيان.
لكن لم يكن بذهن الرجل العادي فرضية واحدة لتحقيق أحلامه.. لم يمتلك سوى طموحه.. وجنونه.
2
كما تحول الأمير الصغير إلى ملك في هذا الفصل المحذوف من قصته..
ظهر رجل عادي لم نقرأ عنه من قبل في الحكاية، وتحول إلى قائد مرتزقة..
حار الملك في المسألة، إذ لم يكن سوى أميرا صغيرا ذات يوم كل همه أن يرسم له أحدهم حملا ليأكل شجيرات كبيرة الحجم غليظة الجذوع تسمى "الباوباب" ولم نجد لها تسمية تقابلها في دارجة "أرض البراكين"، وإذ بهمومه تتعاظم، ويجد نفسه ملكا لأرض، يرغب أحدهم أن يجب لها مرتزقة ويصبح قائدا لها، ونام من شدة إرهاقه من التفكير، فإذا به في المنام يرى نفسه يُحّضر سحرا يخفى به من الوجود أرض البراكين، ويحبسها وأهلها في محارة، ويحولهم تدريجيا إلى لؤلؤة، يحملها في قلبه أينما ذهب، ووقتما أراد، يعيدهم سيرتهم الأولى، ويتحرر سكانها من الأسر من قلب المحارة.
رآهم الملك داخل المحارة يمارسون حياتهم كما كانوا يمارسونها قبل السحر، فيرتدون ملابس بالغة الصغر، ويلتفون حول مآدب متواضعة الحجم.. ويروون حكايات محدودة قصيرة ويغنون أغنيات مقتضبة من بيت أو بيتين.
ولأنه كان أميرا صغيرا، استيقظ مستاءً بما رآه في منامه، وبفعله في سُكان أرض البراكين، وظل يراقب حياتهم الجديدة، ولا تبرحه عذابات الضمير.
3
وهنا يجب أن نحكي قليلا عن "أرض البراكين"..
فهذه الأرض ولدت مدينة، عكس الرجل العادي، والأمير الصغير، ووُلدت قصورها، وحدائقها، وبحرها، وبحيرتها، ونهرها، وكانت كلها تنتمي إليها ..فكان بحر أرض البراكين يعرف ببحرها، وكذلك نهرها، وحديقتها، وبحيرتها، ومع المدينة وُلد أناسٌ.. عُرفوا جميعا بأنهم أهلها، الذين عمروها، واختاروها موضعا محببا للسكنى، عشقوا شوارعها، فيها أنجبوا أبنائهم، وربوهم، وفيها سهروا ليال يغنون ويحتفلون بأعيادها، حتى أعياد أرض البراكين، فكانت تخصها، ولم تكن تخص أي شخص آخر.
لهذا حينما جاء الرجلان.. الرجل العادي والملك– الأمير الصغير- واقترح الأول على الثاني اقتراحه، لم يأخذ أحد رأي أهل أرض البراكين، ولم تعرض عليهم المسألة، ولم يسمعوا الرجل العادي بينما يُضمن في اقتراحه أيضا بناء قلاع، وإحاطة البراكين بأسوار وحظر السكان من التنزه حولها، أو استخدامها في تسخين الطعام كما هو معهود عنها، بل اقترح أيضا ابتناء سجنا، وغير ذلك من مستلزمات الحرب، وتعيين أمراء للسلاح، وشراء مرتزقة من المدن المجاورة لأرض البراكين، وتنظيمهم في فرق كي يكونوا مخلصين طالما تلقوا أجورهم، ومنع تجنيد أهل أرض البراكين في هذه الفرق، كي لا يعصون الأوامر حينما لا تعجبهم.
ولما كان الملك قد زار أرض البراكين حينما كان أميرا صغيرا، ويعي أنها ليست بحاجة لكل هذه الاستحكامات الدفاعية، بل كان فيها زهرة صغيرة شملها بحبه وسقاها من دموعه، سأله سؤالا بريئا على الرغم من أنه كبر وصار ملكا:
- ومن ينظم ذلك كله ويديره؟ ومن أين نمول الإنفاق على فرق المرتزقة؟
قال الرجل العادي:
- أنا.. أنا يا مولاي الملك أنظم ذلك كله وأديره..أما النفقات فيدفعها أهل أرض البراكين صاغرين.
فرمقه الملك مليا وهو يتخوف من القادم، ثم قال:
- وماذا أجعلك كي تنظم ذلك كله وتديره...؟
فانتفخت أوداج الرجل العادي وقال:
- اجعلني قائدا لفرق المرتزقة.
4
استمع الملك للرجل العادي، وهو يرى المستقبل وما سيحدث فيه، قرأ كل ما ستشهده أرض البراكين من تقلبات في أعين الرجل الطامح لأن يكون قائدا ما لرجال يحملون السلاح، ولم يملك غير الانصياع لمقترحه، عملا بنصيحة سمعها حينما زار كوكب الأرض: اجعل أعداءك في دائرتك وصوب عينيك.
لم يكن يملك أي حيلة لقهره أو لإثنائه عن مقترحه، لا ننسى أنه كان متوجا على التو، ولم يمتلك خبرة في حكم أو في تقرير مصير، لم يكن شريرا، ولم يمتلك سجنا يحبس فيه أعداء أرض البراكين، ولم يستخدم وزيرا للداخلية يأمره بالقبض عليه وشنقه. كان يعلم ببساطة أن الرجل العادي سيفسد في المدينة ويسفك الدماء، وعدم أية وسيلة لإيقافه، فقرر أن يسايره، ويبتدع حلا لإنقاذ أهل أرضه. وهكذا يظن كل الملوك أن بوسعهم صون الدماء وتجنب سفكها، ولا يعترفون أبدا بخطأ السماح للرجل العادي بتحقيق حلمه. منح الملك للرجل صحراء مماثلة لتلك التي سقط فيها من نجمه، ليلهو فيها كما يحلم، وليصنع فيها ما يشاء من ألعاب، ليجرب فيها المطارق والمشانق والمجانيق، وليجهز العدة والعتاد، كان يرغب في أن يخرجه مؤقتا من أرض البراكين، ليكسب وقتا، وينفقه على تدبر الحيل لإنقاذ أهل أرضه.
ذهب الرجل العادي إلى الصحراء..وهكذا صار مخترعا لمصطلحات"مرتزقة المدينة..وأعداء المدينة.. صار قائدا لأناس جاءوا يقترفون المذابح بأجر.
أما الملك، فأمر حكماء قصره بإعداد ترياق من العنبر والزئبق، والياسمين والزنابق، أمر بجلب قطع من جبل الجليد الوحيد شمال أرض البراكين، على مبعدة من البركان الثالث الخامد، وقطرات من ندى الصباح، ثم أمر بأن يخلطوه بيود البحر، وطحالبه الحية، وأخيرا يطحنوا بعضا من نحلات الجبال، ويفصلوا أجنحتها المهروسة عن باقي أشلاء أجسادها، ثم يضيفون فتات الأجنحة إلى الخليط.
بنى الملك آمالا على المزيج.. وظن أنه سيكون بوسعه تقزيم أهل المدينة بسهولة ووضعهم في محارة، بمجرد سكب الخليط في نهرها ..كما رأى في منامه.
5
دون حرب أو معركة علّق الرجل العادي على صدره الأنواط والنياشين وارتدى حرملة من الأرجوان، على بذلة مموهة بلون الصحراء وحياتها وعظاءاتها، وعلى رأسه وضع طاقية من الخيزران "عيدان القصب الرفيعة"، بات يستيقظ صباحا وينتظر الشمس أن تؤدي له التحية الرسمية، وحينما يخطو يحاذر أن يدهس ظله، وحينما يجلس يرقب بعمق اتجاه الهواء، وحركة الريح، ونعيب الغربان، وهديل الحمام، وزقزقة العصافير، ويرى، إن كان كل ما سبق سيترنم في جوقة ونظام.. أم لا..؟
كانت هذه تمارينه المفضلة، إخضاع الكائنات، كان يختبر نفسه على إسكات الأصوات المخالفة، وهكذا، حينما سأله أحد الرجال الذين جلبهم معه إلى الصحراء من أرض البراكين، في أي المواضع ينبغي أن نزرع الأشجار..؟ أجابه القائد:
- لن نعود إلى هذه المهنة.. سنتركها لأهل أرض البراكين العاديين. أما نحن، فسنزرع القلاع.. المتاريس.. الحواجز.. المصدات.. والبيارق التحذيرية.. ورايات الرعب. هذا ما سنزرعه.. وسنترك الغرس والحصد والبذر وغيرها للعاديين.. سنرتاح بينما هم يتكفلون بزرع وحصد الأكل.. ونحن ..سنلتهمه.
في أرض البراكين، كان حكماء الملك يضربون أخماسا في أسداس. صنعوا المزيج كما أُمروا، بكل الأوصاف، وسكبوه في النهر كما طُلب منهم، وكأنهم سكبوا شيئا لوث النهر، وإن لم يأت بفعاليته.
على ضفاف النهر شيد أهل أرض البراكين الكازينوهات والمقاهي، وغرسوا الأشجار العملاقة لينشروا الظل فوق البر، ومنه مدوا ترعا لسقاية أراضيهم وغيطانها ومنه أيضا مدوا مجارٍ إلى كل البيوت التي كانت تطل شرفاتها على نهره، وصفحة مياهه.
شرب الناس من النهر، الكل شرب، البشر، والحيوانات، تلقى الملك تقارير من عيونه بأن الخليط سرى في كل أنحاء النهر، وجرى في تفرعاته، وتدفق مع الماء في البيوت، الفتيان في لهوهم على الجداول شربوا، والفتيات ملأن قواريرهن، والأطفال لهوا في الترع وشربوا، من لم يشرب ..؟ من..؟ الكل شرب.
إلا أن شيئا لم يحدث ..لم يعتر أهل أرض البراكين أي تغير يذكر، بقيت المدينة على حالها ولم تختف. راقب الملك وحكماؤه الناس وهم يذهبون ويجيئون، يقيمون الأفراح والليالي الملاح، يعقدون الصفقات ويكدّون من أجل مستقبل أطفالهم، يسافرون ويمرحون، يزرعون ويحصدون، أطوالهم ظلت كما هي، لم يطالها النقص، بل ظلت قاماتهم ممدودة أبيّة، وسرى الخبر في قصر الملك، أن ثمة خطأ في الوصفة. وتبادل الحكماء الاتهامات، وراجعوا سويا المقادير، والخلطات، والصفات، وتداولوا الحلول، كانوا يسيرون على شعرة، أيصنعون ترياقا أم سُما، وبعدما ترامى إليهم غضب الملك، وثورته في جناحه، وتورم وجهه من الأحمرار، وهو العرض الذي يصيبه كلما غضب، والذي أرهص دائما إلى مقدمة البطش، تخبطوا وأشفقوا على أنفسهم، وأخذوا يبحثون عن رجل قصير القامة يخففون به غضب الملك وانفعاله، حتى يهتدون إلى حل، ينجيهم من الخلطة الفاسدة التي خلطوها.
6
في الصحراء انتابت قائد المرتزقة أحلام العتو والتوسع والسيطرة.. وفي يقظته رسم سيناريوهات تحقيقها.
انتهى من بناء أول قبة عملاقة سوداء اللون كالليل الحالك، وجعل منها مركزا لقيادته، وتحت القبة وضع صورة مرسومة له وحده دون صورة الملك، وجعل فيها مبنى صغير محاط بأربعة أسوار فيه منامه ومهجعه، ومبنى ثالث ملأه بالماء وجعله موضع استجمامه وملهاه في تلك الصحراء القائظة، ومبنى رابع يشرف منه على خطط رجاله وتمريناتهم وتدريباتهم وعتادهم وعدتهم، وهكذا تحققت أولى حلقات حلم القائد أن يبني القباب.
تحولت الصحراء المترامية الشاسعة المحيطة بأرض البراكين، إلى منطقة مرعبة، تخشاها الشمس، فامتنعت عن الاقتراب منها، أو فرد آشعتها عليها، باتت منطقة مظلمة.
زار الملك الصحراء التي صارت مدججة بالقلاع والحصون، ومرّ بين الحواجز والمتاريس، وتظاهر بالابتهاج بينما تؤدي فرقة من فرق الرجال مسرحية قتالية استعرضوا فيها قدراتهم على قهر عدو ما وقمعه، ونظموا أمامه طابورا يشهق أفراده ويزفرون بالصيحات المخيفة المزلزلة كما قالوا له للعدو، فالتفت الملك إلى قائد المرتزقة واستفسر منه قائلا:
- العدو..؟ ألدينا واحدُ...؟
فارتبك قائد المرتزقة، هذا هو الشيء الذي لم يفكر فيه، إلا أنه سرعان ما لملم نفسه وسارع بالقول:
- سنوجد واحدا يا مولاي..
7
دخل الرجل القصير على الملك، فراقبه الأخير بانبهار، وسأله:
- هل وُلدت هكذا يا ابن أرض البراكين..؟ أم أنك كنت طويلا وشربت من النهر فجرى لك ما جرى؟
فتعجب الرجل الذي لم يتوقع استجوابا، وقال:
- بل أنجبتني أمي وألقت بي إلى الطريق، ثم بعد حين، شربت من النهر كما شرب باقي الخلق، فجرى ما جرى.
فعاد الملك ليسأله:
- هل تستيقظ كل يوم فتجد الأشياء قد ازدادت علوا وبعدا عن متناول يديك؟
فأجاب الرجل محتارا وهو لا يدري كيف ينمق إجابته:
- لم تعد هناك أشياء في متناول اليد يا مولاي، منذ أن جئت إلى السلطة وقائد مرتزقتك يستنزف خيرات أرض البراكين، وإن مددت يدي لألتقطها وأذهب بها إلى البيت لقطعت يداي، فلا أمدها كي لا ألقى هذا المصير.
فازدادت حيرة الملك، وسأله:
- وساقيك..؟ هل لا يزالا كما هما أم يقتربان بك كل يوم من الأرض؟
- ساقاي يا مولاي الملك هم هبة اللـه لي..إذ لم يعد لي سواهما يحملنني بعدما سحب قائد فرقة المرتزقة من المدينة كل العجلات التي يمكن لشعبك أن يمتطيها..بل وسحب كل الخيول التي تجرها..والبعير والحمير..صار الوقت أطول..وصرنا نستغرق في المشي أعمارنا حتى نصل إلى غرب أرضنا إذا جئنا من شرقها، والعكس.
- لكنك لم تشعر أبدا أن الدنيا من حولك تزداد كبرا وتتعملق بينما أنت تزداد صغرا وتتقزم؟
- لم يحدث هذا أبدا يا مولاي..إلا حينما مر من حيّنا ذات مرة قائد فرقة المرتزقة..إذ أمر بهدم عدة منازل من ضمنها منزلي لتمهيد طريق يأخذه إلى بيته، وقتها شعرت أن أرضنا لم تعد تلك المدينة التي شببنا فيها وعشنا بها أحلى سنوات عمرنا، الظلم عملاق يا مولاي..والعدل بات قزما.
8
انتابت الملك مشاعر الحسرة، وقلة الحيلة وقاطع حكماء قصره بعدما اكتشف خديعتهم وكذبة رجلهم القصير. حاول الحكماء من جهتهم إنقاذ أنفسهم بإيجاد التبريرات للملك والبحث عن حلول للترياق الفاشل، إلى أن طرق باب القصر وليُّ من الأولياء، المشهورين بالزهد والسفر في الصحراء، ولبس الخيش والصوف الخشن فقط كرداء، وكان بيده عصا صنعها من جذع شجرة، وشعره الأسود يتدلى على كتفيه منسابا كذيل مهرة، فتح الخدم للولي، فطلب لقاء الحكماء، ولم يطلب لقاء الملك، وقال للخدم:
- إن الملوك إذا طلبوا لقائي أذهب ومعي الدواء، إنما أطلب لقاء الحكماء، فبيننا لغة مفهومة، وحكمة معلومة.
والتف الحكماء حول الولي، فقال لهم:
- مطلبكم عسير، وسبيلكم في تحقيقه يسير، انصحوا ملككم بالخروج في رحلة، يتعلم فيها الحيل والدهاء، وهكذا يستطيع إنقاذ براكينكم وأرضها من المرتزقة والدهماء.
وغادر الولي بعد قولته، فذهب الحكماء إلى بلاط الملك، واقترحوا عليه القيام برحلة، كما اقترح الولي، ودعوه أن يصبر على ما سيراه في هذه الرحلة من عجائب كي يتعلم الحيل، ويتزود بالعبر التي تمكنه من الزود عن مدينته ضد أطماع قائد المرتزقة.
ظن الملك أنها دعوة من الحكماء للتنحي عن الحكم، فرحب بها، وقرر الخلاص من هموم السلطة، وركب السفينة، وأخذ يتذكر رحلته السابقة بين الكويكبات، وظن أنه سيعود مرة أخرى للسفر في الفضاء، بين الأجرام، لكنه ألتقى الولي، ومنحه كتابا مليء بالتمائم والحروف الغريبة، حاول الملك أن يقرأ أول صفحة فعجز، فقلبها، وفي الصفحة الثانية أصابه ما أصابه مع سابقتها، فقلبها، وكذلك قلب الذي يليها، حتى إذا وصل إلى آخر صفحة في الكتاب، وجد عبارة تقول كلماتها:
سر ببطء..فإن الدنيا تظلم في ميعاد وتضئ في ميعاد..
ولن تخلف الدنيا مواقيتها من أجل تعجلك..
وعاود قراءة الصفحات التي أعجزتك..
ربما تتفتح لك طلاسمها وتقتنص من معانيها ما فوته.
فحانت من الملك نظرة إلى الولي مستفهما، متسائلا عن سر العبارة المبهمة، فإذا بالولي وقد انقلب أميرا صغيرا يماثله حينما كان في قصة الطيار الفرنسي، وسيم الملامح، ناضر الوجه، عكس حالته التي كان فيها أسود الشعر، ممتليء بالغضون والتجاعيد، قال الأمير لملك أرض البراكين:
- كلما أسرعت متعجلا العثور على حل لمعضلتك، كلما حرثت البحر بأصابعك، فالحل سيأتي وقتما تستسلم وتصبر وتنتظر.
ثم أشار له على الأرض التي رست عليها السفينة، فتبعه، حتى إذا جاءا إلى حفرة مليئة عن آخرها بالذهب واللألئ والمجوهرات، فوجد الأمير الصغير يردم على الحفرة، فسأله الملك متعجبا:
- لماذا لا نكبش منها ونملأ جيوبنا لعلنا نحتاج منها ما ندفعه لشراء طعامنا أو لابتياع غطاء يسترنا من البرد والمطر؟
فصمت الأمير ورماه بنظرة لائمة، ثم أشار إلى صفحة الكتاب، ففتحه، فوجد صفحة أخرى تحوي عبارة لم يستطع قرائتها من قبل لأنها كانت مطلسمة في شكل رموز عجيبة، تقول كلماتها:
ثق أنك كلما بذلت همتك في البحث عما يقيم أودك..
وضعت عنقك في فكي ما يستعبدك ويجلد ظهرك..
شعر الملك بالضجر من حِكم الكتاب، ورفع رأسه إلى الأمير مستنكرا العبارة وقد فهمها هذه المرة، وفهم مرماها، ودعوتها الصريحة إلى التواكل، لكنه لم يجد الأمير، إنما وجد بدلا منه جارية أخاذة وجميلة، وتحمل ملامحها وبدنها سمات الفتنة والسحر، عيناها مكحولتان ونظراتها تشعان بريقا ينضوي في ثناياه على الدعوة والترحيب، ممشوقة البدن، ناهدة الثديين، وقبل كل ذلك كانت عارية حرة كأنها خرجت توا من ثنايا صفحات ألف ليلة وليلة، وليست قصة الطيار، لا يستر لحمها أي قطعة من نسيج، وبدت محاسنها شاهقة بازغة، فتلألأت حلمتا نهديها البنيتين، وامتلأ لحم عنقها البض واستدارت رقبتها، وتبدى كتفاها شاهقين قويين، واكتنز لحم فخذيها، واستدار خصرها، وضمرت بطنها وتزينت نقطة صرتها بمنابت خفيفة لزغب الشعر فوق موضع التقاء لحم فخذيها، كانت مثالية، وظهر شق مهبلها طويلا كأنه قد اتسع ليقذف أمة البشر، عقدت الحسناء ساعديها وافتر ثغرها عن بسمة مغرية واسعة، وقالت:
- أنا أحسن من الحفرة يا مولاي ملك أرض البراكين..فاملأني بكنوزك لعلني أكون خير تعويض لك..كما تقول صفحة الكتاب.
نسى الملك لماذا أتى وأسباب رحلته، وسقطت من ذاكرته توا حفرة الكنز، وانمحت في لحظة أرض البراكين من أمام عينيه، وارتمى في أحضان الحسناء العارية، وفي الصباح ضاجعها مرة أخرى، وفي الظهيرة، وعند انحدار الشمس تجاه المغيب، وفي الليل، وقبل أن يخلدا للنوم وقد هدهما التعب، والجوع .
وفي الصباح الثالث، الذي هلّ وقد انقضت ليلتان ويوم على معاشرته للفتاة، وجدها وقد تكورت بطنها وعلت كقبة، وتعجب الملك، أهي امرأة أخرى غير تلك الحسناء ضامرة البطن التي ضاجعها في الليلتين الفائتتين، وظل يحملق في بطنها المنتفخة كورم، بينما الفتاة غارقة في النوم، وصدرها يعلو ويهبط من أثر دقات قلبها الهادئة، فعاد الملك إلى صفحات الكتاب غامض الرموز، وقلب صفحة غير الصفحتين التي قرأ فيهما الحكمتين السابقتين، فوجد صفحة ثالثة وقد فُكت شفرة رموزها، فتخلت عن بياضها، ونبت فيها سطر، واستطاع أن يقرأ فيه كلمات تقول:
لعلك بينما تبحث عن السعادة تفر منها وقد خلفتها وراءك
ولعل الحزن ينتظرك في الموضع الذي تظنه خلا منه
فأغلق الكتاب، ووجد المرأة وقد أنجبت طفلا بجوارها، ولفته بقماط صنعته على عجل من الخيش والصوف القاس، وأشارت إليه، فقال وهو يقترب حذر:
- هو ليس طفلي..لم أقض معك سوي ليلتين..هو قطعا ليس طفلي..
فنظرت إليه نظرة لائمة، قبل أن تشهق، وتمسك بطنها في سرعة، ثم أطلقت صرخة لم تطلقها وهي تنجب الطفل الأول، فهب الملك لمساعدتها، كانت بطنها تنتفخ، وتتورم، وكانت ثمة تموجات وتجاعيد تنبض وتختفي، كأن ثعبان يتحرك داخل بطنها، وفجأة قذفت من مهبلها ماء، وأطلقت صرخة أخرى بينما تظهر قدما طفل تستميتان للخروج.
تراجع الملك إلى الوراء خطوة ذعرا وهو لا يدر كيف يساعد المرأة، بينما هي تدفع الطفل من أحشائها بقوة وعزم مطلقة صرخات متتالية، كأنها توشك على الانفجار، إلى أن غادر الطفل جسدها في هيئة قطعة من اللحم مصبوغة بالدم، وهو يتلوى، ويطلق حشرجات كسلحفاة وليدة.
في الصباح التالي كان هناك طفلان آخران أنجبتهما المرأة.
وفي الصباح الذي يليه كان هناك طفلان آخران..
وفي الصباح الذي يليه أنجبت المرأة طفلين آخرين..
واستمرت كل صباح تقذف الأطفال من بطنها، إلى أن وجد الملك نفسه محاطا بعشيرة صغيرة من الأطفال، بعضهم كان قد كبر خلال عمليات ولادة المرأة، التي لم يظهر عليها الجوع، أو التعب، لم يبد أنها تعيسة، أو سعيدة، لم يبد عليها الرغبة في الانتحار، أو الشوق لاحتضان عيالها، فقط ظلت راقدة على ظهرها منذ الأزل، تنجب، وتطرح عيالها جنبها، لتنجب عيالا آخرين.
استسلم الملك لخاطرة أن هؤلاء الأطفال هم أبناؤه جميعا، أخذ يراقب المرأة ليال طويلة بينما تلد، معملا المنطق في الحكاية، وتوصل إلى أنهم منقطعون عن البشر، فإلى من سواه يُنسب الأطفال؟ أنهم أولاده فعلا، كانا قد كفا عن المضاجعة منذ زمن، منذ أن بدأت في عملية الإنجاب اللانهائية، كأنها تسابق الزمن لملء الأرض بعيالها، بينما الملك محتارا، لا يدر ماذا يفعل بكل هؤلاء العيال، كان يصطحبهم في رحلة يعلمهم فيها الصيد، وكانوا يقطفون ثمار الأشجار ليأكلوا ويشبعوا، كان بعضهم يبهره بمهارات مطاردة الغزلان، أو العوم والغطس خلف الأسماك، وبعضهم الآخر كان يبهره بالقدرة على تسلق الجبال ومهاجمة أعشاش النسور والصقور وجلب بيضها والإفلات من مطاردتها، وبعضهم الثالث كان قد تعلم تسلق الأشجار، والكمون بهدوء انتظارا للقردة والطيور، ومهاجمتها والإتيان بها مكبلة لتصبح وليمة على النار في أمسيات الليل الطويلة.
وذات ليلة قرر الملك أن يترك قبيلة الأطفال التي أنجبتها المرأة والعودة إلى أرض البراكين، سار موغلا في الصحراء، متخليا عن أطفاله وأبنائه شاعرا بالأسى لهم، إلا أنه تعثر في مشيه، وحينما نهض، وجد الولي في مواجهته وقد تغضن وجهه بغضون الغضب، ظل يحملق فيه، إلى أن قال الملك:
- الآن..هل اكتفيت من إنجاب الأطفال..؟ وجئت خلفي لتعاتبني على قلة صبري وضعف حيلتي..؟
فهتف الولي:
- منحتك وسيلة النجاة، فترميها وتمضي هكذا غير مبال!!
فسكت الملك، وظهرت على وجهه أمارات الغباء والاستياء، ثم قال:
- أي نجاة في قبيلة الأطفال تلك التي أنجبتهم...؟
فصاح الولي:
- النجاة أن تنفض من رأسك أفكار السحرة واللؤلؤ والمحار..لا عجب أن رجل عادي جاءك وبسهولة صار بوسعه اغتصاب ملكك.
9
عاد الملك ومعه أبناؤه، وقد كبر منهم الآن المئات، وصاروا فرسانا وأمراء، ينافسون أبيهم في الوسامة، وتمتليء عيونهم بنظرات الحكمة الطموح والعزم والقوة، وتظهر من قسمات ملامحهم البأس والجلد والحكمة.
دخل الملك باب أرض البراكين، تسبقه صهوات جياد أبنائه الفرسان، امتد موكبه كيلومترين، وظل أهل المدينة يحملقون مدهوشين في الفرسان والأمراء العديدين الذين أحاطوا بالملك، وقف الأخير في ساحة واقعة بين بركانين، مستعرضا أبناءه حوله، وأمامه، مباهيا بهم شعبه، وحكماء قصره، هؤلاء كانوا أكثر أهل المدينة فضولا في معرفة أسرار رحلته. كان أبناء الملك قد توزعوا حول أسوار المدينة، مضى بعضهم إلى قصره ليؤمّنوه وفتحوا حجراته حجرة حجرة ليتأكدوا من خلوها من الأعداء، أو المتربصين، بينما أحاط عدد آخر من الأبناء بأبيهم وهو واقف وسط ساحة المدينة خاطبا في الناس.
10
ترامت الأنباء إلى المرتزقة وقائدهم في صحرائه..
أطلق زفرات حانقة وحانت منه صيحة غضب تجاه الشمس..كأنه يرغب في إخضاعها لنوبات جنونه وحنقه.
ثم التفت إلى مساعديه وصاح:
- فلنشرع في بناء نسخا من كل مباني أرض البراكين..فلنبن قصرا يماثل قصر الملك..ودور عبادة أكبر من تلك الموجودة في المدينة..ومعابد أثرية تحاكي تلك الموجودة فيها..وجنان ورياض..وكورنيش وبيوت..وميادين ونوافير..فلنستنسخ كل مباني المدينة..حتى إذا حانت اللحظة الموعودة..قطعنا ماء النهر عن المدينة القديمة..وحولنا مجراه..وليعش الملك وأولاده فيها عطشى..مع شعبه الذي هتف له.
شعر الملك بالعجز، يخشى على أبنائه إن هو بدأ الحرب، ويخشى على ملكه إن انتظر الحرب تأتي إليه، ويخشى من ردة فعل أهل المدينة إن ظل عاجزا بين الخيارين. ولم يجد بدا من الاستعانة مرة أخرى بحكماء قصره، الذين كانوا قد ظنوا أنفسهم قد ارتاحوا من مسألة المزيج، بمجرد عودة مليكهم في عزوة من الأبناء، فوجئ الحكماء ذلك الفجر، وقبل أن تشرق الشمس، بمليكهم يستدعيهم لبهو المُلك، وحينما تراصوا أمامه، خاشعي الأبصار، ترهقهم آثار النوم ومقاومة النعاس، صاح فيهم الملك ببرود وحزن:
- علمتم بما يجري في الصحراء..؟ أوصلتكم الأنباء..؟ أم أنكم مجرد تيوس تأكلون وتشربون وتلبسون أفخر الثياب وتتباهون بين القوم بمكانتكم ومواكبكم وتعودون تنامون كالحملان؟
لم يجرؤ أحدهم على الرد، إلا أن كبيرهم تكلم أخيرا قائلا:
- انتقل من بناء المتاريس والقلاع والحواجز، إلى بناء مدينة أخرى، تنافس مدينتنا.
- أهذا كل ما وصلكم..؟ ألم يصلكم نبأ الماء..؟ ونيته تحويل مجرى النهر..؟ وتجويعنا وقتلنا بالعطش..؟
صمتوا جميعا، ثم تكلم كبيرهم مرة أخرى:
- ليس لدينا في هذه الحالة سوى مواصلة العمل على منامك القديم يا مولاي..إخفاء المدينة وأهلها وحفظها في محارة، ولكننا لن نخفي أنفسنا هذه المرة..بل سنصغر مدينة القائد..وسنصغره هو أيضا حتى يستحيل نملة، وقتها سيمكنك دهسه بقدميك.
ولكن بينما هم مجتمعين، فُتح باب بلاطه، ووقف رجل أسود الشعر، تتدلى جدائله على كتفيه وظهره، ظل الملك يرمقه بنظرات واجمة، وهو يسأل نفسه..أي صورة سيتحول إليها..؟ وأي هيئة سيتخذ؟
لم تطل حيرة الملك، إذ تقدم الولي وهو يدق أرض بلاط القصر، تقدم من عرشه، وصاح فيه:
- لم تزل غرا أحمقا تنتظر حيل الحكماء وألاعيب السحر..وهم يتآمرون عليك لصالح قائد المرتزقة..هذه هي المرة الأخيرة التي أتدخل فيها لأنقذك من مغبة أفعالك..منحتك الذرية..ومنحتك كتاب الحكمة..وألقيت كل ذلك وراء ظهرك..ولم تزل تعتمد على مجموعة من المخابيل والمهرجين..يأكلون على مائدتك..وينوون دس السم في صحائفك..أفق أيها الملك التعيس غير مأمور، فقد طلع النهار وأوشكت شمس حكمك أن تزول.
وغادر الولي..
11
بدأ هذا حينما حلُم رجل عادي أن يصبح قائدا لفرقة من المرتزقة ليستعبد مدينة وأهلها.
وجاء يوم تحقيق القائد لحلمه..
يوم تحويل مجرى النهر إلى المدينة التي بناها في الصحراء..اليوم الذي سُيعّطش أهل أرض البراكين ويجوّعهم، سيموت الزرع، ستموت الحيوانات، ثم سيموت ناسها، وربما يهاجرون إلى مدينته، وقتها سيستعبد الرجال، ويُسخر الشباب لبناء المتبقي من عمائره وآثاره، ويُدخل جميع النساء في مخادعه، ويسير عاريا في الشوارع، ولا يجرؤ أحد على نعته بالجنون.
تقدم المُرتزق الأكبر وسط رجاله وحراسه إلى النهر، وبدأوا جميعا في إهالة أكوام التراب عند عنقه الموصل إلى أرض البراكين، حتى إذا اصطدم النهر بالأكوام، ارتدت إلى الفرع الثاني الذي استغرقوا عشرة أعوام في حفره، إلا أن قوة هائلة من الأمراء والفرسان أبناء الملك بروزا لهم فجأة، وأحاطوا المرتزقة وقائدهم. بدأت المقتلة، واشتدت، واكتشف القائد الذي كان رجلا عاديا، أمرا مروعا، فوجيء بأن أبناء الملك من الأمراء والفرسان، لا يُقتلون، ولا يُصابون، وأنهم كما لو كانوا فرسانا من نور، يضربون فيقتلون، ويُضربون فلا يُضارون، يرمون سهامهم ورماحهم، فيصيبون أهدافهم بدقة وقوة، وتُرمى عليهم السهام والرماح من المرتزقة، فتخترقهم وتعبرهم كأنهم كائنات شفافة، تُمرر الأشياء ولا تفلتها. وهكذا عثر الملك على لقية، حينما أجرى اختبارا لأبنائه على فنون الرمي والضرب والقتال، بُهت حينما اكتشف أن أولاده اللذين أنجبهم في رحلة عجيبة ليست لهم دماء لتسفك..وليست لهم جلود لتخدش..ومعجزتهم مستمرة..فهم قادرون على حسم أعتى الصراعات، وخوض أصعب المعارك..والنجاة دائما..وهكذا اتخذ قرار الحرب.
12
انتصر الملك الذي كان يوما ما أميرا صغيرا في قصة طيار فرنسي.
وكما بدأ قائد المرتزقة في هذه الحكاية رجلا عاديا..عاد سيرته الأولى كرجل عادي.
سار ممزق الملابس إلى الصحراء..إلى قلاعه التي تلهو فيها الأشباح..
سار وفي يده سيف خشبي.. مبارزا الريح والغبار.
أما الملك.. فبات ينتظر أن يأتيه مرة أخرى رجل عادي..وقد حلُم بأن يخضع مدينة.
القصة من الكتاب الصادر حديثاً لوجدي الكومي عن دار العين للنشر في القاهرة.