فناجين لغوية:

أنقول "كانت دمشق مركزة، أم مركزا من مراكز الثقل"؟

St. Paul on the Road to Damascus, Frank Mason, 1992

فرج بيرقدار

شاعر سوري

هزَّتْ رأسها إيجاباً وعيناها تطفحان عتباً ولوماً وتأنيباً على سلامة قاموسي اللغوي رغم مرور عشرين عاماً على وجودي في السويد.

للكاتب/ة

حين تقرأ في كتب تراثنا العبارة التالية (دخلنا على فلان وهو يجود بنفسه) فاعلم أن القصد (دخلوا عليه وهو ينازع)، والغرضُ من هذه الصيغة هو إظهار رضا الشخص بدنو أجله، ولعل في استخدامهم لفظة "الجود" تأثيراً قبلياً يعلي من قيمة الجود والكرم حتى لو كان بالروح التي هي أصلاً ليست ملك صاحبها.

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

15/03/2025

تصوير: اسماء الغول

فرج بيرقدار

شاعر سوري

فرج بيرقدار

أرسلني أهلي وأنا في الخامسة لتعلُّم القراءة عند الشيخ. كان الدرس الأول: "ألِف لاشن عليها"، مع مطّ الحرف الأول "أ" كما لو أنه ألف ممدودة، ثم مطّ اللام كما لو أن بعدها ياء، ثم "والـ بي نقطة من تحتا"، "والـ تي تنتين من فوقا" وهكذا. 

سألت الشيخ عن المقصود بـ "لاشن عليها"، إذ حينها لم أجد معنى لها، وكنت أظنه يقصد "ناشِن أو نيشِنْ عليها" بمعنى دقِّق وسدِّد، ولكن الشيخ همزني همزة خفيفة بعصاه الطويلة ولم يجبني. 

كان عليّ أن أنتظر حتى أكبر لأفكِّك "لاشن عليها" وأدرك أن القصد "لا شيء" بعد تليين همزة الياء "لا شي" ثم تنوين "شي" بالكسر لتصبح "لا شٍ عليها".

*   *   *

يشقُّ على الصروف محاقُ طَشْرٍ= فما اصطرخوكَ إلا بعـد كُـفـرِ

ومـا أدراكَ مـا هـيَ حيـن تـغـدو = ستسفيها الهواشلُ حيث تدري 

لو عرضنا هذين البيتين على ألف متعلِّم أو مُعلِّم، فما عدد من سيقولون إن ما جاء في البيتين كلام تافه ولا معنى له؟

هو حقاً كلام تافه وبلا معنى، والدليل أني حين نظمتهما تعمَّدت أن لا يكون فيهما شيء سليم أو صحيح أو ذو معنى.. أستثني النحو والوزن، فهما على أصولهما تماماً. 

أردت أن أشير فقط إلى أن عقدة نقص كثير من المعاصرين، تجاه القدماء، تشلّ محاكماتهم المنطقية للأمور.

*   *   *

قال: أين الخطأ في قولنا (كانت دمشق إحدى مراكز الثقل..)، أليست دمشق مؤنثة يوافقها إحدى وليس أحد؟

قلت: إنما الخطأ في المنطق، وليس كل منطقٍ منطقيّاً. أنقول "كانت دمشق مَرْكَزةً، أم مركزاً من مراكز الثقل"؟

*   *   *

في أحد دروس النحو والقواعد، حدَّثنا الأستاذ عن "أفعَل التفضيل".

زيد أفضلُ من عمرو. "أفضل" على وزن "أفعَل"، ولهذا سمَّيناها "أفعَل التفضيل".

لم أرتح لصيغة "أفعَل التفضيل"، ولا "اسم التفضيل" ولا "أسلوب التفضيل، لأن المنطق هنا يحيل إلى المقارنة وليس التفضيل، وإلا ماذا لو قلنا "زيدٌ أسوأُ من عمرو". هل يبقى للتفضيل من معنى؟!

*   *   *

"تشميت العاطس" يعني الدعاء له بالخير كقولهم: يرحمك الله. ولكني حين سمعت الكلمة أول مرة، وكنت بغواً عمراً ووعياً، رحت أسأل الكبار عن سبب تسميتها "التشميت"، رغم أنهم يقولون للعاطس "يرحمك الله"، فما علاقة الرحمة بالشماتة؟  

ما من أحد كان لديه جواب مقنِع أو قريب الدلالة والمتناول. لاحقاً عثرت في أحد المراجع على نوع من الربط الهشّ أو البعيد، مؤدّاه أن العاطس ومن هم حوله يشمتون بالشيطان الذي كان يتمنى لو زلزلَ العطاسُ كيانَ المؤمن، ولكن الله خيَّبه، ولهذا وجبت الشماتة بالشيطان. تقول الوقائع إن العرب لم تستخدم "التشميت" بهذا المعنى قبل الإسلام، وإن الناس اليوم يتعاملون معه كمصطلح يصعب التماس الارتباط المباشر بينه وبين دلالته اللفظية.  

*   *   *

في طفولتي سمعتُ بدوياً يقول لآخر: وليش ما تروح لهم بنفسك؟ 

أجابه الآخر: ما أقدر.. عشيرتنا وعشيرتهم قوم "گوم"

قلت في نفسي: إذا كنتم نفس القوم فأين المشكلة؟ 

لاحقاً سمعت المثَل الذي يقول "بلاد القوم ما فيها نوم"، واستغربت الأمر كثيراً. فيما بعد عرفت أن "القوم" لدى معظم العشائر تعني الخصوم والغرباء، أمّا أبناء العشيرة فيسمّونهم "الربع".

*   *   *

"بدَّلتُ أو استبدلتُ القمح بالحليب". يقول النحويون إن حرف الباء هنا يجب أن يدخل على المتروك، الذي هو الحليب، وليس على المأخوذ الذي هو القمح. ولكن حين نعرف أن أبا تمَّام والمتنبي والمعرّي وأحمد شوقي و99 في المئة من الناس لا يلتزمون بهذه القاعدة، فإن المطلوب هو التصالح مع ما يراه النحويون خطأ شائعاً، وبالتالي تبنّيه قواعدياً كما هو مُتبنَّى في حياتنا ولغتنا واقعياً. أمّا كيف نميز المُبدَل من المُبدَل منه، فإن فهم سياق الكلام يقيلنا من العثرات.

*   *   *

ما عاشته ناديا في السويد أكثر مما عاشته في سوريا، وبما أنني مرجعها اللغوي في الأنشطة التي تقتضي تدقيقات على الترجمة العربية، فقد شرحتْ لي أن المقصود من إحدى الجمل التي تترجمها هو الحديث عن "الهوائل" التي مرَّت على سوريا. 

قلت: هل تقصدين "الأهوال"؟ 

هزَّتْ رأسها إيجاباً وعيناها تطفحان عتباً ولوماً وتأنيباً على سلامة قاموسي اللغوي رغم مرور عشرين عاماً على وجودي في السويد.

*   *   *

بدأ الإعراب بتحديد الكلام على أنه اسم وفعل وحرف. "إذا" على سبيل المثال كانت حرفاً لا غير، ثم صارت حرف شرط، ثم حرف شرط غير جازم، ثم ظرفاً لما يُستقبَل من الزمان، متضمناً معنى الشرط، خافضاً لشرطه، منصوباً بجوابه، ثم إسهاباً بعد إسهاب، وتعقيداً إثر تعقيد، ومعاظلة تلو معاظلة، صار معظم العرب اليوم ينفرون من هذه المبالغة في لجلجة مناحي النحو وتعرُّج أنحائه ونواحيه. 

*   *   *

حين تقرأ في كتب تراثنا العبارة التالية (دخلنا على فلان وهو يجود بنفسه) فاعلم أن القصد (دخلوا عليه وهو ينازع)، والغرضُ من هذه الصيغة هو إظهار رضا الشخص بدنو أجله، ولعل في استخدامهم لفظة "الجود" تأثيراً قبلياً يعلي من قيمة الجود والكرم حتى لو كان بالروح التي هي أصلاً ليست ملك صاحبها.

الكاتب: فرج بيرقدار

هوامش

موضوعات

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع