تحتلُّ كتابات طه حسين عن الشعر العربيِّ الموقع الأكبر في اهتماماته، بل تكاد تكون محور تفكيره الذي من خلاله يُقدِّم أطروحاته الفلسفيَّة والفكريَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة. اشتُهِر طه حسين بأعماله النقديَّة التالية: "حديث الأربعاء" (ثلاثة أجزاء)، "في الشعر الجاهليّ"، "تجديد ذكرى أبي العلاء"، "مع المتنبِّي"، "مع أبي العلاء في سجنه"؛ بالإضافة إلى عشرات المقالات التي تبحث في ذلك الشعر.
طيلة حياته الطويلة، حافظ طه حسين على رؤيةٍ واضحةٍ بسيطة: ثورةٌ في التراث تقلب المفاهيم. الصورة التقليديَّة التي يتداولها الشعراء والنقَّاد تبدأ بالشعر الجاهليّ الذي يتربَّع على عرشه امرؤ القيس، وتنتهي بقمَّة الشعر العربيِّ ومعبود النقَّاد والشعراء والأدباء أبي الطيِّب المتنبِّي. بينهما، نجد مكانةً كبيرةً للشعراء العرب الفطاحل: النابغة وزهير بن أبي سلمى وجرير والفرزدق وبشَّار بن برد وأبي نواس وأبي تمَّام والمعرِّي. ولكنَّ المكانة الأسمى لمعنى الشعر وبُنيته وتركيبه وتصاويره تعود دوماً إلى امرؤ القيس والجاهليِّين، وتُقدِّس أعمال أبي الطيِّب.
رفض طه حسين هذه الصورة المتوارثة كلِّيَّاً. شكَّ في معظم الشعر الجاهليِّ واعتبره منحولاً؛ والأهمُّ أنَّه قلَّل من قيمة هذا الشعر على المستوى الأدبيّ. كذلك مع المتنبِّي، الذي يَضعُه في مصافِّ شعراء الدرجة الثانية، مقارنةً بأبي تمَّام والمعرِّي وأبي نواس. جعل طه حسين حكيمَ المعرَّة يتربَّع على قمَّة الشعر العربيّ، وحده بلا مُنازع، باعتباره المفكِّر والشاعر والناثر الأهمَّ في تاريخ اللغة العربيَّة.
شكَّلت دراسات طه حسين ثورةً في التراث، وفي داخل هذه الثورة، يتمتَّع أبو نواس بمكانةٍ خاصَّةٍ واستثنائيَّة. في العصر العبَّاسيِّ الأوَّل، تغيَّر لفظُ الشعر العربيِّ ومعناهُ تغيُّرًا عميقًا؛ وبحسب العميد، انقسم الشعراء المُجدِّدون ما بين مدرستين؛ ركَّزت واحدةٌ على اللفظ، والأخرى على المعنى:
"اختلافٌ في اللفظ نشأت عنه مدرسة مسلم بن الوليد التي أخرجت أبا تمَّام والمتنبِّي وأمثالهما من أصحاب البديع، واختلافٌ في المعنى نشأت عنه مدرسة أبي نواس التي أخرجت البحتريَّ وغيره من أولئك الشعراء الذين آثروا اللفظ القديم والمعنى الجديد، ولم يتكلَّفوا بديعًا ولا استعارةً ولا جناسًا."
وكان شاعرنا أبو نواس حامل لواء التغيير والثورة في المدرسة الثانية. لم يكن وحده، ولكنَّه كان الأصدق والأشجع والأعلى موهبة. هذا ما جعل طه حسين يعود إليه مراراً ويكتب عنه باستمرار.
نجمع في هذا الكتاب، لأوَّل مرَّة، أبحاث طه حسين عن أبي نواس في مُجلَّدٍ واحد. يتيح لنا ذلك، بطريقةٍ مباشرةٍ وسهلةٍ وواضحة، أن نفهم أبعاد عمل أبي نواس، وأبعاد رؤية العميد لموقع أبي نواس في الشعر العربيّ.
...
أكثرُ من ثلثي كتابنا نستقيه من "حديث الأربعاء-الجزء الثاني"؛ من الفصل الأوَّل إلى الفصل السابع عشر. خصَّص طه حسين بعض الفصول لأبي نواس، وبعضها للسياق العامِّ في العصر العبَّاسيّ. حذفت بعض الفصول التي لا تتعلَّق بموضوعنا، وبعض الفقرات التي تخصُّ شعراء آخرين. هكذا، أصبح لدينا بحثٌ يخصُّ أبا نواس وحده، ويشكِّل مشروعاً شبه مُكتمِلٍ لتناول شعره. يُشكِّل ذلك الفصل الأوَّل من كتابنا، ثورة أبي نواس.
ننتقلُ بعد ذلك إلى مقالاتٍ من خصام ونقد، كُتِبت بعد خمسةٍ وعشرين عاماً من حديث الأربعاء، وضمَّتْ ثلاث مقالاتٍ عن أبي نواس. كما أخذنا مقتطفاتٍ من مقال "يونانيّ فلا يُقرأ" عن الشاعر. وهذا هو الفصل الثاني من كتابنا، نقَّاد أبي نواس.
وفي النهاية مقتطفاتٌ قصيرةٌ من كتب "حافظ وشوقي"، و"تقليد وتجديد"، و"مرآة الإسلام". وهنا الفصل الثالث في كتابنا، دروس أبي نواس.
الخاتمة مع نهاية الجزء الثالث من "الأيَّام"، التي يستشهد فيها طه حسين ببيت شعرٍ لأبي نواس.
حذف طه حسين الألفاظ التي يراها بذيئةً من أشعار أبي نواس، وأبقيتُ على الحذف كما أراده العميد.
أسماء فصول الكتاب الثلاثة: ثورة أبي نواس، ونقَّاد أبي نواس، ودروس أبي نواس، وضعتُها أنا لا طه حسين.
تواريخ نشر الكتب، (معظم المقالات التي يجمعها العميد في كتبه نُشِرت قبل الكتب بسنواتٍ قليلة):
"حديث الأربعاء- الجزء الثاني" 1926.
"خصامٌ ونقد" 1955.
"حافظ وشوقي" 1933.
"تقليدٌ وتجديد" 1978.
"مرآة الإسلام" 1959.
"الأيَّام- الجزء الثالث" 1967.
...
نبدأ مع الفصل الأوَّل، ثورة أبي نواس. في كتابنا هذا نتطرَّقُ إلى السياق العامِّ الذي نشأ فيه أبو نواس (الفصول الأولى من "حديث الأربعاء")، أي العصر العباسيُّ الذي ساد فيه الفجور والقصف. طبيعة الحياة في العراق، خصوصاً بغداد، وانتشار الثروة، والاختلاط مع الأمم، غيَّرت بعمقٍ من رؤية الشعراء للأدب. جعل أبو نواس من الخمر محور شعره، وهذا لا يتعلَّق فقط بمجونه وإدمانه الخمر، ولكنَّه ثورةٌ سياسيَّةٌ وفكريَّةٌ على القديم وعلى ما يُمثِّله القديم. يَخرج طه حسين في تفسيره لشعر أبي نواس من ضيق الأفق الذي يطبع بعض ما قيل عن الشاعر، ليحاول الوصول إلى روحه التي انعكست في شعره، وعكست طبيعة النظام الاجتماعيِّ والسياسيِّ التي تخلخلت في بغداد. في الغزل أيضاً يُمثِّل أبو نواس موقفاً جديداً، يعكس حياة المدينة مُباشرةً. هُنا نجد القصائد التي تُجسِّد الاختلاط والحبَّ على نحوٍ مغايرٍ تماماً لما عهدناه في الشعر الجاهليِّ والأمويِّ والعبَّاسيِّ المُبكِّر. ولكنَّ شعره في المدح والهجاء قليل القيمة، بحسب العميد.
يختم طه حسين تأمُّلاته في شعر أبي نواس بملاحظةٍ ثاقبةٍ عظيمةٍ عن التشابه بين أبي نواس وأبي العلاء:
"كلاهما كان يزدري الحياة، وكلاهما كان يمقتها مقتًا شديدًا، وكلُّ ما بينهما من الفرق أنَّ أبا نواس كان يكره الحياة فيزدريها، ويستعينُ عليها باللذَّة واللهو، وأنَّ أبا العلاء كان يكره الحياة، فيستعين عليها بالزهد والحرمان، وفي الحقِّ أنَّ المُتشائمين ينقسمون إلى هذين القسمين..."
ننتقل إلى الفصل الثاني، نقَّادُ أبي نواس. بعد ربع قرنٍ، يعود طه حسين إلى أبي نواس. أوَّلاً، يريد أن يردَّ على استخدام أساليب علم النفس الحديث والتحليل النفسيّ (محمد النويهي والعقَّاد وسلامة موسى) لفهم الشاعر. يَتشكَّكُ طه حسين في هذا المشروع، وينقده بحدَّة. كانت مثل هذه المشاريع رائجةً في عصر ثورة فرويد. اليوم، أثبتت رؤية طه حسين أنَّها أعمق، وأنَّ التسرُّع في تطبيق التحليل النفسيِّ على النقد الأدبيِّ ليس مُثمراً كثيراً. أكثر من ذلك، يعود طه حسين باستمرارٍ إلى السياق الاجتماعيِّ -السياسيِّ ليفهم أبا نواس، وبعد ذلك يتفكَّر في شخصيَّته الخلاَّقة، وليس العكس.
في هذه المقالات، أيضاً، ينقض طه حسين الصور المتداولة لأبي نواس: صورة النرجسيِّ التي قال بها النويهي والعقَّاد، وصورة المستهتر التي قال بها النقَّاد القدامى كأبي هفان ونراها في "ألف ليلةٍ وليلة".
ونختم مع الفصل الأخير، دروس أبي نواس. المقتطفات القصيرة الأخيرة توضِّح استخدام العميد لأبي نواس في معالجته لمواضيع أدبيَّةٍ وفلسفيَّةٍ وتاريخيَّةٍ مُعاصرة. أوَّلاً، يرى العميد أنَّ أبا نواس كان واسع الثقافة منخرطاً في هموم عصره ونقاشاته ومجادلاته الغنيَّة، ويُطالب الكتَّاب المعاصرين بالشيء نفسه؛ أي أنَّ الشعر الساحر المميَّز الذي أنتجه أبو نواس يقتضي الاطلاع على الثقافتين المحلِّيَّة والعالميَّة، بل ومعرفة تفاصيلها الكثيرة. يعتقد العميد أنَّ أحمد شوقي وحافظ إبراهيم لا يُضاهيان النؤاسيَّ في دقَّته الفلسفيَّة وانخراطه في عصره. ويرى أنَّ النهضة الأدبيَّة لا تقوم إلَّا بمثل هذا الاطِّلاع والهضم للثقافات المُتعدِّدة: هكذا يصبح أبو نواس نموذجًا فكريًّا وشعريًّا وحضاريًّا، نموذجًا لنا اليوم في محاولتنا للنهوض بأنفسنا.
كما يعود طه حسين إلى أبي نواس في نقطةٍ فلسفيَّةٍ خطيرة: الصراع ما بين المعتزلة والتيَّار السنِّيِّ العامّ. يعتقد المعتزلة أنَّ العقل باستطاعته الإجابة على كلِّ الأسئلة، بما فيها الأسئلة الماورائيَّة واللاهوتيَّة. أمَّا الفقه السنِّيُّ فيتشكَّكُ في قدرة العقل على الإجابة على كلِّ الأسئلة، بل يرفض الحنابلة حتَّى طرح الأسئلة عن الماورائيات، في حين يميل الأشاعرة إلى تقديم إجاباتٍ محدودةٍ ومُتشكِّكةٍ تعترف بقصورنا البشريّ. وهنا نجد العميد يميل إلى التيَّار السنِّيِّ العامّ، رافضًا ادِّعاء المعتزلة بمقدرة العقل الكلِّيَّة، ولكنَّه يستشهد بأبي نواس وليس بالأشاعرة أو الحنابلة! وليتذكَّر المرء أنَّ الأستاذ الإمام محمد عبده كان يميل إلى المعتزلة، وخالفه تلامذته الأكثر علمانيَّة: طه حسين وأحمد أمين. يطول الكلام عن هذه النقطة، ولمزيدٍ من البحث حول طه حسين وحدود العقل راجع مقالي "ميتافيزيقيا طه حسين" في كتاب "البحث عن طه حسين"، وعن أبي نواس عموماً في مقالي "عسكر الحبّ" في موقع الجمهوريَّة.
أختلفُ مع طه حسين- قليلاً- في بعض النقاط؛ في المثليَّة الجنسيَّة وطبيعة مدارس المُجدِّدين والسياق السياسيِّ والفلسفيّ؛ ولكنَّني أتَّفقُ معه في العرض الأوسع لمكانة أبي نواس وأهميَّته. تركتُ كتابات طه حسين بدون تعديل، ولم أُضِف أيَّة هوامش توضيحيَّةٍ أو نقديَّة. على العموم، كتاباته جَليَّةٌ واضحة، وجميلة، ومُسلِّية جدَّاً، لذا لا تحتاج إلى هوامش. وبما أنَّ هذا الكتاب هو كتاب طه حسين عن أبي نواس، لم أجد حاجةً إلى إضافة رأيي الشخصيِّ فيما يقوله العميد.
...
تنطلق دراسات طه حسين النقديَّة من رؤيةٍ معاصرةٍ إلى حياتنا اليوم. يفتتح نقاشه عن أبي نواس في "حديث الأربعاء" ببحثٍ حول القديم والجديد؛ بحثٍ يتعلَّق بسؤالنا اليوم حول التراث كما يتعلَّق بسؤال أبي نواس عن تراثه هو. ثمَّ يعود العميد إلى الشاعر في بحوثه عن طبيعة الشعر العربيِّ الحديث ومستقبل الأدب العربيّ، ليتعلَّم من أبي نواس: التعبيرَ بصدقٍ عن الزمن الذي نعيش فيه، والانخراط في النقاشات الفلسفيَّة والسياسيَّة، والاطِّلاع على مُنجزات الأسبقين ومنجزات الثقافات الأخرى. هكذا، يكون أبو نواس قدوةً ومنارةً، وفي الحقيقة، قدوةً اتَّبعَها بخطوطها العريضة طه حسين نفسه طيلة حياته الأدبيَّة.
يختم طه حسين "الأيَّام" مع أبي نواس، مُستشهداً بأنفةٍ وكبرياء الشاعر الذي لم يخضع يومًا إلَّا لروحه الخفَّاقة الوثَّابة، رافضاً الانصياع للناس وللسلطات الدينيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، في عالمٍ يتغيَّر باستمرارٍ ويتبدَّل بدون توقُّف. صارع القصر والوفد والأزهر، ثمَّ النظام الناصريَّ بطريقةٍ مختلفةٍ ومسالمة؛ ولم يتراجع يومًا، كما لم يتراجع أبو نواس، الذي هتف في وجه الإمبراطوريَّة مترامية الأطراف من الصين إلى الأندلس:
وما أنا بالمشغوفِ ضَربَةَ لازبٍ ولا كلُّ سلطانٍ عليَّ أمير!
مقدمة الكتاب الصادر هذه الأيام: