ماذا لو كان المكان الذي نعيش فيه الآن مختلفاً كلياً عن ذاك الذي نريد في قرارة أنفسنا أن نكون فيه؟ ماذا لو كانت الأشياء التي نتوق إليها موجودة في مكان آخر؟ في ماض نتخيّله، وكل ما لدينا الآن هو ذاكرة المكان؟ قد نتخيل فقط لمحات عن المكان، انطباعات عنه: علامة، رائحة، ابتسامة، تعبير، حدث أو كلمة.
تتضافر هذه العناصر في ذاكرتنا، نشعر بطريقة عجيبة أننا بتنا بين جدران بلدنا، بينما في الحقيقة نحن عالقون في مكان لا ننتمي إليه. هي مشكلة المنفى، التشرد، البعد والغربة... فكيف نعود إلى مكان موجود فقط في ذاكرتنا؟ لا يقدم الفيلم الوثائقي «يلا باركور» هذه التكهنات فحسب، بل يُعنى بشكل رئيس بعرض وجهة النظر الإنسانية لأشخاص نشأوا في مكان وغادروه، قصة أشخاص نشأوا من دون أن يعرفوا البحر (الذي هو هناك)، قصة ابتسامة، قصة اختفاء مكان كموضوع وحقيقة واقعية... ينتهي الفيلم قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بقليل.
في سنة 2015، في عزّ شتاء أميركي ثلجي، بدأت المخرجة عريب زعيتر رحلتها بعدما عثرت بالصدفة على فيديو لشباب في غزة يمارسون الباركور على خلفية من الأنقاض والانفجارات. في هذا الفيديو، يؤدي الشباب حركاتهم البهلوانية بينما تنفجر القذائف الإسرائيلية في الخلفية، ليبتسم أحدهم ابتسامة عريضةً للكاميرا. من بينهم أحمد مطر، الذي أصبحت رشاقته وعزيمته الهادئة محور الفيلم. ما بدأ كفضول لصانعة الأفلام، تحول إلى تعاون وصداقة: تبادلت زعيتر مقاطع فيديو ومحادثات مع أحمد في غزة من منزلها في واشنطن العاصمة. عكست علاقتهما البعيدة موضوع الفيلم نفسه: شوق إلى غزة، شوق شخصي، وشوق عميق في التاريخ الجماعي. موضوع الفيلم، كما يوحي عنوانه، هو الباركور، هذه اللعبة الجنونية التي تتجاوز الحدود، ويبارز فيها الشبان الموت.
يرتكز الوثائقي على ذكريات زعيتر عن زيارتها الأولى إلى غزة في طفولتها برفقة والدتها. ذكرى مفعمة بالدفء لكن غارقة في حزن. بعد وفاة والدتها سنة 2012، اشتد حنين زعيتر لفلسطين وغزة، وقادها بحثها العاطفي إلى أحمد وأصدقائه. من خلالهم، تشهد تناقضات غزة: مراكزها التجارية المدمرة ومبانيها المتداعية تتحول إلى منصات لبطولات رياضية جريئة، مع شبح الاحتلال الذي يلوح في الأفق فوق كل قفزة. تبدو أجساد الرياضيين كأنها تتحدى الجاذبية، لكن الأرض تحتهم تروي قصة مختلفة.
«يلا باركور»، لا يجسد فقط روعة اللعبة، بل يحوّل هذه الرياضة إلى استعارة للمقاومة، جسدياً ونفسياً. تبدو كلّ قفزة فوق جدار كأنها تأكيد على الحياة نفسها، على السعي وراء الخروج من السجن، لكن غزيرة الموت، حاضرة في الفيلم بشكل مربك ومتناقض.
تستخدم عريب لقطات أرشيفية للشبان ولأحمد، التُقطت على مدار أكثر من عقد من الزمن لنشرها على منصات التواصل الاجتماعي، ولقطات من منزلها في أميركا. وبينما نتابع رحلة أحمد والشباب مع لعبتهم، نرى تسلسلات لا تُحصى من الحوادث التي تصيبهم. ما يجعل «يلا باركور» بتردّد صداه بعمق هو قدرته على التقاط لحظات من الفرح العابر على خلفية يأس لا يلين. إن مشاهدة أحمد وفريقه وهم يحولون الأنقاض إلى ملاعب أمر مبهج، حركاتهم هي أعمال تحدٍّ وفنّ وأمل. التصوير السينمائي (هو جهد تعاوني بين إبراهيم العطلة وماركو بادوان وأوميت غولسن) تبدو فيه كل لقطة حية بتباينها: الرياضيون يحلقون في الهواء، وظلالهم تُلقى على بقايا ما كان في السابق منازل ومدارس وشركات.
بفيلم حميم جداً، أعطت زعيتر الحرية للحبكة وأعطت الشخصيات القدرة على التحدث والتصرف كما يشاؤون، مما سمح للقصة بالتدفق بشكل سلس، سامحةً للكاميرا بالتركيز على انتصارات الرياضيين وعثراتهم. ومن خلال مشاركة قصتها ومراسلاتها مع أحمد في غزة، ومحاولته للخروج، إلى حين سفره إلى السويد، نراها تُصارع هويتها الخاصة وشوقها لوطن انفصلت عنه لعقود. «يلا باركور»، حوار بين شخصين وعالمين، يُثري هذا التفاعل الفيلم، ويردم الهوة بين المنفى والوطن. في لحظات الفيلم الهادئة، مثل انعكاس وجه زعيتر المُتراقص على شاشة حاسوبها المحمول وهي تُشاهد تعابير أحمد المُبهجة، تُجسّد روابط سامية تصمد حتى في أشدّ الفراقات قسوة. من خلال تأملات زعيتر في والدتها ووطنها، ومحاولة أحمد للخروج، يُسلّط الفيلم الضوء على حقيقة مُفجعة: مغادرة غزة هي نيل الحرية، لكنها في الوقت نفسه فقدان لجزء من الذات.
يصعب إنكار القوة العاطفية للفيلم. إنه فيلم عن الحركة الجسدية والعاطفية في مكان غالباً ما تكون فيه الحركة مستحيلة. إنه وثيقة للأمل والصمود والدافع الإنساني للعيش بحرية حتى في ظل أكثر الظروف قسوة. وبقدر ما هو قصة شخصية، فإنّ الفيلم يدور أيضاً حول الهوية والمكان وألم المنفى الذي لا يوصف. زعيتر، التي ولدت في فلسطين ونشأت في الولايات المتحدة بعد انتقال عائلتها، تعود إلى وطنها من خلال الفيلم، وشوق للتواصل، وموضوع غير متوقع.
وعلى مدار سردها الذي استمر عقداً من الزمان، يتضح: هذه ليست مجرد قصة عن القفزات الجريئة والقفزات المستحيلة للباركور، إنها تدور حول معنى الاستمرار في المضي قدماً عندما تكون كل خطوة ضد التيار. ما بدأ كمحاولةٍ لإعادة التواصل مع جذورها، تحول إلى شيء أعمق، تأمل في القدرة على التحمل والتكيف، في مواجهة الدمار، غالباً ما تكون أصغر أعمال التحدي هي التي تترك أعمق الأثر.