قال: ألا ترى أن لغة امرئ القيس ما زالت مفهومة ومعاصرة إلى درجة أن قصيدة "تعلَّق قلبي طفلةً عربية" صارت أغنية في عصرنا؟
قلت: أولاً، القصيدة غير موجودة في المخطوطات القديمة ولا الأصول المعروفة كالأصمعيات والمفضَّليات وحماسة أبي تمام إلخ.
ثانياً، الأبيات المفهومة لغتها لا تتعدى 15 من أصل 55 بيتاً.
ثالثاً، تتضمَّن القصيدة عشرات الكلمات غير المعروفة ولا وجود لها حتى في القواميس، كما أن فيها عدداً وافراً من الأبيات التي تسترخص اللعب باللغة على طريقة بعض شعراء عصر الانحطاط.
* * *
بعض الكلمات متقاربة في المعنى ولكنها متفاوتة في الدرجة. لنأخذ على سبيل المثال: التعارض ثم التضادّ ثم التناقض، والتباين ثم الخِلاف ثم الاختلاف ثم الافتراق. هكذا أرتّب درجاتها صعوداً في الشِّدّة حسب منطقي وخبرتي وحدسي اللغوي.
ثمة إيحاءات في اللغة لا يلتقطها العلم والمنطق، ولا بد في مثل هذه الحالات من الاستعانة بالحدس الناجم عن تراكم معرفي وخبرة في شؤون اللغة وأطوارها وطباعها واكتناهاتها.
والحدس أمر أبعد من الاجتهاد، وبالتالي هو قابل للصواب والخطأ.
* * *
لو سألنا مئة رجل وامرأة، من العرب المتعلمين، عن معنى "الوَغَى" مثلاً، وهل الكلمة مذكر أم مؤنث، فكم ستكون نسبة من يعرفون أنها اسم مذكر، ومعناه الأصوات والجلبَة، وكان يُطلَق على أصواتُ النَّحْل والبَعُوض ونحو ذلك إِذا اجتمَعَتْ، ثم سُمِّيت به الحرب لما فيها من صوت وجَلَبة؟
كل هذه التفاصيل اندثرت وصارت الكلمة خارج العصر. الاندثار والتجدد سُنَّة الحياة، وسُنَّة الموت أيضاً.
* * *
"لا جَرَمَ" تركيب لغوي معناه لا بدَّ ولا شكَّ ولا صدَّ ولا مَنْع ولا محالة، ويأتي بمعنى حقَّاً، وهذا التركيب عموماً ميدان خلافات واجتهادات وتفاسير وإعرابات متعددة ناجمة عن غموضه بالنسبة للعرب الذين لم يعرفوه قبل الإسلام، وبالتالي لم يرد أبداً في أشعارهم. وهكذا ظل التركيب ملازماً للقرآن بعيداً عن القاموس اللفظي الدارج أو المتداول في الحياة اليومية، ولعل مراقبة أوّليّة بسيطة لمجمل ما نقرأ، تُرينا أن هذا التركيب في حالة سُبات، في حين أن مرادفاته كانت وما زالت على قيد الحياة.
* * *
المبالغة في أي أمر تعني الإفراط فيه، والبلاغة تعني عمقَ إيصال المعنى على نحو جميل وقوي التأثير. إذن المبالغة هي انحطاط البلاغة.
* * *
آسادُ الشرى. جميعنا أو معظمنا يعرف معنى آساد "جمع أسد"، ولكن كثيرون لا يعرفون معنى "الشَّرَى"، أي الجبل أو الناحية، وهناك من يقول إنه اسم موضع على الفرات تكثر فيه الأُسود، والبعض يعتقد أنه طريق في إحدى مناطق السعودية. وللشرى "الشري بالعامية" معنى آخر يشير إلى طفحٍ جلدي ذي بُثُور وانتفاخات ووذمات حُمْر تثير الحكّة. وحين نقول عن أمر ما أنه استشرى، فإنما نعني أنه انتشر كالشرى على الجلد، ولكن ما من أحد أشار إلى احتمال وجود ترابط بين شرى الأسود وبين طفح الجلد. لا تزال العربية فقيرة في الأبحاث والقواميس التاريخية.
* * *
"البُدُّ" تعني المفرّ والمهرب والمناص، وجمعها أبداد. ولكن الأغلبية الساحقة من الناس على دين آبائهم، ولا يفكرون أبداً في استخدام هذه الكلمة إلا مسبوقةً بنفي "لا بُدَّ". ولأني آبق في اللغة على الأقل، فقد استخدمت كلمة "البُدّ" في إحدى قصائدي مجرَّدةً من لائها:
"وله نخبٌ من البركان في البدِّ الأخيرْ".
* * *
الوعثاء تعني المشَقَّةُ والتعب، وغالباً ما قرأناها مضافةً إلى السفر "وعثاء السفر". أمّا وقد صار السفر ميسوراً بوسائط سريعة ومريحة ونظيفة ومكيَّفة، فقد أخذت "الوعثاء" بالانحسار والانسحاب من قاموسنا المتداول، حالها حال مئات، بل آلاف الألفاظ التي هاجرت من حياتنا أو هجرناها لأنها أصبحت غير قابلة للتداول، أي صارت مثل نقود أهل الكهف.
* * *
كثيراً ما لاحظت الارتباك لدى الأساتذة والطلاب في كيفية لفظ "تاج محل". بعضهم كان يلفظها "تاج مَحْل" بمعنى جدب. لاحقاً عرفتُ أن لفظَها "تاج مَحَلّ" بفتح الميم والحاء وتشديد اللام، وأنها ضريح من الرخام الأبيض، يُعتَبَر جوهرة الفن الإسلامي في الهند. شيده الإمبراطور المسلم السنّيّ المغولي شاه جهان (1630 - 1648) ليضم رفات زوجته الثالثة التي اسمها "ممتاز مَحَلّ".
المناهج المدرسية الوطنية والقومية قدمت لنا المغول في أسوأ صورة، فكيف ستقدمهم المناهج الإسلامية لو آل إليها الأمر؟
* * *
إن إشكالية مصطلح "العلمانية" عربياً، هي في الواقع أبعد وأعمق مما يبدو على السطح، ذلك لأن كثيرين يعتقدون أن العلمانية مشتقة من "العِلم" بكسر العين، وهناك بعض من أولئك الكثيرين يفترض أن العِلم يخلخل الإيمان، وعليه لا بدّ أن العلمانية كذلك. وحقيقة الحال أن "العَلمانية" بفتح العين ليست مشتقّة من العِلم، بل هي مشتقة من "العَلم" بفتح العين، والعَلم قاموسياً بمعنى العالَم أو الدنيا. وهذا ما لا تعرفه نسبة ساحقة من العرب، وبالتالي قد تكون ترجمتها إلى (العالَمانية أو الدنيوية) أقل إرباكاً وأكثر إدراكاً لها بوصفها منهجاً فكرياً يرى أن الضوابط والقوانين وتنظيم العلاقات والتفاعلات البشرية مع الحياة، ينبغي أن تقومَ على أساس دنيوي لا روحاني، وذلك من أجل ضمان وقوف جميع المواطنين على قدم المساواة في الحقوق والواجبات مهما تعددت الاعتقادات.
في اللغات الأخرى لا مشكلة في فهم العَلمانية ولا في اشتقاقها، فالعِلم في الإنكليزية مثلاً science، والعلمانية secularism. أما في العربية فإن لدينا مشكلة في فهم المعنى المقصود، ومشكلة في معرفة إن كان أصل الاشتقاق العَلم أم العِلم، وثالثة الأثافيّ كذبة ربط العلمانية بالكفر.