قبل أشهر، هاتفني صديقي الناقد ح، ليخبرني عن مقال كتبه وتردّد في نشره. المقال يهجو المراجعات الجديدة الدارجة، التي نصادفها في اليوتيوب والبودكاست والغودريدز وبرامج العشر دقائق الكوميدية ووسائل التواصل الاجتماعي... إلخ. أنا، أيضاً، احترتُ في نشر المقال. ولكنني، على العكس من صديقي، لا أعتقد أن هذه المراجعات فارغةٌ تماماً ومسيئة كلياً. على أية حال، اتفقنا أن أرسل المقال للنشر، ونترك اسمه كاتبه مغفلاً. ربما، سيتفق البعض مع صديقي الناقد؛ وربما، سيخالفه الرأي العاملون في مجال الإعلام والمنفتحون على التطورات المتسارعة.
هنا المقال كاملاً، لم أعدّل فيه شيئاً ولم أخفف من لهجته. فقط أضفتُ العنوان أعلاه، وصحّحت رسم كلمتين.
أتمنى لكم/نّ قراءة مفيدة وممتعة، إن شاء الله.
أولئك الذين يراجعون الكتب، على الأغلب، لا يقرؤون الكتب التي يراجعونها، بل يكتفون بترديد الكليشيهات الجاهزة: إن كانت الرواية سياسية، فالكاتب يفضح/ يعرّي/ يكشف بنية النظام الفاسد؛ وإن كانت الكاتبة شابة، فهي تتمتع بلغة خاصة، وعبير مختلف، ودفقة شاعرية عطِرة؛ وإن كان الكاتب مكرّساً، فهو يبني على منجزه الضخم، ولكنه، في نفس الوقت، يفاجئنا؛ أما إن كان شاباً، فهو يصدمنا، وينسج من تجربته الخاصة الغضة خيوطاً غير مرئية...
يستطيع المرء أن يضيف مجموعة كليشيهات لطيفة أخرى يمكن استخدامها في أية مراجعة، مهما كان نوع الكتاب الأدبي: يكشف الكاتب المستور، يوثق الكاتب نضال الناس، يشرّح الكاتب بمبضعه أوجاع المظلومين؛ أو: تجعلنا الكاتبة نعيش أجواء غرائبية تدفع بنا إلى تخوم الأسئلة الغامضة؛ أو: يتلاعب الكاتب باللغة بدقة ومهارة، ليفتح عالماً جديداً للكلمات، ويسائل التاريخ.
هذه الجمل المبتذلة في المراجعات، تدفع القارئ الحصيف إلى تجنب قراءة الكتاب الكاشف الموثّق الفاضح المُعرّي الغرائبي المتلاعب باللغة. وعلى العموم، كل هذه الصفات سلبية، على العكس مما يظن المراجع الشطّور.
يُضاف إلى أصحاب الكليشيهات المختصون بالتلخيص: يلخصون الكتاب، وصلى الله وبارك. ولا كلمة نقدية، لا سياق، لا مزحة، لا تعليق على اللغة أو المضمون أو النقص أو الإضافة أو أي شيء يثير المرء؛ كأننا أمام وظيفة مدرسية كسولة، تنجح دوماً في تخطي الامتحان ببلادتها!
وهناك الذين لا يتطرقون إلى الكتاب الذي يراجعونه، بل يقصون علينا نمائم عن الكاتب أو الكاتبة. هذا الصنف، بلا مبالغة، الأسوأ على الإطلاق: الأسوأ أخلاقياً، لأنه يجرد الكتابة من كل قيمة معنوية لها.
بعد ذلك، تجد المراجعات الأشهر، وهي مراجعات شخصية مكتوبة من أجل العلاقات العامة، أي من أجل أن يحسّن المراجع صلته بالمؤلف، أو من أجل أن يحطّم سمعة المؤلف لأنه ينتمي إلى شلة معادية أو يطرح أفكاراً يختلف معها المراجع.
على العموم، عدد الذين يحطّمون الكتاب بحقد أقل من عدد المدّاحين، ولكنهم موجودون وفاعلون، ويكيلون للكتاب الذي يراجعونه كل صفات الكتابة السيئة، بدون ذرة رحمة، كأنهم يرجمون الشيطان بعد رحلة حج في صيف حارق، مما يجعلك تشكّ بأن الأمر بأكمله قائمٌ على أحقاد شخصية، أو تعويض عن فشل شخصي. لماذا، يا أخي، تكتب كل هذه البذاءات، طالما الكتاب لا أهمية له إطلاقاً برأيك؟
أما أكثر المراجعات فتنتمي إلى صنف الذين يكيلون المدائح، كأنهم يعيشون في العصور الوسطى مع جرير والفرزدق: كل كتاب يراجعونه، بلا استثناء، استثنائي، وفتْح في عالم الكتابة، ويؤسس لمرحلة جديدة، وما بعده ليس كما قبله: هؤلاء يسترزقون على باب الله، وأنا أحبهم أكثر من كل الأصناف الأخرى: كائنات بسيطة حبّوبة لطيفة، لا تعنيها الثقافة في شيء، وتسعى لحصد ثمار المدائح كي تعيش، وكي تلتقي بالمشاهير. ولو كان المراجع نفسه مؤلفاً روائياً أو شاعراً، لتحولت المراجعات على يده إلى الوسيلة المثلى في باب العلاقات العامة، ليبني شبكة علاقات ممتازة، تساعده لاحقاً في حصد الجوائز وحضور المؤتمرات والورشات واللقاءات التي لا تعدّ ولا تُحصى ولا تُفيد.
ومؤخراً، ظهرت مراجعات موقع "غود ريدز Goodreads"، وهي مراجعات شخصية انطباعية، بدون أبعاد نقدية، ولكنها مفيدة جداً لقياس الحالة النفسية للمراجع، وفهم أسباب نجاح الكتب الأكثر مبيعاً. تساعد هذه المراجعات على فهم أبعاد دمقرطة الثقافة في هذا العالم غير الديمقراطي.
وهناك هذه الأيام أشخاص يخرجون علينا في بودكاست أو يوتيوب أو تويتر، ليراجعوا كتاباً في دقيقتين، أو ثلاثة على الأكثر؛ والله العظيم لا أبالغ يا إخوتي الكرام، حماكم الله من هذه الشرور والتجارب. يتكلمون بسرعة شديدة، كأن المخابرات السورية تلاحقهم، أو القط توم يريد القبض على الفأر جيري في معركة لا تنتهي. تترافق سرعة الكلام المَرَضيّة مع مزحات عجيبة كأنك في سهرة في غُرْزة، وابتسامات عريضة جداً جداً، كأنك في سيرك للمبتدئين. هكذا، تصبح مراجعة الكتب جزءاً من "عصر السرعة"، جزءاً من المزحة السمجة التي تقولب كل شيء كي يناسب خفّة العصر التي لا تُحتمل. وقبل أيام قليلة، أخبرني ناشرٌ أحترم عمله، بأنه يفضّل "تويتة" لمؤثّر يتبعه آلاف مؤلفة من الفتية، على خمس عشرة مراجعة قيّمة لن يقرأها أكثر من عشرة أشخاص.
وهذه الأمور ليست متساوية في قيمتها: التلخيص السريع أعمق من انطباعات "الغودريدز"، وهذه الأخيرة أعمق وأنضج من المراجعة النقدية الشتّامة أو المدّاحة. أما مراجعات وسائل التواصل الاجتماعي والبودكاست واليوتيوب والتويتر، بالطبع، فتقع خارج أي تقييم عقلاني، لأنها تقتصر على الرغبة بالربح السريع.
الصحافة الثقافية بحاجة ماسّة إلى مراجعات من نوع مختلف. وتغيب هذه المراجعات المنتظمة الثقيلة التقليدية قديمة الطراز عن معظم -أو كل- المواقع والصحف الثقافية العربية، كأنها غير معنية بالثقافة التي تتعيّش منها وتعيش لها. وأكثر من مرة، قيل لي إن الأمر متعب، ومربك، و"موضة قديمة". ولكن، في الحقيقة، المراجعات عصب الثقافة، وبدونها، تتشابه كل الكتب، كأنها كومة مشروبات غازية في مطعم وجبات سريعة، غير صحية وسيئة المذاق، أعدتها آلات ميكانيكية على عجل، في مطابخ عصرية متطابقة!