لا أدري كيف تعلَّمتُ، ولكنّي في المحصّلة تعلمت، أن لا أستهتر بأحدٍ أو أمرٍ حتى لو كان نقطةً صغيرة. ألا ترى أن الفارق بين الأخلاق الرفيعة والأخلاق الرقيعة هو نقطة لا أكثر؟
ما يصح في الحروف العربية يصح بهذه الطريقة أو تلك في اللغات الأخرى أيضاً.
* * *
كان أستاذ اللغة العربية يشرح لطلابه كيفية استخدام قواميس اللغة العربية حسب الجذر اللغوي، وبالحرف الأول من الكلمة أم بالحرف الأخير أم حسب مخارج حروفها من الحلق كما في معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي.
بالمصادفة مرّت كلمة "الوَخوَاخ"، فقال الأستاذ:
الوخواخ يا أبنائي هو الرجل الكسول، الثقيل، الجبانُ، الضَّعيف، المسترخي البطن، الكثيرُ اللحم، وهو العنِّين أيضاً.
رفع أحد الطلاب سبّابته استئذاناً، ليقول:
عرفنا معنى الكلمة يا أستاذ، ولكني أتساءل عن سبب تسمية هذا النوع من الرجال بالوخواخ.
ولأن العرف في مجتمعاتنا لا يجيز للأستاذ أن يقول لا أعرف، راح الأستاذ يبأبئ ويتأتئ ويفأفئ إلى أن لمعت الفكرة في ذهنه فقال:
تساؤلك ذكي يا بنيّ. لقد سمّوه الوخواخ لأنه يظل يقول واخ وآخ، واخ وآخ، واخ وآخ، حتى صار جلياً أنه الوخواخ.
* * *
مـن راقـب النـاس مـات هـمَـاً
وفـــــــــاز بالـلَّـــذة الجَســـورُ
هذا البيت للشاعر سَلَم الخاسر، لطالما اعتبرناه ذمّاً للفضوليين الذين يراقبون الناس في كل شاردة وواردة. ولو كان الأمر كذلك لأصبح معنى الشطر الثاني مقطوعاً عن الأول. من راقب الناس تعني هنا أنّ من راقب ردود أفعالهم أو راعاهم أو اهتم بما سيقولون، فسيقتله الهمّ، لذلك كن جسوراً ولا تُعِر بالاً للقيل والقال، فتفوز بالمتعة والسعادة.
* * *
الاشتقاق الأصغر يتضمن الكلمات التي تشترك في نفس الجذر مع ترتيب الحروف، من قبيل الجذر "س ل م" واشتقاقاته: سليم وسالم ومسلم وسلامة واستسلام إلخ. الاشتقاق الأكبر يشمل تقاليب حروف الكلمة من مثل جَبَرَ - جَرَبَ - بَرَجَ – بَجَرَ- رَبَجَ – رَجَبَ.
ألا يمكننا على هذا الأساس أن نعتبر التفكير والتكفير اشتقاقاً أكبر، أو نقيضين يستدعي أحدهما الآخر؟
* * *
في المسرحية الغنائية للأخوين رحباني، تقول فيروز:
(يقلّا بجيب الريـــــح تا تلعب معك
وبرسم عيونك عالشتي تا تكبري).
هذا الكلام من عيون الشعر وآذانه و"صماصيم" قلبه وإيقاعاته، ولكن بيت القصيد الذي أريده هنا ليس هو الشعر وجمالياته، بل زاوية النظر إلى العلاقة بين الفصحى والعامية.
لو فكّرتم في تحويل الشطرين السابقين إلى الفصحى، فلا شك أنكم ستجدون البدائل الفصيحة لمفرداتهما بكل سهولة، غير أنكم ربما تتوقّفون فليلاً أو كثيراً عند بديل "تا" تلعب، و "تا" تكبري.
لا بأس. اكتبوا "تا" بألف مقصورة هكذا "تى"، ثم فكِّروا ببديلها في الفصحى.
والله وتا الله وبالله أنها "حتى" في أحد تجلياتها وحتحتاتها، ولكن بعد أن اختطفنا منها حرف الحاء، والاختطاف يحدث "حتى" بين البشر أنفسهم، وبالتالي فمن الطبيعي أن يحدث في اللغات وأحرفها وتراكيبها.
* * *
الأفعال الثلاثية المجرّدة في العربية من قبيل (كَتَبَ، ذَهَب، كَذّبَ) تسير على وزن واحد "فَعَلَ"، غير أن أوزان المضارع منها متباينة ولا تخضع لقاعدة، فقد يكون الحرف الثالث في مضارعها بالضمّ أو بالفتح أو بالكسر (يكتُب، يذهَب، يكذِب)، وليس لذلك من قاعدة.
وهناك أفعال يجوز في مضارعها ضم وكسر ثالثه "يخفِق يخفُق" أو فتح وكسر ثالثه "ينطَح ينطِح".
ولكن في مضارع "خَنَقَ" لا تجيز القواميس إلا ضمِّ ثالثه "يخنُق"، ومثله فعل "يخلُق" بما ينطوي عليه معنياه من التباس، أعني التباس معنى الخلق والإبداع بمعنى الاهتراء والبلى. لا منطق في أوزان مضارعات الأفعال الثلاثية ولا ناظم ولا قواعد لها سوى أن أجدادنا تناقلوها عمن سبقوهم عبر السماع. أمّا عندي وفي منطقي فإن اختلاف حركات أفعالها المضارعة جائز ما لم يتغير المعنى، وهذا ينطبق أيضاً على جميع حالات الممنوع من الصرف، إذ لا يتغير معناها بالصرف وعدمه، وبالتالي فإن ما يجوز للشاعر في هذا الحقل، يجوز للناثر أيضاً، وحتى لكاتبي الحُجب والعرائض والرسائل الغرامية.
* * *
أعدمَ الرجلُ = صار فقيراً، أي حاله أقرب إلى العدم.
أعدمَ الرجلَ = نفَّذ فيه حكم الموت قِصاصاً.
الفعل هو نفسه في الجملتين، لكنه في الأولى "يلزم حدوده"، وفي الثانية "يتعدّاها فيعتدي" على مفعول به.
اللغة منطق، فمن تعثّر منطقه تعثرت لغته.
* * *
حسب تاريخ الأمويين الذي كتبه العباسيون لاحقاً، فإن الحجَّاج بن يوسف الثقفي، والي الخليفة عبدالملك بن مروان على العراق سنة 75 هجرية، بدأ خطبته لأهل الكوفة بالقول:
أنـا ابـن جَـلا وطلَّاعُ الثنايـا
متى أضعِ العِمامة تعرفوني
البيت للشاعر سُحيم بن وَثيل الرياحي، ولم أكن أفهم معنى "الثنايا" إلى أن كنت مرة في طريق العودة من دمشق إلى حمص، وسمعت الناس في الباص يتحدَّثون بقلق عن اقترابنا من "طلوع التنايا"، ويدعون الله أن ينجينا منه ويكتب لنا السلامة. كان بالفعل طلوعاً قاسياً ومليئاً بالثنايا والتعرّجات وعلى يمينه وادٍ غير ذي زرع. هناك من يسمي هذا الطلوع "محور الموت" لكثرة ما مات فيه من مسافرين. حينها فقط فهمت ما كان يرمي إليه الشاعر في البيت الذي استخدمه الحجّاج.
* * *
تبدو لي عُرَى العلاقة بين اللغة والنطق والمنطق والتفكير غير قابلة للفصم إلا نظرياً. المنطق في اليونانية مأخوذ من كلمة logos ، أي "الكلمة" أو "ما يُنطَق به»، وتعني أيضاً الفكر أو العقل. وهناك من اعتبره آلية أو طريقة تعصم الذهنَ من الخطأِ في الفكر. وهكذا فإن استقامة اللغة شرط لازم، وإن كان غير كافٍ، لاستقامة المنطق والعقل والتفكير، والعكس صحيح.. إذن استقيموا إلى اللغات، وسوّوا صفوفها وأنساقها ومنظوماتها، أثابني وأثابكم الله.