"بخاطركم".. كلمة تتردد كثيراً في أوقات الرحيل والوداع. كنت أسمعها وأقولها وأنا أفهم معناها العام، ولكني لا أعرف بالضبط ما هو أساسها اللغوي، إلى أن سمعتها بطرق وصيغ واشتقاقات متعددة عند البدو، فعرفت أنها اختصار لقولهم: نغادركم أو نودعكم بخاطركم أو بطيب خاطر منكم، أي برضاكم أو برخصة منكم، ذلك لأن الضيف عند العرب لا يغادر ما لم يستأذِن ويؤذَن له.
وفي العزاءات يقولون "خلونا نروح ناخد بالخاطر"، أي بالرضا والمراضاة والمواساة، وهي صيغة قريبة إلى قولنا "أخذ فلان بيد فلان" أي أمسك بيده وساعده ودعمه في أمر ما، حتى رضيَ وطاب نفْساً وخاطراً، ومثلها أو قريب منها "أخذ بخاطره"، أي وقف إلى جانبه وسانده وتضامن معه.
والخاطِرُ في الأصل هو ما يَخْطُرُ في القلب أو الذهن من أمور، ولكنه صار في معناه المجازي هو القلب أو النفس.
* * *
عنتر هو، في أحد معانيه، الذباب الأزرق، وعنترة تعني الذبابة الزرقاء. هذا لمن يتخيَّلون أنّ عنتر أو عنترة بن شدّاد اسم ذو دلالات سامية.
البداهة والواقع يقولان إن المرء، بإمكانياته ومواصفاته وخصاله، هو من يجعل اسمه جميلاً أو قبيحاً وليس العكس.
لا بد أن هناك من سبقني وقال: الناس يصنعون أسماءهم ولا تصنعهم أسماؤهم.
* * *
انْتَسَبَ، أي ذكرَ نسبَه، واسْتَنْسَبَ فلانًا، أي سأَله أَن يذكر نَسَبَهُ، واستنسب الشَّيءَ، أي وجده مناسبًا. لا أدري من هو أول من نقل لفظة "استنساب أو استنسابية" من معناها المعروف إلى معناها الاصطلاحي المتعلق بالتقدير وحرية التصرف " discretion"، ولكن بدلاً من أن يقولوا "فلان عنده سلطة تقديرية مع حرية تصرُّف" أو "فلان ذو صلاحيات" مثلاً، ترجموها إلى "عنده صلاحيات أو سلطات استنسابية"، ويقولون "هذه إجراءات أو سياسات استنسابية"، أي تقديرية، وهلمّوا جرّاً جرّاً بتشديد الراء. والخلاصة أنه إذا كان هذا هو السبب وراء ابتلائنا بمصطلح الاستنسابية، أم هناك أسباب أخرى، فإن ذلك لا يمنعني من القول إنه من أضرط المصطلحات التي سمعتها في حياتي.
* * *
لَئِنْ ضَحِكَتْ مِنْكَ الإِمَاءُ، لَقَدْ بَكَتْ
عَـلَيـْكَ، فَأَعْـوَلْـنَ النِّسَاءُ الحَرَائِـرُ
هذا البيت للشاعر تأبَّطَ شرّاً، الذي توفي قبل الإسلام ببضعة عقود.
وقال عمر بن الخطاب للنساء اللاتي كنَّ يخرجن إِلى المسجد "لأَرُدَّنَّكُنَّ حَرائِرَ"، أَي انه سيجعلهنَّ يلتزمْنَ بيوتهنّ. إذن وصف "الحرائر" لا ينطبق على المناضلات الحُرّات اللواتي يشاركن في التظاهرات مثلاً أو الإغاثة أو يتعرَّضنَ للاعتقال إلخ.
واضح أن الحرائر في ذلك الزمن نقيض الإماء، وكم من النساء اللواتي لسن إماءً، إلا أنهن لسن حُرَّات، بل هُنَّ حرائر أسيرات البيوت، ملحَقاتٍ بالزوج أو الأهل، ومقيدات بإملاءات اجتماعية وأعراف فات أوانها. ورغم انحسار لفظة الحرائر مع انحسار عهود العبيد والإماء، وانتشار ثقافة ومواثيق وقوانين حقوق الإنسان، إلا أن بعض الإسلاميين ما زالوا يحاولون إحياء لفظة "الحرائر" كما لو أنها امتداحٌ، ينطوي ضمناً على ازدراء الجهة المقابلة المتمثِّلة بالإماء. هؤلاء الإسلاميون لا ينتبهون إلى تناقضاتهم وهم يتحدثون عن عظمة الإسلام في حثِّه وتشجيعه على عتق الرقاب ووقف الاسترقاق، ولا يدركون أن وجود الحرائر مقترن ومشروط بوجود الإماء، فإن انتفت الإماء انتفت الحرائر، هذا إذا لم نقل أن هؤلاء الإسلاميين في أعماقهم مع استمرار الرق والعبودية، وأن حال النساء المعجبات بوسمهنَّ بالحرائر أقرب إلى حال الإماء منهنَّ إلى حال الحُرَّات.
باختصار فإن كلمة الحُرَّات تحيل إلى الحرية، في حين أن كلمة الحرائر تحيل إلى الحرير، وقد يكون الحرير قيوداً.
* * *
"رائع" تعني، في الأصل، مخيف أو مُرعِب، ولكن المجاز ازدلف بالمعنى فغدا مديحاً. ولأننا تربَّينا على المعنى المجازي لـ "رائع"، فقد كنتُ أستغرب كيف يكون "الهجر رائعاً" كما في قول الشاعر جميل بثينة:
(لا تحسبي أني هجرتك طائعاً = حدثٌ لعمرك رائع أن تُهجَري).
القصة وما فيها أن "رائع" هنا ليست بالمعنى المجازي، بل بمعناها الحقيقي المتعلق بالرعب.
* * *
ثمة كلمات تلفت انتباهي وتثير اهتمامي أكثر من غيرها، ربما بسبب جرسها الموسيقي لا غير، وربما لالتباسات معانيها، أو لغنى ظلالها وإيحاءاتها، أو لهروبها من قاموس لغة قديمة. من بين تلك الكلمات واحدة لطالما سمعتها في طفولتي أثناء شجارات الكبار وتدخّلات أهل الخير "المحجِّزون" من أجل تهدئة الخواطر والحيلولة دون وصول أحد المتشاجرين إلى الآخر. في حالات كهذه كثيراً ما كنت أسمع أحدهم يهدِّد آخر قائلاً: (بسيطة.. إذا إيدي بَلّتْ فيك يوم والله لفرجيك نجوم الظهر).
وما كانت التساؤلات لتهدأ أو تجد جواباً أو تجاوباً، إلى أن وقعتُ على معلقة طرفة بن العبد وقرأت قوله:
(إِذَا ابْتَدَرَ القَوْمُ السِّلاحَ وجَدْتَنِـي = مَـنـيْـعـاً إِذَا بَـلَّـتْ بِـقَـائِـمَـهِ يَــدِي).
أما ما علاقة البلّ والبلل بالتمكّن والظفر، فلا شك أن هناك ازدلاف نحو المجاز، فحين نقول "بلَّ الشاربُ ريقَه نعني أنه شرع بإطفاء عطشه، أي أدرك حاجته عبر الظفر بالماء الذي كان ينشده.
بلَّل الله مجازاتنا في الزمان والمكان واللغات.
* * *
أنا ابن ثقافة علَّمتني أن سيطرة الآخرين على بلادنا تسمَّى غزواً واحتلالاً، وأن سيطرتنا على بلاد الآخرين تسمَّى فتحاً رحيماً. لذلك لم يكن في وسعي سوى ابتسامة دامعة حين، ذات اعتقال، قرأتُ على "الكلبشة" التي في معصميَّ عبارة إنكليزية مفادها أنها صُنِعتْ في اسبانيا:
made in Spain
* * *
المجاز أقوى وأشمل وأطول عمراً من الكلام العادي أو القاموسي، وحسبك دليلاً عبارة "لله درُّك" التي هي نتاج بيئة رعوية، فهي ما زالت مستخدمة رغم انتشار الزراعة التي تقتضي "لله بُرُّك أو قمحك"، ورغم عصر النفط الذي يقتضي "لله نفطك".
