ضجيج العالم لا يتوقف.
في سوريا، يستخدمون كلمة العالم لتدل على البشر. على سبيل المثال، يقولون: "ما في عالم هون"، أو "كل العالم بتعرف". كأن العالم لا يوجد إلا بوجود البشر، كأنه لا يكون إلا بهم. والعالم يعني حركة مستمرة، دائمة، لا تهدأ. لا يكاد المرء يرتاح منه، كي يتأمل نفسه، ويتأمل العالم.
ومع حمى المشاعر الملتهبة والمتناقضة، والتغير الهائل الثوري، وهروب أبله يليه فتح مفاجئ، وانقلاب الآية بين ليلة وضحاها، تعلو الضجة بشكل غير مسبوق. سيولة أفكارٍ، ومشاعر، وذكريات، ومخاوف. لا شيء على حاله. لا شيء يبقى حتى الصباح. يعيش الناس على إيقاع الخوف، والانتقام، والتشفي، والغضب.
باستثناء الشيوخ، الكل يشك بالكل، والأحداث لا تمهل كي يفكر المرء بمصيره، وبخطواته القادمة.
ضجيجٌ يضج بنزق، كصوت الكهرباء: أزيزٌ يتواتر بشكل مفجع.
لا يستطيع المرء أن يفكر، وهو يصرخ: يصرخ على الآخرين، وعلى نفسه- في نفسه.
وحين يعم الصراخُ العالم، لا يبقى للمرء إلا أن ينسحب قليلاً، أو كثيراً لو أراد، إلى الداخل.
كما فعل سيد هارتا، المعروف ببوذا.
وقد صوّر البوذيون سد هارتا بأشكال متعددة. ومهما اختلفت هذه الأشكال، يتجلى بوذا فيها كلها مطمئناً، وقوراً، قابضاً على زمام نفسه.
لا يوجد تماثيل أخرى تصوّر القدرة البشرية المكتملة كتماثيله - لا الهندوسية، ولا المسيحية، ولا الغرب الحديث- القدرة البشرية في أن يتنفس الإنسان بصبر، والعالم يشتعل حوله.
لا يستطيع المرء أن يفكر، وهو نفسه يصرخ؛ ولكنه يستطيع أن يفكر، والعالم يشتعل حوله.
أشهر تصوير لبوذا، عندما يجلس في وضعية التأمل (تسمى اللوتس)، رجلاه تحته، وباطن القدمين إلى أعلى. كما اهتموا بحركة اليدين؛ إذ تقول اليدان ما لا يقوله اللسان. لكل حركة معنى، أطلقوا عليها اسماً خاصاً، مستمداً من السنسكريتية القديمة: "مُدرا".
أحياناً، في "مدرا" التأمل والتفكير، الكفان منبسطان نحو الأعلى. على الأغلب، هذا بالضبط ما أحتاجه اليوم. القليل من التأمل. وهناك أيضاً، الكف المرفوعة إلى أعلى، واعتقد أنها تناسب تمثاله واقفاً. فيها يدعونا بوذا إلى الكف عن الخوف، وهذه "مُدرا" الأمان. وأحياناً، وهذا ما يجعله يشبه الأنبياء، يضع يده اليمنى، أو بالأحرى، أطرف أصابعها، على الأرض، وهو جالس بوقار في وضعية اللوتس؛ وهذه "مُدرا" شهادة الأرض.
تشهد الأرض أنه استنار: أي أنه قادرٌ على التخلص من الضجيج، ضجيج العالم، وضجيج نفسه.
...
لا يتوقف ضجيج العالم.
للأسف الشديد، لم تصل البوذية إلى بلاد الرافدين أو بلاد الشام. ربما، كانت لتساعد في ضبط الضجة. توقف انتشارها غرباً، فيما أصبح يُعرف اليوم بأفغانستان. ولكن، القليل من أفكارها ربما تسرّب إلى المشرق، وقد ذكرها الكتّاب العرب القدامى. التناسخ، والامتناع عن أكل اللحوم، أشهر ما عُرف به المشرق عندنا. أصبح التناسخ مقبولاً عند طوائف إسلامية شامية منشقة، كالعلويين والدروز. أما الامتناع عن أكل اللحوم، فلم يلتزم به إلا المعري، الذي سخر دوماً من التناسخ.
في البداية، انتشرت البوذية بشكل أوسع من الهندوسية في شبه القارة الهندية، ثم انقلبت الأمور، وتراجع حضورها في الهند والسند. الضربة القاتلة الأخيرة كانت مع وصول طلائع الفاتحين المسلمين، الذين اتسمت بداية فتوحاتهم بعنف قاس (تراجع عنه الفاتحون اللاحقون)، ومنها نهب آخر مدارس البوذية، وصوامعها، في المنطقة. أصبح تماس الإسلام مع الهندوسية، ولم يمتزج بالبوذية. على الأغلب، كان البرامكة بوذيين في الأصل، وقد قدموا خدمات جليلة للثقافة الإسلامية، انتهت بنكبتهم الشهيرة.
البوذية نفسها تاريخها متعدد، ومتنوّع جداً. ويجمع كل فروعها السعي نحو نيرفانا ببوذا، ونحو رغبته في المساواة، في الإيمان بأن كل فرد بشري يحمل داخله نوراً صغيراً خفياً (خصوصاً في مدرسة المركبة الكبرى، التي انتشرت في الصين ثم كوريا واليابان)، بدفاعه عن مقدرة الإنسان على السيطرة على نفسه. مهما كان الضجيج عالياً، والرؤية ضبابية، والمستقبل غائماً، والمشاعر جياشة: مشاعر الانتقام، أو الخوف.
لا يمكن للإنسان أن يتأمل، وهو يبكي، أو يرتجف.
صوّر النحاتون بوذا مستلقياً، في لحظاته الأخيرة، قبل مغادرته عالمنا الأرضي، إلى الأبد. سينجو من دورة التناسخ، وتتحرر روحه. وفي هذه اللحظات، ينتظر، بكامل وقاره، رزيناً، شبه-مبتسم.
بعض تماثيل بوذا المستلقي هائلة الحجم، وفيها يصورون أصابع الرجلين متساوية الطول. في بطن القدم، يظهر دولاب الحياة: علامةً على الطريق، على الدارما.
لا يمكن للإنسان أن يفكر، وهو يبكي، أو وهو خائف، أو هائج.
يستلقي بوذا، على أبواب العدم، وتتسرب منه السكينة، كي نأمن من الضجة.
...
العالم ضجيجه لا يتوقف.
لم أدرس البوذية بجدية، ولم أقرأ من نصوصها الأصلية إلا أقل القليل. ولكنني أتبع بعض آثار إنجازاتها الهائلة، في الشعر الصيني والياباني، في روح ياسوناري كاواباتا، في خطا شوبنهاور وأخطائه، في مفهوم الحديقة الحجرية، في تماثيل بوذا المذهلة النقية.
وفي تلك التماثيل، أكثر من النصوص، أستطيع الوصول إلى بوذا. قد يكون ذلك محرجاً قليلاً، لكاتبٍ يدّعي انه يعيش في الكلمة، أن مهنته الكلمة. ولكن، أليس هذا ما نجحت فيه البوذية: أن يكون تمثال بوذا تجسيداً للمسيرة، للجوهر، للرسالة، للكلمة (أو، للدقة، أن تتجاوز الكلمة - إلى القلب مباشرةً)، لما فعله، ولما أراد منا أن نفهمه؟
ويبدو لي، أن جوهر رسالته يكمن في السيطرة على ضجيج العالم. العالم مكانٌ بائس جداً، فيه المرض، والجوع، والموت. فيه القلق، والشهوة، والذعر. ولكن، يستطيع الإنسان أن يخرج من كل ذلك، لو أراد.
لا يستطيع المرء أن يفكر، والقلق يتناهبه: قلق الماضي، وقلق المستقبل، وقلق الذات.
يغرق المرء في قذارة العالم: الأنانية، وحب الشهرة، والكراهية. وغالباً، يتحوّل هو نفسه إلى شتّام، ومدّع، ومتشدّق؛ كلما حاول أن يوقف مدّ الكراهية، تراه يغرق فيها: يجدّف كثيراً، ثم يسبح، ثم يختفي في أمواجها المتلاطمة. وفي زمن الأنانية (الليبرالية الجديدة أنانية مطلقة: بحسبها، كل فرد يسعى إلى مصلحته الخاصة، أولاً وأخيراً، بالضرورة)، وفي زمن الانقلابات العظمى (كاختفاء عائلة حاكمة وظهور بديلٍ غامضٍ غير شفيف) لا يستطيع المرء التمييز بين من يجاهد ليكبح الحقد، وبين من يحقد لأنه يجاهد الحقد. تختلط الصور، وتتشابه الأساليب، والعبارات، والشتائم البليغة.
لا يستطيع المرء أن يفكر، والقلق يتناهبه.
في كل تماثيل بوذا، تبدو عيناه نصف مغلقتين: كأنه يراني، ولا تشغله رؤيتي عما يراه هناك، في العالم الآخر. العيون نوافذ: نوافذ إلى العالم، إلى الناس: نافذة المرء إلى الخارج، ونافذة الآخرين -أيضاً- إلى داخل المرء.
وفي سوريا، يستخدمون كلمة العالم لتدل على البشر. على سبيل المثال، "ما في عالم هون". والعالم يعني حركة مستمرة. كأن العالم لا يوجد إلا بوجود البشر.
ولكن، عينا بوذا نصف مفتوحتين: ضجيج العالم لا يصله كاملاً. عينان ساجيتان، تعلّمان أن المرء يفكر، وهو يرى العالم- على أنه، دوماً، يتنصل من ضجيجه، كي يقدر على التفكير، على تأمل العالم.
عينان ساجيتان، والعالم ضجيجه لا يعنينا، أمامهما!